الأزمة العالمية وانعكاساتها على الدولار

لن يستيقظ العالم غداً أو بعد غدٍ ليجد في الأسواق المالية عملة تنظر إلى الدولار الأميركي باستخفاف لأنه لم يعد العملة صاحبة القول الفصل في دنيا المال،

 لكن في الوقت نفسه لن يستمر العالم نائماً ومستيقظاً على كابوس الدولار عشرات السنين، لأن المياه الراكدة بدأت تتحرك حركة سريعة في نزوع قوي منها لقلب الوضع المالي العالمي رأساً على عقب، ومن المتوقع أن تظهر نتائج الحركة خلال أمد ليس بالبعيد، إن لم نقل إن طلائعها الأولى قد لاحت فعلاً مشيرة إلى قرب قدومها.‏

 

ولم تكن الدعوة التي أطلقها رئيس البنك الدولي (روبرت زوليك) إلا دليلاً دامغاً على وجود هذه الحركة حين قال: (إن على الاقتصادات الرئيسية بحث تبني معيار ذهب عالمي معدل لتوجيه أسعار العملات)، وقد جاء اقتراح (زوليك) قبيل قمة العشرين الاقتصادية التي استضافتها العاصمة الكورية الجنوبية سيؤول يومي الأربعاء والخميس (10 و11) تشرين الثاني، وذلك لمناقشة أوضاع ومجريات الاقتصاد العالمي.‏

القمة كما توقع الكثير من المراقبين كانت عاصفة شهدت الكثير من المناقشات الجادة والحادة في آن معاً، وقد توقع المراقبون أن تكون عاصفة لأن إرهاصات عدة سبقتها، مشيرة إلى أن مجرياتها لن تمر بسلام.‏

من هذه الإرهاصات إضافة إلى دعوة (زوليك) تحذير الصين من الخطوة التي أقدمت عليها الولايات المتحدة الأميركية، حين قامت بضخ ستمئة مليار دولار في وقت وصفت (بيجين) هذه الخطوة بأنها ستكون ذات نتائج كارثية على العالم.‏

ومنها حديث الساسة الأميركيين وعلى رأسهم الرئيس (باراك أوباما) عن ضرورة وجود دولار قوي ومن ورائه اقتصاد أميركي قوي، وعن ضرورة تريث الصين في اتخاذ قرارها الحاسم بتخفيض أو رفع سعر (اليوان) الصيني أمام الدولار لما لهذا القرار من انعكاسات غير حميدة على الاقتصاد الأميركي، والذي بات مضطراً هذه الأيام إلى حمل المظلات كلما انهمرت سحب الاقتصاد الصيني مطراً في العاصمة الصينية (بيجين).‏

لقد كان العالم ينتظر شيئاً ما من هذه القمة، لكن هذا الشيء لم يكن بحجم الثقل الاقتصادي الذي تتمتع به الدول التي تشكلها، وللتذكير فإن مجموعة العشرين تتكون من عشرين وزيراً للمالية ومحافظ بنك مركزي، ينتمون إلى أكبر 20 اقتصاداً دولياً بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي.‏

وتجدر الإشارة إلى أن مجموعة العشرين هي الأكثر سيطرة ونفوذاً على الاقتصاد العالمي، والعالم كله يعرف أن الحجم الكلي لاقتصاديات مجموعة العشرين يعادل 80٪ من حجم الاقتصاد العالمي، وكل بقية دول العالم الأخرى مجتمعة لا تمثل سوى 20٪ من حجم الاقتصاد العالمي.‏

وتسيطر مجموعة العشرين على نحو 90٪ من إجمالي تدفقات رأس المال المباشر وغير المباشر.‏

كما أن مجموعة العشرين تمارس نفوذها الكامل على النظام المالي الدولي والنظام النقدي العالمي والنظام التجاري الدولي.‏

إن الولايات المتحدة الأميركية التي اكتفت بدور ضيف الشرف في لقاء مجموعة العشرين تقف معارضة فكرة العودة إلى الذهب لتحديد قيمة العملات معارضة كلية، وهي التي اتخذت قرارها بفك ارتباط دولارها بالذهب عام 1974 بعد أن وجدت الخزينة الأميركية نفسها مرهقة تكاد تشكو الخواء بعد استنزفت حرب فيتنام مخزونها استنزافاً مريعاً، فلم تجد (واشنطن) آنذاك من وسيلة لتغطية نفقات الحرب إلا بطباعة الدولار الورقي بعيداً عن رقابة الذهب الصارمة.‏

وقد يقال إن اختلال المبادلات بين دول مجموعة العشرين وبقية دول العالم بات أمراً لا يمكن غض الطرف عنه، وهذا الاختلال هو الذي يغري الولايات المتحدة الأميركية بفرض نظام اختلال المبادلات هو الذي يغري الولايات المتحدة الأميركية بفرض نظام اختلال المبادلات داخل مجموعة العشرين نفسها، وهي تسعى لخلق مثل هذا الاختلال سعياً حثيثاً مراعاة لمصالحها التجارية الخالية.‏

لذلك كان من الطبيعي أن تبذل (واشنطن) كل ما لديها من طاقة للحصول على التزام دول مجموعة العشرين بحماية الشركات العالمية الكبرى من خطر الإفلاس والانهيار، وهذا الالتزام يعني ضمناً موافقة دول العالم المؤثرة اقتصادياً على تقديم الدعم للشركات الأميركية التي عرف عدد لا بأس به منها الإفلاس، وما زال شبحه يطرق أبواب الكثير من الشركات الأميركية الكبرى.‏

كما أن (واشنطن) سعت للوصول إلى قرار يقضي بإلزام دول مجموعة العشرين بالالتزام بالقيود والضوابط المالية النقدية التي يصدرها البنك المركزي الأميركي ووزارة الخزانة الأميركية، الأمر الذي يعني في خاتمة المطاف أن وزارات المالية في دول المجموعة سوف تصبح دوائر تابعة لوزارة الخزانة الأميركية، وأيضاً سوف تصبح البنوك المركزية في دول المجموعة أشبه بفروع تابعة للبنك المركزي الأميركي.‏

لقد عكست هذه القمة ما يختبئ تحت مياه الاقتصاد الأميركي من أزمات عميقة، ولعل أبرز هذه الأزمات خوف حماة الدولار عليه وشعورهم أن عرشه أصبح مهدداً بالسقوط ولن تفلح التدابير التي اتخذوها ويتخذونها في حمايته وقد تؤجل سقوطه لكن لن تحول دون هذا السقوط الذي لم يعد يومه بذلك اليوم البعيد.‏

د. جهاد طاهر بكفلوني- صحيفة الثورة

 

الأكثر قراءة