حسن شقراني قبيل اجتماع مجموعة الدول ذات الاقتصادات العشرين الكبرى عالمياً (G20) في منتصف الشهر الجاري، شدّد حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، على أنّ لبنان والمنطقة عموماً نائيان عن ظواهر حرب العملات التي تنشأ بسبب الصراعات التجاريّة بين البلدان المختلفة على قاعدة التلاعب بأسعار الصرف لرفع مستوى تنافسيّة السلع. والاعتقاد التقليدي هو أنّ العرب معزولون نسبياً (باستثناء دبي مثلاً) عن تعقيدات النظام العالمي، لذا ليس هناك خوف من حركة غير اعتياديّة للرساميل، تؤدّي إلى نشوء فقّاعات وتخلّ بأنظمة نقديّة معيّنة في البلدان النامية. والطمأنة على هذا الصعيد مهمّة جداً لبلد هش مثل لبنان، حيث القواعد الاقتصاديّة الماديّة مترهّلة، ويُعتمَد على توازن هشّ يؤمّنه تدفّق الرساميل للإفادة من الفوائد المرتفعة، وتيّار أموال الاغتراب لتغذية الاستهلاك الداخلي. ولكن يبدو أنّ الأمور أخطر مما تبدو عليه، بحسب إشارات ظهرت أمس. حيث استغلّ رياض سلامة منصّة مؤتمر المصارف العربيّة، الذي تستضيفه بيروت على مدى يومين، ليطرح الهواجس النقديّة والماليّة الحاليّة. ففي ظلّ توجّه عالمي لرفع مستوى القيود على المصارف، بعد أزمة ماليّة قاسية وركود حادّ، ستجد البلدان النامية (جنوب شرق آسيا، الصين، البرازيل...) نفسها مضطرّة إلى خفض أسعار الفوائد لتعويض «التأخّر عن العودة إلى نسب نمو مقبولة»، وذلك من ضمن «إجراءات غير عادية لضبط نسب الدين إلى الناتج المحلي ولتغذية الأسواق بالسيولة». وهذا الأمر يعني أنّ هناك إمكاناً لهروب الرساميل إلى مطارح حيث معدّلات الفوائد مرتفعة، مثل لبنان. ما يولّد هواجس كثيرة، بعدما كانت تلك الهواجس خاصّة بالبلدان النامية نفسها التي تخوّفت من هروب رساميل العالم الصناعي إليها! على هذا الأساس طرح حاكم «المركزي» مجموعة من المسائل التي يجب التنبّه إليها، والتحوّلات التي يتحتّم التحوّط منها. وعلى رأس القائمة هناك ضرورة «الحد من الآثار السلبية للأموال المتحركة بسرعة»، أي «الأموال الساخنة»، التي تتّجه نحو البلاد العربية «للاستفادة خلال فترة قصيرة من الفوائد المرتفعة نسبياً مقارنةً بما هو معمول به في الدول النامية». فتلك الأموال يمكن أن تؤدّي لدى خروجها، بعد أن تكون قد حقّقت الربح المتوخّى، إلى «زعزعة الاستقرار التسليفي كما استقرار الفوائد وربّما استقرار العملة الوطنية»، على حدّ تعبير رياض سلامة.
في هذا الكلام تحذير من أنّ لبنان معرّض لتداعيات حرب العملات، المتمثّلة هنا بحركة الرساميل، نظراً إلى أنّ لبنان غير معنيّ كثيراً بتنافسيّة سلعه لأنّه للأسف بلد غير مصدّر. ويخالف هذا الوضع التطمينات الكثيرة التي أُطلقت منذ حوالى 20 يوماً في شأن المناعة وما شابه. وقد يكون هذا التحذير عبارة عن احتواء لحركة يمكن أن تكون مرتقبة لخروج رساميل من لبنان، بعدما كان قد استقبل خلال العامين الماضيين تدفّقات لافتة، أدّت إلى وصول قاعدة موجودات القطاع المصرفي إلى 133 مليار دولار، بحسب رئيس جمعيّة المصارف، جوزيف طربيه. ماذا يفعل لبنان في هذا الصدد؟ أشار رياض سلامة إلى أنّ «المركزي»، وبهدف مواجهة هذا النمط الخطير، يصدر شهادات إيداع متوسطة الأجل لا قصيرة الأجل «كإشارة منه إلى القطاع المصرفي بأنّ ضبط السيولة يهدف الى ضبط التضخم من ناحية، ومن ناحية أخرى، إلى منع رؤوس أموال سريعة من الدخول». وتطرّق سلامة مباشرة إلى «حرب العملات القائمة حالياً»، التي تؤدّي إلى تدفّق الأموال إلى البلدان النامية على نحو إجمالي، ما يرفع من قيمة عملات هذه الدول، ويشجّعها على الاستيراد «ربما أكثر من طاقتها ويحدّ من قدرتها التنافسية على التصدير، في وقت تنخفض فيه الفوائد لديها، الأمر الذي يشجعها على مزيد من الاستدانة في أسواق السندات، حيث تنشط مصارفنا». وبالنتيجة سيحصل تصحيح في أسعار السندات المصدّرة من الدول الناشئة، وستنجم عن ذلك «خسائر نتيجة التقلبات الحادة التي تشهدها عملات مجموعة العشرين في ما بينها». وفي هذا الإطار، شدّد رياض سلامة على أهميّة الإجراءات القاضية بتحديد التوظيف الخارجي للمصارف اللبنانيّة عند 50% من أموالها الخاصّة، ملوّحاً بإمكان رفع هذه النسبة إلى 75% «بقرار من المجلس المركزي لمصرف لبنان». ومن جملة الإجراءات الاحترازيّة التي عرضها رياض سلامة لمواجهة المخاطر المحدقة، ذكر البحث مع المصارف لرفع نسبة الملاءة في الأموال الخاصة الأساسية إلى 10%، أي أكثر بثلاث نقاط مئويّة من المعايير التي ستُعتمد دولياً (النسبة وفقاً لاتفاقيّة «بازل 3» هي 7%) لتحقيق «مزيد من الرسملة وتعزيز متانة المصارف اللبنانية وسلامتها». والحقيقة هي أنّ وضع المصارف اللبنانيّة ودورها في الاقتصاد الإجمالي ككلّ، بدآ يثيران أكثر من تساؤل خلال الفترة الأخيرة، مع تأثّر أرباحها من جرّاء التحوّلات في سوق السندات عالمياً، بسبب انخفاض الفوائد. ومن هذا المنطلق شهد المؤتمر نفسه، الذي حضره رئيسا وزراء لبنان وتركيا سعد الحريري ورجب طيب إردوغان، دعوة من وزير الدولة، عدنان القصّار، إلى بدء التفكير جدياً في تعديل مسار استثمارات المصارف اللبنانيّة والعربيّة. «أعتقد أنه آن الأوان لتوجيه استثماراتنا نحو قطاعات الاقتصاد الحقيقي في الدول العربية، وهي مربحة وأكثر أماناً من الاستثمار في قطاعات ريعية خارجية. كما علينا ترشيد استثماراتنا في الخارج»، قال القصّار، الذي يرأس أيضاً اتحاد غرف التجارة العربيّة. ففي النهاية «الاقتصاد والمال في علاقة جدلية»، ولكن «القاعدة هي أنّ الاقتصاد مولّد للمال». وعلى اعتبار أنّ السلطات النقديّة «لن تقبل أنّ يكون حجم المصارف في الخارج لا يتناسب أو يفوق حجم المصرف في الداخل لإبقاء السيطرة ممكنة على المخاطر»، بحسب رياض سلامة، ربّما سيبدأ لبنان باستغلال موارده المصرفيّة التي يُفترض أن تكون قيّمة، في استثمار منتج قطاعياً، في الزراعة والصناعة، عوضاً عن الاستمرار في النوم مع الدولة في سرير واحد!
تريليون دولارقيمة تدنّي رسملة المصارف الأميركيّة والأوروبية وحدها، التي تفرض المعايير الدوليّة استعادتها. ولتحقيق ذلك «ستضطرّ المصارف إلى الحد من توزيع الأرباح وخفض الرافعة المالية وإصدار أسهم» بحسب رياض سلامة. كيف سيؤثّر ذلك في الودائع في لبنان التي تبلغ 104 مليارات دولار؟
أيّ دور عالمي للعرب؟هناك التباس كبير لدى المصرفيّين العرب في شأن العنوان الذي يحمله مؤتمرهم هذا العام، «الدور الدولي الجديد للمصارف العربيّة». ففي الجلسة الأولى للمؤتمر كان كلام المعقّبين قاسياً، فمنهم من طرح سؤال: «في الأساس، هل كان هناك دور عالمي لتلك المصارف؟»، فيما شدّد البعض على ضرورة العمل على تذليل العقبات البينيّة، قبل بدء الحديث عن دور عالمي. ومن المتوقّع أن تزيد الميزانية المجمعة للمصارف العربية في نهاية 2010، على 2.5 تريليون دولار، فيما سيبلغ الناتج العربي تريليوني دولار، بحسب رئيس مجلس إدارة اتحاد المصارف العربيّة عدنان يوسف (الصورة).
عدد الجمعة ٢٦ تشرين الثاني ٢٠١٠ |