الأزمة الرأسمالية وتأثيراتها السياسية والاجتماعية!

تجتاح العالم الرأسمالي في قلاعه الامبراطورية الكبرى، ودوله الأقل تطوراً في أوروبا، أزمة اقتصادية ومالية خطيرة، لم تفلت من خناقها أي دولة رأسمالية في العالم، كانت قد اختارت في مرحلة سابقة،

النهج الليبرالي الاقتصادي الرأسمالي، الذي حقق فورات سريعة، ولكن سرعان ما تبين أنها فقاعات، تفجرت أمام أول امتحان قاسٍ لها، عقب الأزمة الاقتصادية- المالية، التي أصابت الاقتصاد الأميركي، بين عامي 2007-2009، ومازالت تداعيات هذه الأزمة ، تفرض نفسها بقوة سلبية على الاقتصاد الأميركي وعلى معظم دول أوروبا إذا لم تكن كلها وعلى اقتصاديات الدول الناشئة والنامية.‏

ومن الطبيعي في ظل الأزمة الاقتصادية الدورية، وخاصة في مرحلة الركود التي تعقب عاصفة الأزمة، تحاول الطبقة المهيمنة إنقاذ نفسها ونظامها، بشتى الأساليب ومن بينها تحريك أسواق تجارة السلاح وبيع الصناعات العسكرية والحربية لإنعاش المجمعات للصناعات العسكرية، كبوابة للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية، وتأمين موارد ضخمة عن طريق العسكرة والحروب، أو إرغام الأصدقاء لشراء صفقات من الأسلحة بمليارات الدولارات حتى لو لم تكن بحاجة إليها، وخاصة تلك الدول الغنية بالثروات الطبيعية، وخاصة النفطية، وقبل الحديث عن تداعيات الأزمة الرأسمالية المالية والاقتصادية في القلاع الكبرى، وتأثيرها على السياسة الاجتماعية الداخلية، وعلى السياسة عموماً داخلياً وعلى المستوى الدولي، من المفيد التذكير ببعض المعطيات الرقمية والإحصائية عن الأزمة، التي تعتبر مؤشراً واقعياً على فهم السياسة بوصفها تكثيفاً للاقتصاد في نهاية الأمر، ونبدأ من أمريكا، التي تشكل أكبر اقتصاد في العالم حيث حذر مجلس الاحتياطي الأميركي، قبل أسبوعين فقط، من العجز المتفاقم في الموازنة والذي سيصيب الاقتصاد الهش أصلاً بأزمة خطيرة مالم تتخذ خطوات سريعة لاحتوائه، ويقول بن برنانكي رئيس المجلس الاحتياطي حرفياً:«إن العجز في الموازنة الاتحادية الذي بلغ 1.47 ترليون دولار في السنة المالية التي انتهت في أيلول الماضي- يمثل تهديداً حقيقياً ومتنامياً، وبلغ عجز الموازنة، ذلك الحد مع تراجع إيرادات الحكومة من الضرائب ، ما يزيد الضغط على الاقتصاد الأميركي المهدد بركود جديد أكثر خطورة» وإذا مااستمرت النفقات على الحرب في أفغانستان والعراق، هذه الحرب العبثية، فإن أمريكا تسير نحو الهاوية، ولاسيما أنها خسرت موقعها الريادي كقطب أوحد في العالم وفشلت في ترسيخ نظامها العالمي الجديد وبدأ مشروعها العالمي يترنح ويسقط بالتدريج في كل مكان، بدءاً من الشرق الأوسط وصولاً إلى أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وبدورها اليابان التي تعتبر ثاني قوة اقتصادية في العالم و أخذت تعاني من مشكلات خطيرة من أهمها الدين العام الذي يبلغ اليوم20٠ في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى البطالة التي تبلغ حالياً نحو 5.5 في المئة.‏

ولعل إجراءات شراء أصول الدين المتنوعة تخفف من حدة الشرخ بين الناتج المحلي الإجمالي والدين العام، ولكن عمق الأزمة الاقتصادية سيدفعها لاتخاذ إجراءات تقشفية ورفد المزيد من العاملين إلى جيش العاطلين عن العمل، قد لا يوجد مفر منه، رغم أن اليابان تفكر بالعواقب الاجتماعية السيئة التي قد تسفر عن هذه السياسة . كما هو الحال في مجموع الدول الأوروبية والتي تجتاحها موجة من الغضب الشعبي المعبر عنه في الإضرابات والمسيرات الاحتجاجية المليونية.‏

وتتجلى تداعيات الأمة بكل وضوح في اليونان وأسبانيا والبرتغال وبريطانيا وخاصة في ايرلندا وفي دول أوروبا الشرقية/ الاشتراكية سابقاً/ وفي روسيا وفي فرنسا التي تعيش اليوم حالة فقدان الثقة بين النظام الساركوزي والعمال والنقابات، التي وصلت إلى حالة كسر العظم كما يقال، فالشارع الفرنسي محقون وغاضب جراء سياسات الحكومة التقشفية، ففي افتتاحية صحيفة« ليبراسيون» بقلم الكاتب بول كينيو حيث يقول:« إن دواعي احتقان الشارع الفرنسي، قد احتشدت الآن كلها، فهناك ألف سبب وسبب للاحتجاجات والتظاهر بدءاً من التعديل المثير للجدل لقوانين التقاعد إلى زوبعة تسفير الغجر، وأخيراً قانون نزع الجنسية وكذلك سياسات التقشف المالي المستفزة ومن الواضح أن الانطباع العام السائد هو أن مناهضة الساركوزية تجد الآن أكثر من سبب للخروج للشوارع، وإذا ما استمرت هذه السياسة ستشهد فرنسا احتجاجات أكثر راديكالية، بدأت النقابات تلوح بها كخيار مطروح بقوة الآن، وعناد ساركوزي لن يفيده خاصة وأن 71 في المئة من الفرنسيين عبروا عن تأييدهم للمشاركة في التظاهرات ضد الساركوزية، التي فقدت شعبيتها ولم يحظ ساركوزي إلا على تأييد 26 في المئة من السكان.‏

ويتمحور غضب الفرنسيين حول سياسات الشطط الليبرالية المخيبة للآمال ورغم وعود ساركوزي، فإن الشارع لم يعد يصدق وعوده، أمام زيادة العاطلين عن العمل الذين يتزايدون يوماً بعد يوم، إضافة إلى احتجاجات سكان ضواحي باريس والمدن الكبرى المهمشين الفقراء المحرومين من أي عدالة اجتماعية ويشعرون بالتفرقة العنصرية، رغم أنهم أبناء فرنسا منذ مئات السنين أو على الأقل أكثر من خمسين عاماً الماضية المنحدرين من أصول جزائرية وإفريقية وآسيوية ودول إسلامية أخرى، وعلى أكتافهم نهض الاقتصاد الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية ولقاء ذلك كوفئوا بالحصول على حق المواطنة والجنسية الفرنسية، ولا يقل الأمر خطورة في انكلترا التي تواجه خطر انفجار اجتماعي بسبب سياسة التقشف التي أدت إلى تسريح مئات آلاف الموظفين العاملين في القطاع الحكومي، وقد يصل العدد إلى 1.3 مليون عاطل عن العمل. ولاسيما أن بريطانيا تعاني من عجز خطير في الموازنة العامة، حيث بلغ الدين العام حالياً 242 مليار دولار، وقد يرتفع في موازنتها خلال السنة المالية الحالية إلى 12 في المئة. أي أربعة أمثال الحد الأقصى الذي تسمح به لوائح الاتحاد الأوروبي وهو 3 في المئة من الناتج الإجمالي.‏

ورغم التفاؤل الضبابي في تحسن الأوضاع الاقتصادية، فإن العالم قد خسر منذ بدء الأزمة العالمية 2007 -نحو 35 مليون وظيفة، ومن المتوقع أن يصل عدد العاطلين في العالم هذا العام الى 213 مليوناً بزيادة سنوية تبلغ 6،5 في المئة . وفي امريكا وحدها بحاجة الى خلق 6،9 ملايين وظيفة لكي تستطيع إعادة سوق العمل إلى مستويات ما قبل الأزمة. واجتاحت الأزمة الأموال المخصصة للرعاية الاجتماعية وخاصة المعوقين والتلاميذ والقطاع التعليمي والعلمي. والخطورة بالنسبة للرأسمالية أن هذا الوضع سيواجه بحركات إضرابية واحتجاجية شعبية في جميع البلدان، مما يهدد النظام الرأسمالي بالإفلاس السياسي والانهيار . ولا يمكن فهم الإجراءات العنصرية ضد الاجانب في الدول الأوروبية إلا في هذا الإطار . أملاً في التخفيف من الأزمة على حساب لقمة عيش هؤلاء البؤساء.‏

د. إبراهيم زعيرالثلاثاء 19-10-2010م

آخر تعديل على Friday, 22 October 2010 07:37

الأكثر قراءة