كان العصر هو الموعد اليومي للقصف الآتي من المناطق الشرقية. كان على الجميع الاحتماء والوصول إلى بيته أو الملجأ قبل الوقت بقليل. ولأن ساعة الموت دقيقة، كانت الانفجارات تدوّي، وكان الناس يهربون، لكن قلة بقيت في بيروت. كان يقف في مقدمة هؤلاء سليم الحص. الإجراءات الأمنية من حوله تثير الضحك. شباك حديدي خلفه بضعة أكياس من الرمل. لكن الأهم هو سرعة النزول إلى طبقة سفلية لحظة اندلاع الجنون. كان الجميع يغطّ في نوبة من الضحك على نكتة تناسب الروليت الروسية: إذاعة لندن قالت منذ قليل إن السيدة عائشة بكار تعرضت لاعتداء بالقنابل!الذين يعرفونه منذ زمن، صاروا يمرون ولو لإلقاء التحية. كان مشهداً كوميدياً لصحافي يريد منه تقديراً للموقف أو معلومة وصلت من طريق موفد عربي جاء بقصد إطفاء نار بيروت. لكن قلة كانت تجرؤ على سؤاله: لماذا أنت هنا الآن؟الذين لم يحتاجوا إلى السؤال، كانوا أولئك الذين سمعوا طرقات قلبه وهو يمسك بأشيائه الصغيرة، تلك التي على شكل كتاب أو أوراق، وشرائط من الطرب العربي، وما وصله بالصدفة أو بالعناية من صحف ومجلات أجنبية، وهو يبتسم للموت المحيط بكل الجدران. كان يقول لكل المقيمين في المكان، وللزائرين أيضاً، إن الابتسامة أقوى من هذا الجنون.مرّ وقت على توقف العاصفة، لكن القتل الجديد ظل يحوم في الأجواء. صار على السياسيين أن يعلنوا صراحة استعدادهم للبقاء أحياءً في خدمة السلطان، أو تحدّي الموت الآتي عبر شائعة، أو سخرية، أو رشوة، أو دعوة على مائدة اللئام. وكل الذين أحرقوا العاصمة وزواريبها، صاروا يمسكون بالأمر من مقاعد خصصت لهم في القصور.لكن هؤلاء ظلوا يعيشون كابوس الرجل الذي قاومهم، ورفض ابتزازهم، وأدان جرائمهم، وفضح خياناتهم، ورفض كل أنواع رُشاهم، وصار هؤلاء يشدّ بعضهم اللحاف على بعض، وليس لديهم سوى هدف واحد: إعدام سليم الحص.أيها اللبنانيون،هل تعرفون رجلاً ما أخافه العدو يوماً، ولا أغوته المدن المفتوحة على مجهول معلوم، ولا زار أقبية الاستخبارات ولا اكترث بقاطنيها، ولا قبل مساعدة مخالف للقانون؟هل تعرفون مسؤولاً يحب شرطي السير، ويهتم فعلاً لأمر موظف البلدية، ويرفض النطق بالكفر، ولا يقصده مرابٍ أو سمسار أو مزوّر من رجالات المجالس الحاكمة عندنا بكل أشكالها ومسمّياتها؟هل تعرفون زعيماً لم يدخل إلى بيت الفساد على أنواعه وأشكاله وبكل أقنعته، ولم يحرّض جاراً على آخر باسم الله أو أوليائه، ولم يُدر ظهره لكلمة حق يجب أن تقال في زمانها ومكانها؟ثمة أوادم في لبنان، لكن الآدمي الذي أُطلق عليه وصف الضمير بحق، هو وحده سليم الحص.
العدد ١٣٠٢ الاربعاء ٢٩ كانون الأول ٢٠١٠