انقضى الزمن الذي كان باستطاعة سيد البيت الأبيض فيه استقبال الدالاي لاما من دون التبصر في العواقب. وانطوت المرحلة التي كان باستطاعة ساكن قصر الإليزيه فيها توبيخ النظام الصيني بسبب سجله غير المشرق في ميدان حقوق الإنسان. وراحت الأيام التي كان فيها باستطاعة شاغل 10 داونينغ ستريت تأديب بكين بسبب القمع في ساحة تيان ان مين. القيصر الروسي ليست لديه هذه الهواجس اصلاً فهو يقدم الاستقرار على حقوق المعارضين ولا يزعجه كثيراً تكسير عظام الصحافيين.
المشهد الدولي يتغير. كان العالم يحبس انفاسه حين ينتظر نتائج قمة اميركية - سوفياتية. وكان العالم محقاً في حساباته سواء كان اسم الوافد من الصقيع نيكيتا خروتشوف او ليونيد بريجنيف. كانت نتائج اللقاء تؤثر في امن العالم ومدى سخونة الرياح التي تهب على المناطق الرمادية فيه. تغيرت الحسابات. في قمة الـ20 الأخيرة في سيول انتظر العالم هذه المرة نتائج اللقاء بين الرئيس الأميركي والرئيس الصيني. وكان العالم محقاً في انتظاره فحصيلة اللقاء تؤثر على اقتصاد العالم، اي على الخبز والأمن معاً.
يكفي الالتفات الى صور زعماء الدول الكبرى المشاركين. لا مجال للاعتقاد ان باراك اوباما مرتاح. عاقبه الناخبون في الانتخابات النصفية. عاقبوه بسبب الاقتصاد وعدم تحقق الآمال التي علقت عليه. تأثرت صورة اوباما في القمة بنتائج الانتخابات والمأزق الأميركي في افغانستان والثمار المرة للمغامرة العراقية. نيكولا ساركوزي عاقبه الناخبون ايضاً. رصيده الشعبي السابق تبخر. لم يعد هناك ما يحسده الآخرون عليه إلا كارلا بروني الجميلة التي ادخلت العصر والفوضى والموسيقى الى حيث كانت العمة ايفون تسهر على رجل اسمه شارل ديغول بانتظار عبوره الى التاريخ. سيلفيو بيرلوسكوني اوضاعه مؤسفة. حكومته مفخخة بأنباء الفضائح وخناجر الحلفاء. ديفيد كامرون قصته ليست سهلة. لا يستطيع ان يعد البريطانيين بغير المزيد من شد الأحزمة. ديمتري ميدفيديف يعرف ان الاقتصاد الروسي يحتاج الى قرارات مؤلمة لامتلاك قدرة تنافسية فعلية. يشعر ايضاً ان فلاديمير بوتين اشتاق الى النوم في الكرملين.
وحده هو جينتاو بدا في صورة الرجل القوي. نجحت بلاده في الجمع بين النمو المتواصل والاستقرار على الأقل حتى الآن. انتقلت الى موقع الاقتصاد الثاني في العالم. نجاحها دفع المحللين الى الحديث عن انتقال الثقل الاقتصادي من الغرب الى الشرق. الأرقام تشير الى ان الصين غيرت مستوى حياة مئات الملايين من ابنائها ومن دون ان تعتنق الوصفات الغربية التي كان قيل انها السبيل الوحيد الى الازدهار. لقد فرضت الصين نفسها شريكاً لا بد منه للخروج من الأزمة المالية العالمية. تصرفت بمسؤولية لكن كدولة عظمى. لم يرجع اوباما من اجتماعه مع هو بما كان يتمناه لجهة طريقة معالجة الاختلالات وسعر العملة الصينية.
لم تعد عبارة الصعود الصيني مجرد تكهن. الأرقام تؤكد ذلك. لم تعد اميركا قادرة على ادارة العالم بمفردها. لم يعد الغرب كله قادراً على القيام بهذه المهمة. الهدير الآسيوي شديد الوضوح. ان الصين تتقدم لاحتلال موقعها الذي لم يرتسم بعد بدقة. ربما لهذا السبب حرص اوباما على القيام بجولة آسيوية في طريقه الى سيول. كان الهدف المعلن هو تعزيز التبادل التجاري. لكن الهدف الأبعد كان السعي الى احتواء الصعود الصيني. هذا ما سعى اليه في الهند وكذلك في اندونيسيا. فما تتخوف منه اميركا البعيدة تكاد دول المنطقة تشاهده بالعين المجردة. البحرية الصينية تشهد عملية تحديث سريعة والمساعدات الصينية لبعض دول المنطقة تنبئ بالاقتراب من ولادة قوة عظمى تستند الى اقتصاد قوي وآلة عسكرية كبيرة ومتطورة.
تسافر الصين الى المستقبل. تقلق الهند فتستجمع قواها للحاق بها. في المقابل تبحر باكستان باتجاه الماضي. تسافر الى كهوف طالبان. يجدر بالعرب الالتفات الى الطب الصيني. يمكنهم ايضاً درس التجربة الهندية وهي التنمية في ظل اكبر ديموقراطية في العالم. الخوف ان يجتذبنا هذا الانتحار الباكستاني المروع. كنا نتابع الاستعدادات لقمة الـ20 حين اطل علينا الإمام اليمني انور العولقي داعياً الى قتل الأميركيين «دون مشورة او فتوى» ومهاجماً ايران التي اعتبر انها تدير مشروعاً «رافضياً فارسياً». تسافر دول الى المستقبل ونميل الى السفر الى الماضي وكهوفه.
الحياة- غسان شربل