فداء عيتاني ليت هناك من قيامة لتقوم قبل أن نسمع ونرى حفّاري القبور والمرابين يعظون الناس في حب الحياة، وقبل أن نقرأ للأمّيين الذين أحسنوا الركض خلف باصات الانتخابات ومحادلها المذهبية، وتعلّقوا بها رأساً على عقب بغية الوصول إلى مقاعد الفساد في مجلس الملل اللبناني، وبعدها راحوا يسخرون مما لا يفقهون ولا يعرفون أصله وتاريخه المشرّف.ها هم هؤلاء الذين أتت بهم الصدف، يسخرون ممّا أفرزته ضرورات الحياة. على سبيل المثال المتواضع، فإن رئيس حكومتنا الذي رمت به الأقدار ليرث والده في مقعد رئاسة بلادنا، حين جلس في اجتماع رسمي منذ أشهر، التفت ليقول: «ربما هذا الحديث لا يعجب بعض اليساريين هنا» ونظر إلى الوزير شربل نحاس وابتسم له إحدى صفراوات الابتسامات التي يتقنها. طبعاً، نحاس أفهم الشاب الغرّ أنه يتحدث بما لا يفهم.لكن الانزعاج لا يأتي من أن رئيس حكومتنا لا يعرف ما يقول، ولا يأتي من أن بعضاً من كتلته وموظفيه يردّدون شعارات وأقاويل مثل «التأميم على الطريقة اللينينية التروتسكية»، وهم بالكاد يعرفون لفظ هذه الأسماء التي يستعيرونها من مستشارين أضحل منهم.النكد الحقيقي يأتي من قوىً في المعارضة لا تعرف أن مدخلها إلى أي إصلاح وتغيير وتحرير وحماية للبلاد لا يكون إلا عبر تبنّي برامج يسارية بالضرورة. وكي لا ندير الكلام، وللمزيد من الصراحة، فإن المرجعية الماركسية في التفكير الاقتصادي والاجتماعي هي المطلوبة في مواجهة ما يواجه بلادنا المسكينة من هبوب رياح أميركية، وعصف مصالح غربية، وهجمات إسرائيلية، ونهب منظَّم للمال العام، وتدبير للمسخ الاقتصادي المحلّي، الذي يسمّى زوراً وبهتاناً اقتصاداً حرّاً.النائب الجاهل الذي تحدث عن التأميم بصفته وصفةَ لينين وتروتكسي، هو ببساطة لم يعلم بعد أنّ أحد الاقتراحات لمعالجة جزء من أزمة الولايات المتحدة الاقتصادية كان عبر تأميم بعض القطاعات. ولعلم النائب الجاهل، فإن التأميم هو تمليك الأمّة لمورد أو قطاع، مع إعطاء حقّ إدارته للدولة، ويعدّ التأميم جزءاً من سيادة الدولة على مواردها. ومَن أمّم قطاع الخلوي في لبنان كان رفيق الحريري نفسه.أمّا شعور رئيس الحكومة بأنّ كلامه لا يعجب الماركسيين، فهو في مكانه تماماً، وهو إن كان لا يدرك ذلك بالفهم، بل باللاوعي، فلأنّ وجوده على رأس مجموعة من الفاسدين، من كلّ الطوائف، الناهبين للمال العام، والذين أغرقوا البلاد بديون تحت عنوان إعادة إعمار البلاد، ونهب المال الخاص (السوليدير) والاستفادة من السلطة، وتحطيم مؤسسات الرعاية الاجتماعية والضمانات الاجتماعية لمصلحة مؤسسات الرعايات الطائفية، فإن ذلك هو عكس ما يسعى إليه الماركسيون.ومع الثقة التامة بأن رئيس الحكومة والموظفين لديه من فئة الوزير وما دون، لن يسمعوا، فلا بدّ من تذكير المواطنين اللبنانيين بالأيدي البيضاء للماركسيين على هذه البلاد، فلولا التظاهرات في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات ونضالات عشرات ومئات آلاف اللبنانيين المنضوين (طوعاً لا بصفة موظفين ومرتشين) في الحركة الشيوعية، الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي، وغيرهما من القوى الماركسية، لما وصلنا إلى يوم نعرف فيه سعر ربطة الخبز، ولا سعر المحروقات، التي كانت حتى مرحلة قريبة، وقبل أن يصل والد رئيس حكومتنا (ومن بعده صديقه) إلى السلطة، مدعومة من الدولة.والشيوعيون هم من انتزع تأسيس الجامعة اللبنانية والمدارس الرسمية، التي علّمت عشرات آلاف الشبان، وبضغط منهم أنشئ الضمان الاجتماعي، ومخافة من نفوذهم بين الفقراء قام الرئيس فؤاد شهاب ببعض الإصلاحات الهيكلية، وبفضل الفكر الماركسي، ونضالات الشيوعيين تعلم عشرات الآلاف في بلاد أوروبا الاشتراكية، فانتقلوا من التبعية لزعماء الإقطاع الطائفي إلى العمل كوادر ونخباً في كل المجالات.أخيراً وليس آخراً، مع التقدير التام للمقاومة الإسلامية بقدراتها وإصرارها وتفانيها في الدفاع عن البلاد وتحرير الشريط الحدودي المحتل، وصمودها في وجه العالم في عام 2006، فقد سبق للشيوعيين أن كانوا طليعة المقاومة وأساسها وعمودها الفقري في لبنان، وحين كان العالم كله يتكالب على وطننا، كان اثنان من الشيوعيين يطلقان نداء «إلى السلاح» بينما كانت دول تستسلم أو تكاد. وتم تحرير بيروت والضاحية وجبل لبنان والخط الساحلي وإقليم الخروب وصيدا وشرق صيدا والجزء الأكبر من الجنوب... برصاص الشيوعيين.لم يكن لشخص مثل سعد الحريري أن يجد بلداً لو لم يناضل ويقاتل الشيوعيون دفاعاً عنه، إلا أن من نحاور «صمّ بكم عمي فهم لا يرجعون».
عدد الجمعة ٢٦ تشرين الثاني ٢٠١٠