الانتفاضة الشعبية، التي شهدتها العديد من محافظات تونس احتجاجاً على البطالة وتردي الأوضاع الاجتماعية، لا تزال تعيش مرحلة تمدّد يظهر أنها أبعد من حركة مطلبية، بل ثورة على مرحلة كبت سياسي مستمرة منذ عام 1987
تونس ــ سفيان الشورابي مشاهد فظيعة وشهادات مثيرة نقلتها مقاطع فيديو روّجت لها أخيراً «اللجنة المحلية لمتابعة الأضرار» التونسية في إحدى مدن محافظة سيدي بوزيد (210 كيلومترات جنوب العاصمة تونس)، عن ممارسات رجال مكافحة الشغب أثناء قمعهم لاحتجاجات أهالي مختلف مدن وقرى تلك المحافظة.وقامت القوات الأمنية في هذه المنطقة، التي تشهد احتجاجات دخلت أسبوعها الثاني، بمداهمات واسعة النطاق لمحالّ ومنازل أهالي السكان، وأتلفت معداتهم ونهبت بضائعهم.الصدامات، التي سقط فيها قتيل واحد برصاص رجال الحرس الوطني وأدت الى توقيف عدد غير محدد من المواطنين، لا تزال متأجّجة، إذ نُظّمت أمس، مسيرة حاشدة جابت شوارع مدينة سيدي بوزيد، ردّد فيها المحتّجون شعارات، مثل «واجب حق التشغيل»و«التشغيل استحقاق يا حكومة الفساد».كذلك نفّذت مجموعة من الشباب أصحاب الشهادات العليا والعاطلين من العمل، اعتصاماً أمام مبنى معتمدية مدينة علي بن عون، المجاورة «من أجل المطالبة بحقهم في الشغل». وشارك في ذلك الاعتصام عدد من أهالي المنطقة مطالبين بإطلاق سراح الموقوفين ورفع الحصار الأمني المفروض على مدينتهم.التجمّعات الشعبية نشطت أيضاً في مدن أخرى، مثل القصرين وجرجيس وبن قردان وفرنانة وسوسة ونابل ومدنين وصفاقس وقفصة وأم العرائس والرديف، جوبهت جميعها من طرف الشرطة.هذه التحركات، كشفت عن عيوب كبيرة في برامج التنمية الاقتصادية التي تتّبعها الحكومة التونسية. فمحافظة سيدي بوزيد التي انطلقت فيها الاحتجاجات، يقطنها قرابة 400 ألف نسمة، بينهم نحو 42 ألف يعيشون تحت خط الفقر، حسبما أوردت دراسة وضعها الاتحاد العام التونسي للشغل. وتبلغ فيها نسب البطالة أرفع مستوياتها نتيجة غياب منشآت سياحية ضخمة أو منصات ومناطق صناعية توظف طالبي العمل.أسباب كافية تدفع السكان إلى التظاهر بعدما فقدوا الثقة في مؤسسات الدولة في تشغيل العاطلين من العمل والتقليص من حدّة الفقر.من جهته، ذكر المتحدث باسم لجنة المواطنة والدفاع عن ضحايا التهميش في سيدي بوزيد، عمر الزعفوري، لـ «الأخبار»، أنّ السلطة سخّرت قرابة 2 مليار دولار كاعتمادات تنموية لفائدة تلك الجهة منذ سنة 1987 «لا يعرف شيئاً عن آليات صرفها»، طارحاً مسألة الفساد الإداري والمالي الذي ينخر بقوة الجهاز الإداري التونسي. وقال «من المهم أن تحاسب السلطات جميع المسؤولين الذي اختلسوا تلك الأموال قبل الحديث عن برامج تنموية جديدة».والثابت أن الشعارات المطالبة بتحسين الوضع الاجتماعي المرفوعة من طرف المحتجين لا تخفي المضمون السياسي الذي يقف وراء تحركاتهم، فللمرة الأولى مرة منذ تولي زين العابدين بن علي سدة الحكم في 7 تشرين الثاني 1978، يردّد التونسيون شعارات مناهضة لرئيس الدولة ولأطراف من أقاربه. فخلال التظاهرات رفع المئات من الغاضبين شعارات «التشغيل استحقاق يا عصابة السراق» و«التشغيل مش مزية يا عصابة الطرابلسية»، في إشارة الى عائلة زوجة الرئيس المتنفّذة ليلى طرابلسي. فمن النادر أن يُجهَر بمواقف صريحة ضد أقارب عائلة الرئيس الذين يتمتعون بنفوذ واسع النطاق، ويسيطرون على مفاصل الاقتصاد الوطني.ولتبرير العنف الذي لجأت إليه قوات الأمن ضد المواطنين، قالت وزارة الداخلية، إن المتظاهرين اقتحموا الممتلكات العامة وأضرّوا بمنشآت حكومية، لكن فاتها الحديث عن غياب تام للأحزاب السياسية وللجمعيات المستقلة في أداء دورها على تأطير المواطنين ومنع حدوث أي انفلات. ويُستشف ذلك من عمليات التضييق والمحاصرة التي تقول أحزاب المعارضة إنّ السلطة تمارسه ضدها. توصيف ينسحب أيضاً على قطاع الإعلام المحلي الذي غاب في البداية عن مواكبة الأحداث الجارية في المنطقة، قبل أن تفتح بعض الصحف صفحاتها بصورة فجائية لنقل المستجدات الحاصلة، لكن هذه المرة بصورة موجّهة تحيل للوهلة الأولى أن الوضع يسير نحو التهدئة. فصحيفة «الشروق» المقربة من السلطة نقلت مثلاً في عدد يوم أمس، خبر إيقاف عدد من المسؤولين المحليين، وفسحت كذلك المجال للتهجم على من نعتتهم بالمناوئين الذين يقومون بالركوب على الحدث وتهويل الأمور.بل إنّ بعض الأحزاب، التي تؤدّي دور المجمّل لقمع السلطة، غابت كلياً عن إسناد المحتجّين، ونشرت بيانات إعلامية تتهجّم على قناة «الجزيرة» الفضائية التي تكفلت بتغطية شاملة لأنباء الغليان الشعبي أمام صمت التلفزيون الحكومي.ووصف الأمين العام للحزب الاجتماعي التحرري، منذر ثابت، هذه التغطية بأنها «حملة إعلامية مشبوهة وأهداف تتعارض مع خدمة المواطن». أما الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية، محمد بوشيحة، فقال «نحن متأكدون أن مزاعم الجزيرة وبعض وكالات الأنباء التي حذت حذوها قد باتت مكشوفة أمام الرأي العام الوطني وكل القوى الوطنية والمتمسكين بالمقاربة الموضوعية من أصدقاء تونس في الخارج». وأصدر حزب الاتحاد الديموقراطي الوحدوي، بياناً قال فيه «تبيّن لنا أنّ قناة الجزيرة اختارت التعامل في التعليق على الأحداث على جهات معينة معروفة بانتماءاتها السياسية، أي إنها ليست محايدة في نقل الحدث، بل وضعت نفسها طرفاً في معادلة اخترقتها هذه الأطراف رغم محدودية فعلها ميدانياً وذلك بالتهويل والتوظيف السياسيين».ورأت عضو مجلس النواب، عزيزة حتيرة، أن قناة «الجزيرة» «تبحث دوماً بل تعيش من التهويل ومن تضخيم الأحداث كي تستقطب المشاهد الذي يميل الى الإثارة». وأضافت إن القناة القطرية «تعتمد على شهود عيان مجهولين وعلى مراسلات عن بعد وعلى لقطات منشورة على الإنترنت من جانب هواة ومجهولة المصدر».حملة التعتيم الإعلامي لم تعد مفيدة في ظل تعاظم دور الإنترنت، الذي تحول إلى وسيلة إعلام أكثر صدقيةً وقرباً من الواقع، وشهد فعلاً بروز ما أصبح يسمى «الصحافي ـــــ المواطن». فغالبية الأحداث الجارية نقلتها عدسات الهواتف المحمولة وكاميرات التصوير الخاصة المملوكة من طرف المواطنين.ولا شك أن «الخضة» التي تهز بنيان الحكومة التونسية الآن لها العديد من الدلالات، أهمها أنها أوقفت النداءات اليومية المطالبة بتنقيح الدستور التونسي الذي يمنع الرئيس الحالي من مواصلة الحكم، بغاية الترشح في انتخابات سنة 2014، فانتظار اتخاذ تغييرات جوهرية لتحقيق الديموقراطية الحقيقية الغائبة عن تونس منذ استقلالها.
بن علي يتوعد بالحزم: متطرفون مأجورونبلغت الاضطرابات المطلبية في تونس حداً دفع بالرئيس زين العابدين بن علي إلى الظهور علناً أمس في خطاب نقل عبر شاشات التلفزة مباشرة لتأكيد مجموعة من النقاط، في مقدمتها «أن ما اتخذته الأحداث من أبعاد مبالغ فيه بسبب الاستغلال السياسي لبعض الأطراف»، مضيفاً أن «لجوء أقلية من المتطرفين والمحرضين المأجورين ضد مصالح بلادهم إلى العنف والشغب في الشارع وسيلة للتعبير أمر مرفوض في دولة القانون مهما كانت أشكاله».وقال بن علي إن «بعض الأطراف لا يريدون الخير لبلادهم ويلجأون إلى بعض التلفزات الأجنبية التي تبثّ الأكاذيب والمغالطات دون تحرٍّ، بل باعتماد التهويل والتحريض والتجني الإعلامي العدائي لتونس». وأضاف: «إننا نقدّر الشعور الذي ينتاب أي عاطل من العمل، وخصوصاً عندما يطول بحثه عن الشغل وتكون ظروفه الاجتماعية صعبة وبنيته النفسية هشّة، ما يودى به إلى الحلول اليائسة ليلفت النظر إلى وضعيته. نحن لا ندخر جهداً لتفادي مثل هذه الحالات بالمعالجة الخصوصية الملائمة».وتابع بن علي: «إن البطالة شغل شاغل لسائر بلدان العالم المتقدمة منها والنامية ونحن في تونس نبذل كل الجهود للحد منها ومعالجة آثارها وتبعاتها، وخصوصاً بالنسبة إلى العائلات التي لا مورد لها. وستبذل الدولة جهوداً إضافية في هذا المجال خلال المدة القادمة».وقال بن علي: «لقد دأبنا منذ التغيير على تكريس الحوار مبدأً وأسلوباً للتعامل بين سائر الأطراف الوطنية والاجتماعية حول القضايا والمستجدات التي تطرح أمامنا. ولا يمكن بأي حال من الأحوال رغم تفهمنا أن نقبل ركوب حالات فردية أو أي حدث أو وضع طارئ لتحقيق مآرب سياسية على حساب مصالح المجموعة الوطنية ومكاسبها وإنجازاتها، وفي مقدمتها الوئام والأمن والاستقرار، مشدداً على أن «لجوء أقلية من المتطرفين والمحرضين المأجورين ضد مصالح بلادهم إلى العنف والشغب في الشارع وسيلة للتعبير أمر مرفوض في دولة القانون مهما كانت أشكاله وهو مظهر سلبي وغير حضاري يعطي صورة مشوهة عن بلادنا تعوق إقبال المستثمرين والسياح بما ينعكس على احداثات الشغل التي نحن في حاجة إليها للحد من البطالة. وسيطبق القانون على هؤلاء بكل حزم». ومع ذلك، جدد بن علي «تأكيد احترام حرية الرأي والتعبير والحرص على ترسيخها في التشريع والممارسة».
العدد ١٣٠٢ الاربعاء ٢٩ كانون الأول ٢٠١٠