uldy

uldy

زيارة فريق الروك البريطاني الشهير إلى تل أبيب قبل أيام، تبدو حالة معزولة، في سياق المقاطعة الثقافيّة المتزايدة للكيان الصهيوني. لكن براين مولكو ورفاقه انتقلوا مباشرة إلى العاصمة اللبنانيّة، حيث تثير حفلتهم المرتقبة الليلة سجالاً حاداً، ودعوات إلى المقاطعة وإدانة هذا التواطؤ الموضوعي مع نظام الأبارتهايد الإسرائيلي

أحمد الزعتري «كل ما أفعله هنا هو أكل الحمّص»، قال براين مولكو لصحافي إسرائيلي. غَزَل المغنّي الرئيسي في فرقة «بلاسيبو» بالحمّص، و«بطقس تل أبيب الرائع» جاء قبيل حفلة فرقته في تل أبيب السبت الماضي ـــــ أي مباشرةً بعد جريمة «أسطول الحريّة» ـــــ. حاول الصحافي مداعبته قائلاً «من المهم أن تحصل على دعم إسرائيل هذه الأيام»، فردّ مغني الفرقة وعازف الغيتار الشهير ذو الملامح المؤنثة: «أعتقد ذلك... وخصوصاً لمن قرّر ركوب البحر». وها هو مولكو ورفاقه يزورون العاصمة اللبنانيّة لإحياء حفلة في الـ«فوروم دو بيروت» مساء اليوم... رغم كلّ شيء.placebo لكنّ زيارة فريق الروك البريطاني الشهير إلى تل أبيب تبدو حالة معزولة، إذ تأتي خارج سياق المقاطعة المتزايدة للكيان الصهيوني. الفرقتان البريطانيتان «غوريلاز» و«كلاكسونز»، وزميلتهما الأميركيّة «بيكسز» أعلنت مقاطعة مهرجان PiC.NiC الذي شاركت فيه «بلاسيبو» في تل أبيب، احتجاجاً على الاعتداء على «أسطول الحريّة». الصحافة الإسرائيليّة تلقّفت هذه المواقف وأطلقت حملة مضادة. هكذا وجدت «جيروزاليم بوست» في حفلة «بلاسيبو» فرصة ذهبيّة لتلميع صورة الاحتلال: «لن تتوقّف الموسيقى، اسألوا العشرة آلاف الذين حضروا حفلة بلاسيبو وجوان آرماترايدينغ ليلة السبت». هل يلغي التون جون حفلته المرتقبة في تل أبيب؟وكانت المقاطعة الموسيقيّة الغربيّة لإسرائيل قد أثارت سجالات حادة قبل حفلة «بلاسيبو». الشهر الماضي، ألغى الموسيقي البريطاني إلفيس كوستيللو حفلتيه المقرّرتين في تل أبيب (30/ 6 و1/ 7)، مشيراً بوضوح إلى انصياعه لحملات دعته إلى إلغاء حفلته في الدولة العبريّة. «ارتباط اسمك بحفلة مبرمجة سابقاً يمكن أن يحوّل مشاركتك إلى موقف سياسيّ»، قال كوستيللو. وأضاف: «قد تبدو الأمور كأنّني أغنّي من دون الاكتراث لمعاناة الأبرياء». وذكّر بـ«ترهيب الفلسطينيين وإهانتهم بحجة الأمن القومي». وفي وقت سابق، أعلن الموسيقيّ والشاعر الأميركيّ جيل سكوت هيرون من على مسرح «رويال فيستيفال هول» في لندن أنّه «يكره الحرب»، ولهذا سيلغي حفلته التي كانت مقرّرة في إسرائيل في 25 أيار (مايو) الماضي. يأتي موقف «الأب الروحي للراب»على خطّ واحد مع تاريخه السياسي المقاوم. صاحب الأغنية الشهيرة «الثورة لن تبثّ على التلفزيون» من أبرز الناشطين السياسيين الذين ينادون بالقضاء على العنصريّة، وكان من أبرز الأصوات التي ارتفعت ضد نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا. أما الموسيقيّ المكسيكي الشهير كارلوس سنتانا، فقد جاء رضوخه لضغوط هيئات مقاطعة إسرائيل مفاجئاً حتى للعرب. إذ أعلن في شباط (يناير) الماضي إلغاء حفلته التي كان من المقرر إقامتها في يافا مطلع الشهر الحالي. روجر ووترز ذهب إلى أبعد من ذلك. الموسيقي البريطاني الشهير وأحد الأعضاء المؤسسين لفرقة «بينك فلويد»، نقل حفلته من تل أبيب إلى قرية «واحة السلام» المختلطة بين عرب ويهود عام 2006. حينها، زار ووترز مخيّم عايدة، وكتب على جدار الفصل العنصري «اهدموا هذا الجدار»، واصفاً إياه بـ«المقرف». كذلك أعاد ووترز أخيراً غناء We Shall Overcome (سننتصر). هذه الأغنية عُدّت نشيداً لحركات الحقوق المدنيّة في أميركا، بعدما غنّاها الموسيقيّ الأميركي بيت سيغر، وهو من أيقونات الستينيات. يومها، وقف سيغر في وجه اللجنة المكارثيّة التي اتهمته بالشيوعيّة، معلناً موقفه الصريح ضد العنصرية، وحرب فييتنام. أمّا ووترز، فيعيد تقديمها الآن احتجاجاً على حصار غزّة. وقد انتقد الموسيقي الشهير كل الأطراف الذين يمنعون الناشطين الإنسانيين من الدخول إلى القطاع: إسرائيل وأميركا وحتى مصر التي «تحصل على مساعدات أميركيّة بمقدار 2.1 مليار دولار في السنة من ضرائب الأميركيين، وتمنع الناشطين من الدخول إلى غزة»، بحسب قوله. وقد أدرجت الصحافة الإسرائيليّة تعبيراً جديداً إلى قاموسها وهو «المقاطعة الصامتة». ذلك المصطلح ينطبق مثلاً على بوب ديلان، أحد أهم الموسيقيين الأميركيين، إذ اكتشف الجميع بالمصادفة أنّه ألغى حفلته التي كان مقرراً إقامتها في 27 أيار (مايو) الماضي في إسرائيل. كذلك الأمر مع مواطنه بروس سبرنغستين الذي يرفض تماماً أي اقتراح للغناء هناك. وشككت بعض الصحف الإسرائيلية في حجّة مغني الراب سنوب دوغ الذي برّر إلغاء حفلته في إسرائيل بأسباب «تتعلق بالعقد».

في المقابل، لم تنجح حملات المقاطعة الموسيقيّة في العديد من الحالات، إذ تجاهل أحد مؤسّسي فرقة «البيتلز» بول مكارتني، السنة الماضية، نداءات المقاطعة، ومضى إلى حفلته الإسرائيليّة. كذلك حاول الكندي ليونارد كوهين الالتفاف على مطالبات المقاطعة، وذلك من خلال التبرّع لمؤسسة «ليونارد كوهين للسلام» لمساعدة العائلات الفلسطينية والإسرائيلية «المتضررة من العنف». يومها، اقترح كوهين إقامة حفلة في رام الله، وهو ما رفضته السلطات الفلسطينيّة. وتجري حالياً محاولات حثيثة لإقناع إلتون جون بإلغاء حفلته المقررة في تل أبيب مساء 17 حزيران (يونيو) الحالي، كذلك الأمر بالنسبة إلى مغنية الجاز ديانا كرال التي يأمل العرب أن تقتفي أثر رفيق دربها إلفيس كوستيللو، فتعدل عن الذهاب إلى إسرائيل... علماً بأن حفلتها هناك مبرمجة مباشرة بعد مشاركتها في «مهرجان بيت الدين» (2 آب/ أغسطس). هذه الجردة السريعة تعطي فكرة عن التطوّر الحاسم الذي شهده الوعي الغربي في السنوات الأخيرة، لجهة التعاطف مع القضايا العربية العادلة، والضغط على إسرائيل في اتجاه وقف سياسة العنف والاستيطان والتمييز العنصري التي قام عليها الكيان الصهيوني منذ عام 1948. أمام حملات المقاطعة المذكورة، فإن الخطاب الرسمي الإسرائيلي وامتداداته الطاغية في الإعلام لم يجد ما يتحدّث عنه سوى «الإرهاب الثقافي»، ومحاولة تشويه صورة المقاطعين. هكذا، سمعنا وزير الثقافة الإسرائيلي ليمور ليفنات يقول: «كوستيللو لا يستحق شرف الغناء في إسرائيل أصلاً».

جورج عبدالله - "الاخبار" لم يصدر عن الحكومات اللبنانية المتتالية طوال الـ26 عاماً الماضية، إذا استثنينا حكومة الدكتور سليم الحص، أي تحرّك إيجابي يمكن أن يوحي بأن القيّمين على مقدرات الدولة اللبنانية معنيون بأوضاعنا كمواطنين أسرى. في الواقع لم يكونوا في الغالب معنيين في أي يوم من الأيام بأوضاع المواطنين بوصفهم مواطنين، لأن ذلك يفترض بهم أن يكونوا بصدد بناء دولة المواطنة، وهم في الواقع أبعد ما يكونون عن ذلك. طبعاً لم نكن ننتظر من وزير العدل مثلاً أن يقف مدافعاً عن النضال ضد الإمبريالية أو عن كرامة المناضلين ضد الإمبريالية، لكننا كنا نتوقع منه وهو يستقبل وزيرة العدل الفرنسية الراهنة أو السابقة أن يسأل كيف يسمح لأيّ منهما أن تتبجّح بالحديث عن استقلالية القضاء وتجرّده، وتعطي دروساً في ذلك له ولأمثاله، في حين أن مواطناً لبنانيّاً محتجَز تعسّفاً في السجون الفرنسية على الأقل منذ أكثر من عشر سنوات، لأن السلطات السياسية في ذلك البلد ترى في الإفراج عنه إحراجاً لها أمام حليفها الإسرائيلي والأميركي، أو تهديداً لمصالح البلاد العليا في المنطقة. كنا نتوقع أن يسأل نفسه كيف يحقّ للسلطات الفرنسية أن تتحرك على أعلى المستويات لتحرير تجار الأطفال الذين ضُبطوا بالجرم المشهود في تشاد، فيما هو وزملاؤه لا يحركون ساكناً للسؤال عن مصير مواطنيهم، كنا نفترض أن هذا الوزير أو ذاك سيمتعض بعض الشيء وهو يستمع إلى كوشنير وداتي وإليو ماري وهم يتحدثون عن معاناة الجندي الإسرائيلي شاليط، هذا هو دأب ممثّلي البورجوازية اللبنانية سماسرة عند الآتين من الغرب الإمبريالي، لا يعرفون حدوداً في الهوان والخذلان والخيانات إلا تلك التي ترسمها القوى الشعبية المقاومة وطلائعها المنظمة، يتحدثون عن السيادة ويعملون بكل ما أوتي لهم من خبث ودهاء على وضع البلد تحت الوصاية، وحدها القوى الشعبية الملتفة حول القرار المقاوم والعاملة عبر أحزابها ومختلف منظماتها النضالية على بناء دولة المواطنة تحول دون التفريط بالمصالح العليا للوطن، تحفظ السيادة وتخلّص البلد من كل تلك الاتفاقات المشبوهة، والقرارات المفروضة، وتحفظ حقوق كل مواطن وكرامته. طبعاً ممثلو البورجوازية في لبنان ليسوا أكثر تفريطاً بالمصالح العليا ولا أكثر عُهراً من هؤلاء الذين يردّدون بكل وقاحة أنه ليست لديهم مشكلة مع من يعتقد أن إسرائيل هي أرض التوراة، أو القائلين بأن النزاع الرئيسي في المنطقة ليس بيننا، أي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل بين المعتدلين والمتطرفين. الجميع بات يعرف أن هيمنة هذه الشرائح الاجتماعية لا تستتب إلا بالقدر الذي تنجح في تمزيق كل أواصر وحدة الشعب وجماهيره المضطهدة. الهدف المباشر لكل القوى الإمبريالية ولإسرائيل والمتواطئين معها في المنطقة هو بالتحديد البندقية المقاومة، البندقية المقاومة في لبنان، البندقية المقاومة في فلسطين، البندقية المقاومة بالمطلق والقرار المقاوم الملتزم بشرعيتها والدافع باتجاه التفعيل الخلاق لكل أولويات وحدة حركة الجماهير وطلائعها المقاتلة، الكل يعرف والكل يرى أن من يستهدف البندقية المقاومة، يستهدف أيضاً في الوقت نفسه وحدة حركة الجماهير، ويعمل بشتى الوسائل على تعميم كل أشكال التفتت وتعميق الشروخ العمودية، الرد عليهم يكون بمزيد من التمسك بالحقوق الثابتة، وفي طليعتها حق العودة أساس وجوهر القضية الفلسطينية والتصدي لكل مناورات التفريط بها. الرد عليهم يكون بمزيد من التمسّك بالبندقية المقاومة والقرار المقاوم، التمسّك بوحدة الشعب الفلسطيني ومطالبة القوى المسؤولة بإنهاء حالة الانقسام، الانقسام الكارثة بين الضفة والقطاع. مشاعل الحرية في قلاع الكرامة، أسرانا الصامدون والصامدات جسّدوا بتحركهم الوحدوي الشهر الفائت أولويات المواجهة المسؤولة في ظروف غاية في الصعوبة، فألف تحية إكبار وتقدير لهم كأفراد وكطليعة معبّرة كل التعبير عن آلام جماهير شعبنا وعن آمالهم. لتنظر القيادات المسؤولة وتنحنِ أمام تحركهم وتضع حداً لكل حالة الانقسام. الانقسام الفضيحة الكارثة. العدو الصهيوني المدجج بأحدث أنواع الأسلحة والتقنيات والمدعوم من أكبر قوة إمبريالية في العالم، أيعقل أن تنجح قيادته المجرمة في حشد كل الطاقات المتوافرة للكيان كي تقف موحّدة خلف سياسة العدوان والاغتصاب، فيما تعجز قيادات شعبنا الفلسطيني عن تأمين الحد الأدنى من التنسيق بين قواها الفاعلة. أيُعقل أن تعجز القيادات المسؤولة عن تأليف مرجعية وطنية موحّدة ولو مؤقتة تضم كل ألوان الطيف السياسي الفلسطيني وتكون إطاراً للحوار الوطني الشامل، تضع حداً لهذا الانقسام الجريمة، وتبدأ بالمراجعة السياسية لمسيرة أوسلو بعدما وصلت هذه الأخيرة الى الطريق المسدود وباعتراف الجميع. آلاف خلف القضبان يجسّدون بصمودهم اليوم أروع صور العطاء والتضحية ويسجلون في الوقت نفسه بحروف مضيئة سؤالاً مباشراً لكل ذي ضمير حي من أبناء شعبنا. ماذا فعلتم اليوم بالضبط لتعزيز التضامن مع صمود المناضلين والمناضلات الأسرى في فلسطين والمساهمة في تحريرهم؟ النصر كل النصر لجماهير شعبنا المقاوم.. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.. مع خالص التحيات

 حققت «الأخبار» في الذكرى الثالثة لغياب جوزف سماحة سابقة صحافية قضت بأن تحتكر التكريم صحافية أفردت لها الجريدة ست صفحات بكاملها لتدبيج نص يزعم تحليل الفكر السياسي لمؤسس الجريدة. وتقول السيّدة أمل حوّا، كاتبة النص، إنّ الغرض الأساسي من كتابتها هو إزالة التشوّش والالتباس الذي فرضه بعض أصدقاء جوزف على فكره

 

جوزف سماحة

فوّاز طرابلسي يجمع موضوع الإنشاء المفكّك والمدّعي للسيّدة حوّا كمية من المغالطات بالمفرّق معطوفة على اختيار انتقائي استنسابي لبعض نصوص جوزف تجعلك تتساءل أين تعيين ونقاش الفكر السياسي لجوزف سماحة فيها؟ تعثر على تعيين لمصادر فكرية وتشخيص لأسلوب فكري ونقاش لاستراتيجيات وتكتيكات سياسية. ولا تجد إلا النذر اليسير من الفكر. تكفي نظرة إلى العناوين التي تتطرّق إليها حوّا لتبيّن بعدها عن دراسة في فكره السياسي: تجربة «الأخبار»، الصحافة السجالية والنضالية، الانتماء السياسي، مغالطات بالجملة، موضوع الأقليات (في «أسلوب» جوزف)، تجربة الحركة الوطنية، عهد أمين الجميل و١٧ أيار ١٩٨3، شخصية جوزف. لم أعثر على دراسة عن فكر جوزف السياسي. عثرت على شبه إعدام لأفكاره وكتاباته وممارساته السياسية، اللهم إلا في السنة الأخيرة من حياته. تفيدنا السيدة حوا بأنها لم تعد تمارس العمل الحزبي. مع ذلك، يبدو أن عدّتها «الفكرية» لا تتجاوز قلّة من المقولات الأكثر تبسيطية وجموداً علقت بها من نشاطها في إحدى الشلل التروتسكوية. ويمكن إجمالها باثنتين: واحدة إرادويّة مملّة تزعم أن الثورة جاهزة للاندلاع دائما وأبداً، لا تحتاج إلا إلى قيادة؛ وإذا بقيادة الثورة إما مفقودة وإما موجودة، لكنها تخون الثورة وتغدر بها دائماً وأبداً. والثانية نزعة في النقد وتحميل المسؤولية تجري على قاعدة ارتيابية تكفيرية لا تختلف بشيء عن نزعات التكفير الدينية أو الستالينية، عنوانها «أقربهم إليك، أخطرهم عليك». والأقربون هنا هم الشيوعيون اللبنانيون طبعاً، وبينهم كاتب هذه السطور الذي يصدف أنه من أوائل من ترجموا لتروتسكي إلى العربية.

الغائب الأكبر في هذا النص هو الحوار أكان مع جوزف أم مع كاتب هذه السطور الذي خصّته السيدة حوّا بمساحة رحبة في نصّها غير الرحب، على اعتباري المسؤول الأكبر عمّا يصيب فكر جوزف من تشوّش والتباس. ومرجعها في ذلك المبحث الفكري... شهادة شخصية كتبتها «الأخبار» ونشرتها بمناسبة الذكرى الأولى لوفاة جوزف. تنفي السيدة حوّا حقّي ادّعاء «سلطة معنوية» على جوزف باسم «التوأمة» التي عيّنتها تشخيصاً لعلاقتي بجوزف. لست أدّعي أصلاً أي «سلطة» في الحديث عن جوزف. مرجعي المعايشة والوقائع والحجج والبراهين. أما «التوأمة» بيني وبين جوزف، فمن المستحيل على السيّدة حوا أن تفهم ماذا تعنيه، علماً بأن علاقة الأخوّة والصداقة والزمالة الصحافية والرفقة النضالية والتواطؤ العميق التي بدأت عام ١٩٧٢ لم تحل دون نشوب خلافات في الرأي والسلوك وصلت إلى حدّ القطيعة المؤقتة مرات عدة، وهي لا تمنح «شِق التوأم» الباقي قيد الحياة سلطة أو وصاية أو حقاً وراثياً على حياة الآخر وأفكاره، لكنها لا تلزمه الصمت عما قد يختلف معه به من أفكار وأفعال.

جوزف الصحافي

جوزف سماحة صحافي. لم يرد أن يكون إلا صحافياً ملتزماً يوظّف الفكر لتحليل الخبر والحدث والسعي بواسطة ذلك للتأثير على أوسع دوائر الرأي العام والحضّ على الفعل. قضى كل حياته الراشدة في العمل الصحافي يمارسه لا بما هو مهنة يقيم بها الأود ويفي الديون، وإنما بما هو مناضل ملتزم في معارك التحرّر الوطني والتغيير السياسي والاجتماعي على امتداد العالم العربي والعالم. رفض أن يكون باحثاً أو أكاديمياً. وتخلّى عام ١٩٧٢ عن منحة من الجامعة اللبنانية لإكمال دراسته في الفلسفة في فرنسا ليتفرّغ لعمله الصحافي في «الحرية» ثم في «السفير» وفي «الوطن»، لسان حال الحركة الوطنية اللبنانية. وأود التذكير هنا أنه بتكليف من هذه الحركة الوطنية، أشرف جوزف على الإذاعة اللبنانية عامي ١٩٧٥-١٩٧٦ حيث رعى في ما رعى «بعدنا طيبين، قول الله»، برنامج زياد الرحباني وجان شمعون اليومي الساخر الذي اكتسب شعبية استثنائية لدى اللبنانيين على طرفي المتاريس. ولم يرَ جوزف إلى نفسه على أنه مفكر أو كاتب. كان يردد أنه ألّف كتابَين، فإذا به ينتج مقالين مطوّلين. مع أن هذا القارئ النهم قد يقرأ ثلاثة أو أربعة كتب من أجل أن يؤلف افتتاحية واحدة من ٦٠٠ كلمة! على أن كل هذا لا ينتقص شيئاً من حق من يرغب في استنتاج خلاصات في الفكر السياسي من كتابات جوزف. هذا هو جوزف الذي أعرفه. فلننظر إلى جوزف الصحافي من منظار حوا. تراه ينتمي إلى وسط من الكتاب والصحافيين احتل على مدى عقود «المساحة الزائدة» في الصحافة اللبنانية التي نتجت «من تضارب مصالح الطوائف الأساسية... ولقد شيّدت في هذا الشرخ مبان إعلامية وصحافية عديدة استوطنها يسار لبناني، ولا سيما أنه قادم من منظمة العمل الشيوعي». وما سهّل على المنظمة احتلال هذا الحيّز، حسب حوا، هو «الخلطة العروبية التي أضيف إليها بعض من المقولات الماركسية الرائجة. كان افتقار الوضوح الفكري والسياسي للمنظمة نافعاً. فقد تعلّمت قيادتها السباحة في كل الاتجاهات مع إبقاء المزايدات اللفظية كلما اقتضت الحاجة». (ص١٧ العمود الأخير، ص ١٨ العمود الأول). ولعل السيدة حوّا تعلم أن قيادة منظمة العمل الشيوعي السابحة في كل الاتجاهات والمزايِدة لفظياً وعديمة الوضوح فكرياً وسياسياً كانت تضم في عدادها الرفيق جوزف سماحة، عضواً في مكتبها السياسي وفي الأمانة العامة للجنتها المركزية (السكرتاريا). المشروع الصحافي الذي يحوز رضى السيدة حوا هو «مشروع الأخبار». على أنّ وصفها له لا يبدو أنه يشرّف مؤسسها ولا أسرة تحرير الجريدة والعاملين فيها. تُصوّر حوا الجريدة منقسمة إلى قسمين: قسم سياسي لـ«رافضي الهيمنة» يدافع عن المقاومة، وأقسام مهنية إذ «ترك جوزف للأقسام الأخرى في الجريدة مهمة تقديم صوت ديموقراطي علماني تحرري قومي ويساري، لأن هذا الموقع ما كان بإمكانه الدفاع سياسياً عن مقاومة متجسّدة بحزب ديني». لست أدري ما إذا كانت أسرة تحرير «الأخبار» معجبة بهذا التعريف لـ«مشروعها». السيدة حوا معجبة جرياً على مبدأ «الغاية تبرّر الوسيلة»، مع أنه مثل يضرب عادة في مورد الذمّ لا المديح والإعجاب، ولكن ليس في قاموس السيدة حوا.

الماركسيّة والعروبة

في تعيينها المصادر الفكرية لجوزف سماحة، تنفي أمل حوا عنه أنه ماركسي. إنما هو يستخدم الماركسية «لتوليف موقف قومي وما دون قومي». لم نفهم الـ«ما دون قومي» هذه، ولكن ليس هذا الأمر الوحيد الذي لن نفهمه في هذه المطوّلة. في قاموس حوا الفكري مقولة هي الـ«فوق وطني» استعصت على فهمنا بعض الشيء هي أيضاً. لا يهم ما إذا كان جوزف سماحة يعلن أو لا يعلن عن نفسه ماركسياً. المهم أنه فيما يتجاوز «الاستخدام» أو «التخليط» انتمى إلى محاولات توطين وتجديد للماركسية عربياً متأثراً بمصدرين رئيسيين. واحدهما مشروع الراحل ياسين الحفاظ، الربط بين القومي والوحدوي والديموقراطي واليساري، مشدداً على دور العقلانية في السياسة. والثاني بيئة منظمة العمل الشيوعي و«الحرية»، وقد كانت في السبعينيات مجلة اليسار العربي الجديد. على أن هذا لا يستنفد على الإطلاق جهد التحصيل والابتكار لجوزف نفسه بفضوله الكبير، وتساؤلاته اللامتناهية، وجهده الحثيث، وذكائه الاستثنائي، وسعيه الدائم لهتك الأسرار والغوص إلى ما هو أبعد من السطحي والبديهي، وفهمه الخلاق لظواهر جديدة في عصرنا، وأخيراً وليس آخراً إبداعه في اللغة وفن المقالة. تتبدى بصمات المنهج الماركسي عند جوزف في غير مورد. فهو من أوائل الكتاب الصحافيين العرب الذين انتبهوا إلى أهمية العولمة بما هي طور جديد في تطور النظام الرأسمالي، وإلى انعكاساتها. وتوقف طويلاً ناقداً مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه شمعون بيريز بما هو شكل جديد من الاستعمار الاقتصادي. ووفّر المنهج الماركسي لجوزف العِدّة النظرية لنقد مشروع الرئيس رفيق الحريري. ومنهجية جوزف الماركسية سمحت له بالاعتراف بوجود مسألة يهودية يسهم حلّها في تسوية عادلة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة على أرضه. تؤكد السيدة حوا إذاً أن جوزف «صاحب مشروع قومي»، علماً بأن معظم ما نلقاه في باب الفكر القومي عند جوزف يكاد يختزل بتأييد المقاومة وتحليل سلوك الطوائف والمذاهب اللبنانية. مع ذلك تعتبر حوّا جوزف يسارياً أيضاً، وإن كانت يساريته تتوخى «التمايز عن الماركسية ومفاعيلها»، لكن هذا التعيين لا يفيد جوزف الملام على الجهتين. فهذا اليساري مُصاب بانحرافات قومية خطيرة في التعاطي مع مسألة الأقليات، وهي المسألة التي تتخذها حوا «مدخلاً لفهم أسلوب سماحة». لم أفهم تماماً لماذا الموقف من مسألة الأقليات يدخل في باب الأسلوب، لا المضمون، ما دامت السيّدة حوّا تؤلف في الفكر السياسي. ولكن هذا أيضاً ليس الأمر الوحيد الذي لن يفهم في مطوّلتها الإنشائية. تخصص حوا ما يقارب الصفحة الكاملة لنقد «أسلوب» جوزف في مسألة القوميات. فإذا به صاحب أسلوب «قومي توتيري» لا يميّز بين الشعب الكردي وقياداته (هاكم القيادات مجدداً!) ولا يعنيه كسب الفئات التقدمية والديموقراطية والاشتراكية في الوسط الكردي، ولا يستطيع «أن يوقف العاطفة القومية السامّة تجاه الشعب الكردي والأقليات عموماً» (ص ٢٠). وسماحة فوق هذا كله ملام بما هو يساري يتشارك مع سائر الماركسيين والتقدميين الديموقراطيين العرب في التقصير تجاه الأكراد. واعلم أن الآنسة حوا ـــــ جرياً على مبدأ تخوين القيادات أيضاً وأيضاً ـــــ لا تعفي الحزب الشيوعي العراقي من التقصير تجاه الأكراد، بل تحمّله مسؤولية كبيرة عن مآسي الشعب الكردي، فـ«منذ اعتماده سياسة الجبهات التقدمية مع البعثيين، لم يتمايز موقعه كثيراً عن موقف هذا النظام». يبدو أن الصحافية أمل حوا توقفت عن متابعة الوضع في العراق منذ نيف وثلاثين سنة، فلم تسمع بأن «سياسة الجبهات التقدمية» أغرقها حزب البعث بقيادة صدام حسين بالدم عام ١٩٧٩ عندما شنّت أجهزته الأمنية حملة إرهاب قتلت الألوف وشردت عشرات الألوف من الشيوعيين والتقدميين والديموقراطيين العراقيين!

بالأحمر كفّنّاه!

تمتدح السيدة حوا الحزب الشيوعي اللبناني لانفراده في موقف ليس بالتفصيلي في حياة لبنان، هو رفضه الانحياز إلى أي من معسكري ١٤ و٨ آذار، وطرحه «خطاً ثالثاً». لكنها تأخذ عليه أنه «تصرّف كطائفة بدل أن يكون في القلب من التظاهرات الحاشدة في كلا المعسكرين حاملاً شعاراته الخاصة حتى لو تطلّب ذلك منه أن يدفع ثمناً لموقفه». عجيب أمر المفكرة السياسية أمل حوا! الحزب الشيوعي «يتصرّف كطائفة» لأنه رفض الانضواء في واحد من معسكرين مفروزين على أساس طوائفي ومذهبي. والبديل؟ جاهز. كان على الحزب الشيوعي المشاركة في التظاهرتين، بما فيها تظاهرة معسكر ١٤ آذار التي تعتبرها أمل تظاهرة المعسكر الموالي لأميركا والمعادي للمقاومة. وفيما لو أخذ الحزب الشيوعي باقتراح السيدة حوا فسار في التظاهرتين، هل سوف يدفع ثمناً لموقفه هذا غير اتهامه بالانتهازية واللعب على الحبلين؟! وعلى الرغم من تقدير حوا لموقف الحزب الشيوعي في ذلك المفصل التاريخي، فهي تستهجن لفّ نعش صديقها بالعلم الأحمر بحجة أن جوزف ليس ماركسياً ولأن السيدة حوا «لم تسمع يوماً جوزف يدعو اليساريين إلى الانضمام إلى الحزب الشيوعي». أنت لم تسمعي، سيدة حوا. أنا سمعت. دعاني جوزف أنا والرفيق والصديق زهير رحال غير مرة لننتسب الثلاثة معاً إلى الحزب الشيوعي. ولمّا تمنّعنا، استشار جوزف صديقاً له في قيادة الحزب ما إذا كان سوف يقبل به الحزب في حال تقدّمه بطلب انتساب، فنصحه الصديق بعدم المحاولة. مهما يكن، لم تفلح تجارب العمل المشترك مع الحزب الشيوعي التي بدأناها معاً منذ عام ١٩٩٦ في تحقيق مشروعنا المشترك إعادة تأسيس اليسار وتوحيده، فأطلق جوزف معادلته الشهيرة «لا يستطيع اليسار شيئاً من دون الحزب الشيوعي ولا يبدو أنه يستطيع شيئاً معه»، وهي معادلة يبدو أن قيادة الحزب الشيوعي لا تزال تصرّ على تأكيد صحتها سنة بعد سنة.

في تجربة الحركة الوطنية اللبنانية

وهذه مغالطاتي بالجملة: «لم يكن غمز فواز للحزب الشيوعي من قناة جوزف مصدر التشويش الوحيد في هذا المقال. بل يمكن اعتبار هذا المقال نموذجاً لما قصدناه بقولنا إن أصدقاء سماحة كانوا المساهمين الأساسيين في الالتباس الذي أحيط بمواقفه. سنكتفي في هذه المقالة بتناول الجانب السياسي ونترك جانباً الانطباع السلبي الذي يتركه المقال حول شخصية جوزف، إذ يظهره كشخص متقلّب وعابث حتى في السياسة «يوظّف كلّ تربيته الفلسفية لممارسة لعبته الأثيرة في أن يقنعك بوجهة نظر، ثمّ يقنعك بنقيضها». لقد حاول فواز الاستعانة بسلطة معنوية لتأكيد رأيه، باعتبار أن بينه وبين جوزف «شبه توأمة لا فكاك منها»، ومن ذا يعرف شقه التوأم أكثر منه. ولكن يتبيّن لنا أن طرابلسي يتحاشى فهم صديقه لأنه يتحاشى الخوض في النسق السياسي الذي أعاد سماحة تكراره منذ الحرب الأهلية، أي منذ أن كان طرابلسي مسؤولاً بالقدر نفسه عن السياسة التي اتبعتها منظمة العمل الشيوعي آنذاك. يحاول فواز إقناع القارئ بأن سماحة انفضّ عن المشروع الذي أسّس لقيام «الأخبار»، وهي أولى تلك المغالطات. فهو يقول إن سماحة «ذهب إلى النهاية في ما اعتقده مشروع تغيير في لبنان يحسم الصراع بين خط «أميركي» وخط «وطني قومي مقاوم». فوضع كل ما أوتي من موهبة وقدرة جدلية دعماً لمشروع المعارضة حسم المعركة بإسقاط الحكومة في الشارع. ولكن جوزف كان قد تعلّم من الدرس الأليم لحروب 1975ــ1990. فتوقّف عند «الخطّ الأحمر»: الاقتتال الأهلي، وقد لاحت بوادره في كانون الأول الماضي، فقال: كفى. هذه «الكفى» هي في اعتقادي وصية جوزف، بل صيحته، في وجه المعسكرين المفلسَين في لبنان». لست أدري أين ولماذا أسعى إلى «تحميل جوزف وحيداً التراث الفكري والسياسي الذي رافع سلوكيات جيل يساري بكامله». لم تكن لي القراءة ذاتها لسلوكيات الجيل اليساري المذكور كالتي لجوزف. وإني أتحمّل مسؤولية أكبر بكثير من التي يتحملها هو بسبب فارق العمر والأسبقية في العمل الحزبي ـــــ وقد دخل جوزف إلى المنظمة عن طريقي ـــــ عدا عن المسؤولية القيادية وطول المدة التي عشتها في العمل الحزبي. وقد أجريت في غير كتاب ومقالة ودراسة التقويم والمراجعة والنقد الذاتي لتجربتي في صفوف اليسار والحركة الوطنية، أحيل حوا عليها علّها تتحفنا إذ ذاك برأيها الفكري النقدي فيها. ترى حوا أن جوزف كرّر مع حزب الله والسيد حسن نصر الله خطأه التكتيكي في تجربته مع الحركة الوطنية في الحرب الأهلية ١٩٧٥-١٩٩٠. أي إن جوزف في القسم الأكبر من حياته الصحافية والفكرية والسياسية كان ضحية وهم كبير لإغفاله مسألة «القيادة» في الحالتين، ولم يشذّ عن هذا الانحراف جزئياً إلا مطلع عهد أمين الجميل وكلياً في آخر سنة من حياته مع «مشروع الأخبار». وهذه خلاصة تقويم حوّا لفكر جوزف سماحة السياسي. تنكر السيدة حوا على الحركة الوطنية بالجملة حملها خطاباً ديموقرطياً وعلمانياً «على الأرض»، على اعتبار أن الخطابات تلقى عادة على الأرض! وفي حين أن «المشروع الأميركي الإسرائيلي» يحضر حضوراً كثيفاً عند حوا في حالة المقاومة الإسلامية، فالمشروع المذكور لا يحضر إطلاقاً في حالة الحركة الوطنية في السبعينيات من القرن الماضي. هنا تحضر مسألة «القيادة» والترسيمة إياها: الفشل ناجم عن انقياد الشيوعيين لزعامة كمال جنبلاط وتوهمهم «أن الأخلاقيات هي التي تحرّك زعيماً طائفياً لتجيير قواعده الطائفية لمصلحة مشروع وطني. ربما اعتقدا (الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي) أن المصلحة الطائفية والطبقية لجنبلاط عرضية؟». لا يمكن أن تتصوّر السيدة برحابتها الفكرية المشهودة أن زعيماً لطائفة أقلوية قد يرى أن من مصلحة موقع طائفته في التركيبة اللبنانية أن يحالف حركة شعبية عابرة للطوائف والمناطق والشرائح الاجتماعية، تسعى إلى تجاوز النظام الطوائفي بالعبور إلى دولة المواطنين الديموقراطية والعلمانية، بالاستعانة بوزن وضغط المقاومة الفلسطينية بكل ما حمّلها ذلك من أثقال واستثار من انقسامات. لا وجود في نقد حوّا لتجربة الحركة الوطنية في الحرب، للميليشيات الكتائبية وتغليبها السلاح للمحافظة على نظام التمييز الطوائفي والطبقي ورفعها شعار رفض التوطين من أجل إجلاء المدنيين الفلسطينيين بالجملة عن لبنان. ولا حضور لـ«مشروع إسرائيلي أميركي» لاقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان وإخراج الشعب الفلسطيني من الحل العربي الإسرائيلي تمريراً لاتفاقية كامب ديفيد. ولا يرد في البال عدوان عام ١٩٧٨ واحتلال الشريط الحدودي ولا التعاون الكتائبي ـــــ الإسرائيلي، ولا تنصيب الدبابات الإسرائيلية لبشير الجميّل رئيساً على لبنان، ولا توريث أخيه في ظل المفاعيل ذاتها. كل هذه لا ترد في نقد السيدة حوا، وهي العدو اللدود لـ«المشروع الإسرائيلي الأميركي» الحالي. لا يرد غير مسألة القيادة. وهي لا تكتفي بإنكار أي صفة ديموقراطية وعلمانية لليسار في الفكر والممارسة. وإنما يحتلّ جوزف في نقدها دور المبرّر للحركة الوطنية في عملها على تكتيل القوى الطوائفية حول القيادة الجنبلاطية. أما السيدة حوا، ورفاقها، فقد كانوا يمارسون معتقداتهم الديموقراطية والعلمانية من خلال القتال في صفوف منظمة الصاعقة وجبهة التحرير الفلسطينية. معلومة إضافية للسيدة حوا عن مصائر أطراف الحركة الوطنية. قد يكون جوزف حمّل وليد جنبلاط المسؤولية عن انفراط عقد الحركة الوطنية عندما كتب عنها عام ١٩٨٥. ولكن جوزف عند خروجه من منظمة العمل الشيوعي وانتقاده الحركة الوطنية بما هي فيدرالية طوائف عام ١٩٨٠ وانسجاماً مع فكرته القائلة بأن محاولة التغيير قد صدّعت الوحدة الوطنية، تصوّر عملية إعادة بناء تلك الوحدة حول قطب هو جبل لبنان، وعلى ركيزتين هما وليد جنبلاط وبشير الجميّل. ولهذا الغرض انخرط في شراكة لم تدم طويلاً مع سمير فرنجية لمساعدة وليد جنبلاط على إعادة بناء الحزب التقدمي الاشتراكي على أسس جديدة ليؤدي دوره في تلك المهمّة التوحيدية.

عهد أمين الجميّل و١٧ أيّار ١٩٨٣

أرادت حوا أن تكحّل موقف جوزف من عهد أمين الجميّل واتفاقية ١٧ أيار فأعمته عمىً. تقول إني ألمح بأن موقف جوزف من عهد أمين الجميل كان ملتبساً. لم ألمّح. أقولها جهاراً نهاراً إن موقف جوزف مطلع عهد أمين الجميل واستتباعاً من اتفاق ١٧ أيار وانطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية لم يكن ملتبساً، بل كان أبلغ خطأ ارتكبه في مسيرته السياسية. أما حوا، فمع أنها تقول إنها لا تتّفق وتحليلات جوزف من نظام أمين الجميل والاتفاقية، إلا أنها تريد «إنهاء اللغط المستمر حول هذا الموضوع مرة نهائية». وهي تنهي اللغط بهذا اللغط: «لقد استفاض سماحة في شرح موقفه من اتفاقية ١٧ أيار، لم يكن مؤيداً للاتفاقية، ولا متعاوناً مع العدو، بل كان يقرأها ويتعامل مع حكم أمين الجميل على خلفية الشحن المذهبي والجو المعادي للفلسطيني في مناطق سيطرة المقاومة سابقاً، وعدم التكافؤ الكبير في ميزان القوى العسكري والسياسي، الاحتلال [كذا]، انخراط العرب [كذا بالجملة] في المشروع الإسرائيلي وغياب قوة محلية وعربية قادرة على صياغة خطاب تتماهى معه تيارات سياسية في العاصمة بيروت». لست أعرف أحداً اتهم جوزف بـ«التعاون مع العدو». أما عدم التكافؤ في ميزان القوى العسكري والسياسي مع إسرائيل، وانخراط «العرب» في المشروع الإسرائيلي وغياب قوة محلية وعربية قادرة على صياغة خطاب تتماهى معه تيارات سياسية في العاصمة بيروت ـــــ فهذه حجج لو أردنا تطبيقها الآن على وضع المقاومة الإسلامية لوجب الانضواء تحت رايات الجناح الأكثر تطرفاً في ١٤ آذار والمطالبة بنزع سلاح المقاومة والدعوة إلى انخراط لبنان في مفاوضات سلام فورية مع إسرائيل. «انخراط العرب في المشروع الإسرائيلي». لاحِظوا الدقّة الفكرية عند السيدة حوا. هكذا «العرب» بالجملة؟ بالمئتي مليون ونصف المليون منهم؟ أين ذهب التمييز التروتسكوي بين القيادات والشعوب؟! وقد يسأل سائل: «غياب قوة محلية في بيروت». وماذا عن قوى حاضرة تقاوم في الجنوب والبقاع المحتلّين بعدما أنجزت إخراج الإسرائيليين من بيروت؟ ولكن، ما الحاجة إلى كل هذه الفذلكة ما دام جوزف نفسه اعترف بخطأ رهانه على دور أمين الجميل في مهمة إعادة التوحيد الوطني مؤكداً أن الهيمنة غلبت على همّ التوحيد فأدّت النتيجة العكسية؟ تبقى اتفاقية ١٧ أيار ١٩٨٣ وانطلاقة «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» ضد الاحتلال الإسرائيلي. تقتضي الأمانة لفكر جوزف، وواجب الصداقة والأخوة أن لا نغفل هذه السقطة من سقطاته التي سرعان ما تراجع عنها. كتب جوزف بعنوان «المقاومة الوطنية اللبنانية بين الفعالية والتشبيح» (مجلة الشراع، العدد ٤٧، ٧ شباط ١٩٨٣) مهاجماً رافضي التفاوض مع إسرائيل ـــــ ولنعترف أنهم كانوا قلّة آنذاك ـــــ والداعين إلى أولوية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، واتهمهم بـ«التشبيح» وبانعزالية يسارية «مغامرة وعدمية وطنياً» تتغافل عن الانقسام الأهلي اللبناني وتتجاهل الوضع العربي وتنوي «تحميل لبنان الممزّق كل مسؤولية العرب». ودعا جوزف إلى توظيف العمليات العسكرية لـ«جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» في المفاوضات اللبنانية ـــــ الإسرائيلية في خلدة والخالصة بما هي «ورقة سياسية مستخدمة في الصراع مع إسرائيل، هذا الصراع الذي تمثّل المفاوضات إطاره الرئيسي اليوم». ورأى في الموقف الرسمي اللبناني من المفاوضات ـــــ أي موقف أمين الجميل وعهده ـــــ «تعبيراً معقولاً عن نقطة توازن» في المواجهة اللبنانية العامة لإسرائيل.

في الاختيار بين «ضفّتين»

تنفي حوا أن سماحة دعا إلى حسم الصراع لمصلحة أحد المعسكرين المتصارعين في لبنان، بل ترى زعمي دليلاً على أن جوزف قد انفضّ عن «مشروع الأخبار» الذي تدّعي أنه كان قائماً على البحث عن تسوية بين المعسكرين. والآن، وبعدما أطاحت حوّا كل ما مارسه جوزف سماحة في حياته المهنية والسياسية، لا يبقى ما يثير إعجاب السيدة حوا إلا تلك السنة الأخيرة من حياة جوزف التي تميّزت، برأيها، عن المراحل السابقة، بـ«البعد المسيحي» الذي ضمن للمقاومة بعداً وطنياً». استخدم جوزف طويلاً كنية الضفّتين للإلحاح على ضرورة الخيار بين معسكرين متنازعين في المنطقة. ومن لا يفهم الإلحاح لدى جوزف على الاختيار في الوقت الذي تلوح له إمكانية التغيير، لن يفهم وظيفة الصحافة عند جوزف كأداة تحريض ودفع على الفعل. إذ ذاك غلبت الثنائيات المتعادية على كتاباته، على ما لاحظ صديقه حازم صاغية. وكان جوزف يحب أن يصدّق أن المنازلة بين فريق المشروع الإسرائيلي الأميركي وفريق الممانعة الإيراني السوري والمقاومة، لا بد أن تنتهي بالنصر لواحد على الآخر. ولم يحسب حساب أن تنتهي المنازلة بالتعادل أو التسويات. لن أفرد المزيد من المساحة والوقت للاستشهاد بكتابات جوزف في تلك الفترة. أحيل حوّا على واحد من أقرب الأشخاص إلى جوزف في فريق تحرير «الأخبار». يؤكّد خالد صاغية أن جوزف كان يرى أن انتصار حرب تموز يمنح المقاومة وحلفاءها الحق في الحكم: «كان رئيس التحرير المؤسّس جوزف سماحة يحمل حلمين كبيرين: حلم سياسي بالتغيير مدفوعاً بنتائج حرب تموز، وحلم مهني بتجديد الصحافة اللبنانية والعربية. وكان أستاذنا الراحل يعتقد أنّ لـ«الأخبار» دوراً تؤدّيه على هاتين الجبهتين. حين توقّف قلب جوزف عن الخفقان، كان قد بات واضحاً أنّ التغيير السياسي ما زال عصياً في هذا الوطن المعلّق. وقد عبّرتْ عن ذلك مقالات جوزف الأخيرة. كتب فواز طرابلسي في رثائه: «أعرف أمراً واحداً: كنتَ تتمزّق بين رغبتك في «تغيير» نذرنا له العمر كلّه... وخوفك من تكرار الاقتتال الأهلي». ويكمل خالد قائلاً: «كان جوزف يتمزّق فعلاً، لكنّ مقالاته بقيت تراقص الكلمات» («الأخبار»، ١٤ تموز ٢٠٠٨).

يقنِعك بالفكرة ويقنعك بنقيضها

أخيراً، تتّهمني حوّا بأني أنعت جوزف شخصياً بالعبث والتقلّب لقولي إنه «يوظّف كلّ تربيته الفلسفية لممارسة لعبته الأثيرة في أن يقنعك بوجهة نظر، ثمّ يقنعك بنقيضها». عرف جوزف عدداً من التحوّلات في مسيرته السياسية. يعود بعضها إلى موجبات العمل الصحافي وبعضها الآخر إلى مراجعاته لتجاربه أو إلى اجتهادات فسّر بها أحداثاً وتطورات معينة، أصاب فيها أحياناً وأخطأ أحياناً أخرى، كحالنا جميعاً. ولم يكابد صحافي النتائج السلبية للمهنة قدر ما كابدها جوزف وهو يتنقّل من صحيفة إلى أخرى بحثاً عما يقيم الأود ويعيل الأسرة ويفي الديون. والسبب بسيط: إن جوزف رجل حرّ. وقد كان عبقرياً في التحايل على ما تنطوي عليه مسؤولياته التحريرية من قيود ومحرّمات

دماثته الفائقة، لكن على حساب أعصابه ـــــ وقلبه! ـــــ إلى أن لا يعود يطيق الحدود المفروضة عليه، فينفجر مرة واحدة ويغادر. وأما البعض الآخر من التحولات في مواقف جوزف ـــــ التي وصفها صديق آخر له هو محمود درويش بـ«تقلّبات» في رثائه له ـــــ فتقع في باب التجربة والخطأ. والموقف من عهد أمين الجميل واتفاق ١٧ أيار واحد منها. لم أكن أشير إلى تحولات جوزف السياسية عندما تحدثت عن ولعه بلعبة المجادلة وإثبات الشيء وعكسه. كنت أفكّر بعادة يمارسها في النقاشات الشفوية تدلّ عميق الدلالة على ذكائه ومقدرته الجدلية. مع ذلك، أقول: نعم، مارس جوزف الإقناع بالفكرة ونقيضها في كتابته الصحافية. هذان مقالان عن ميشال عون و«التيار الوطني الحر» تفصل بينهما ثلاث سنوات. الأول يُقرأ من عنوانه: «بول بوت عون» (السفير، ١٩ تشرين الأول ٢٠٠٣) يشبّه فيه جوزف الجنرال بالزعيم الدموي للحزب الشيوعي في كمبوديا، مرتكب مجازر الإبادات الجماعية الموصوفة فيها. ويزيد عليه باتهامه بالعمالة، فيدرج عون في سلالة قرضاي وأحمد الجلبي. وقائد «التيار الوطني الحرّ» في هذا المقال صاحب «وعي خرافي»، نصه السياسي «توتاليتاري مغلق»، يحتقر المواطنين الذين يتلاعب بهم منذ ٢٧ عاماً. ويخلص جوزف إلى التنبيه من أن عون «كائن ضارٌ سياسياً». النص الثاني عنوانه «الخصوصية العونية» (الأخبار، ١٦ تشرين الأول ٢٠٠٦) يصير فيه الخرافي الذي يحتقر المواطنين لاعباً لدور قيادي ضمن البيئة المسيحية من خلال تمثيله الصادق للطبقات الوسطى المسيحية في مطالبها الديموقراطية والحداثية والنسوية. وإذا قرين قرضاي وأحمد الجلبي في العمالة ينقلب سيادياً، بل وطنياً نجح في أن يعمّم موقفه ضد «العدو الإسرائيلي» على كوادر «التيار» وأعضائه والجمهور الأوسع. ولا يتردد جوزف في تأييد ميشال عون في دفاعه عن «البيئة المسيحية» ضد استئثارية الفريق الحاكم (السنّي، على ما افترض) على اعتبار أن ذلك ليس بالموقف الطائفي إلا في معناه الإيجابي. وبعد، أليس جوزف مقنِعاً في الحالتين؟!

أبو داوود (أرشيف)توفي «نخلة عمان» ظريف الطول، الذي تغنّت به شاعرة فلسطين مي صايغ، عن 73 عاماً، قضى معظمها مناضلاً وطنياً لم تغب فلسطين أبداً عن ناظريه

محمد سعيدمحمد داوود عودة «أبو داوود»، المولود في سلوان في القدس المحتلة، احتضنه تراب دمشق أول من أمس، بعدما استعصى «فشله الكلوي» على المعالجة. دمشق كانت أكثر العواصم العربية التي احتضنته ولم يكن يوازيها في ذلك سوى بيروت، التي انتقل إليها بعد «هزيمة المقاومة» في عمان، حيث اعتقله ضباط استخباراتها في عام 1973، بعد كشف أحد أعضاء فريقه خطته للقيام بعمليات في عمّان تهدف إلى السيطرة على مجلس الوزراء الأردني والسفارة الأميركية بهدف الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين في سجون الأردن. ولم ينقذ أبو داوود من تنفيذ حكم الإعدام، الذي صدر في حقه، سوى الملك حسين في ذلك الوقت، ضمن صفقة سياسية لم يُكشف عنها بعد.وخلال اعتقاله في عمان، الذي دام بضعة أشهر، أنشدته مي الصايغ قصيدتها نخلة عمان التي تقول فيها: «يا ظريف الطول يا طول النخل يا رايح عمان تلم الأهل».وبعد إطلاق سراحه انتقل أبو داوود إلى بيروت، وعُيِّن قائداً عسكرياً لمنطقة بيروت الغربية، وخاض حربها الأهلية ومعركة الدفاع عن المقاومة والحركة الوطنية.أبو داوود، الذي انضم إلى حركة فتح في منتصف الستينيات من القرن الماضي وترك عمله في وزارة العدل في الكويت، كان كغيره من شباب فلسطين منتمياً إلى حزب البعث، لكنه فضّل الالتحاق بـ«فتح» إيماناً منه بأن نهج الكفاح المسلح هو الأسلوب الوحيد لحل التناقض التناحري بين الشعب الفلسطيني والأمة العربية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.اختار أبو داوود لدى تفرغه في «فتح» العمل في صفوف جهازها الأمني، ليكون من أوائل الذين تلقّوا دورات التدريب الأمني والاستخباري لدى جهاز الاستخبارات المصري في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.عمل أبو داوود عن كثب مع صلاح خلف «أبو إياد»، الذي كان مسؤولاً عن جهاز «الرصد الثوري»، الذي كان بمثابة جهاز أمن «فتح». وعشية «أيلول الأسود» في عام 1970، كان أحد قادة الميليشيا في عمان، والتي تصدّت إلى جانب الفدائيين لمؤامرة التصفية التي تعرّضت لها المقاومة في الأردن وانتهت بخروج من بقي منهم من الأردن في تموز 1971.أبرز حدث التصق اسم أبو داوود به هو عملية ميونخ خلال دورة الألعاب الأولمبية في أيلول 1972، والتي خطط لها بالتعاون مع أبو إياد وأشرف على تنفيذها باقتدار، لتخرج إحدى الصحف الجزائرية بالفرنسية بعنوان «الفلسطينيون حصلوا على الكأس» في دورة لا فريق رياضي لهم فيها.كل من عرف أبو داوود يؤكد أنه لم يكن يقبل المساومة في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، حتى عندما اعتقد أن أوسلو ستعيده إلى سلوان، وهو ما حدث بالفعل تحت شروط إسرائيلية، وعندما قررت إسرائيل طرده غيابياً بقي في دمشق.اختلف أبو داوود مع قيادة «فتح»، ومع ياسر عرفات تحديداً، بطرحها برنامج النقاط العشر في عام 1974، وانضم إلى تكتل المعارضين في المجلس الثوري، الذين كان أبرزهم صبري البنا (أبو نضال) وناجي علوش (أبو إبراهيم)، والذين خاضوا صراعاً مع من سمّوهم «خط التسوية» الذي لجأ إلى حسم الصراع معهم بالعنف المسلح والاغتيال.وقاد الثلاثة ما سمّي «فتح: المجلس الثوري»، لكن الاتفاق بين الرفاق الثلاثة انفصمت عراه، وخرج أبو داوود أولاً ليعود إلى حضن أبو إياد، وليصبح هدفاً لأبي نضال، وبعدها خرج أبو إبراهيم ليؤسس «الحركة الشعبية العربية» ويلتحق به العديد من كوادر «فتح: المجلس الثوري».بعد خلافه مع أبو نضال تعرّض أبو داوود لمحاولة اغتيال في العاصمة البولندية، وارسو، عام 1981، وأُصيب بسبع رصاصات في أماكن مختلفة من جسده، إلا أن هذه الرصاصات لم تمنعه من الركض وراء الشخص الذي حاول اغتياله في ردهات الفندق. حتى إن كثيراً من الحضور كانوا ينظرون إلى المشهد كأنه فيلم سينمائي، وظل أبو داوود ينزف طيلة ساعتين حتى وصلت سيارة الإسعاف، وبقيت آثار رصاصات القاتل في فكه، الذي لحقه بعض التشوّه، لكنها لم تشوّه التزامه الوطني.مع تفاقم حدة الأزمة داخل «فتح»، بعد الخروج من بيروت، بين خط «اختيار المنافي» وخط التمسك بالقتال ورفض الذهاب إلى المنافي في تونس والجزائر والسودان واليمن، فضّل أبو داوود أن يكون وسيطاً، لكنه لم ينجح، لأن حجم الخلاف كان أكبر ممّا كان يعتقد. فالخلاف كان استراتيجياً على امتداد الوطن العربي كله، الذي انضم قادة دوله إلى ما يسمّى «خيار السلام الاستراتيجي» الذي أدّى حتى الآن إلى حكم ذاتي هزيل.

عدد الاثنين ٥ تموز ٢٠١٠ |

الكينغ جون غينغ من غزّة إلى بيروت

غينغ قال لما رأى أعلام حزب الله في ضاحية برج البراجنة: «أحس اني  بامان»غينغ قال لما رأى أعلام حزب الله في ضاحية برج البراجنة: «أحس اني بامان»هو الشجاع الذي لم يستجب إلا لضميره. هو مدير عمليات الأونروا في غزة، جون غينغ، الذي وصل إلى بيروت لتسلّم تبرعات تلامذة لبنان. وفي المخيّمات طمأن إلى «أن المسافة من غزة إلى بيروت قصيرة لا تتعدى 250 كلم»، على أمل اللقاء «في القدس إن شاء الله»، كما قال

 

كيفها غزة؟، تسأل إحدى المسنّات الفلسطينيات في جمعية «الشيخوخة السعيدة» في مخيم برج البراجنة، الزائر الآتي من قطاع غزّة المحاصر، مدير العمليات في الأونروا هناك جون غينغ، مردفة سؤالها برشق من الأسئلة: «أختي عايشة هناك، رح ترجعوا تعمّروا القطاع؟». كان لا بد بداية من ترجمة فورية قام بها للضيف، محمد خالد، مدير الأونروا في بيروت. يجيب غينغ بلهجة عربية مكسّرة: «إن شاء الله». لا يشفي الجواب غليل السيدة، فتضيف «إسرائيل ما بتحترم حقوق الإنسان، بان كي مون كان بغزة بيحكي بس ما بيعمل إشي» تقول المسنّة. يجيبها غينغ ضاحكاً بالإنكليزية هذه المرة، في محاولة لإرضائها «إذا كان هو لا يفعل شيئاً، فنحن نقول ونفعل». هكذا، بدأ جون غينغ أمس زيارته إلى لبنان، لتسلّم شيك مالي عبر وزارة التربية تبرع به تلامذة مدارس لبنان الرسمية والخاصة لأطفال غزة. وأولى محطاته كانت جولة في مخيم البرج. ومع أن شهرته طبقت الآفاق حين جاهر من غزة التي كانت تتعرض لأبشع أنواع الإعتداءات بموقف إلى جانب ضحاياها، في موقف عزّ نظيره لموظف أممي، إلا أن أبناء المخيّم لم يتعرّفوا حقاً على الزائر الذي كانت نسوة المخيم يسمّينه في حرب غزة «الزلمي بالأونروا اللي هاجم إسرائيل». فخارج الشاشة، كان مجرد «أجنبي آخر» يجول في مخيّمهم. لذلك، تولى محمد خالد التعريف «زائرنا اليوم من غزة وهو جون غينغ مدير عمليات الأونروا هناك». اليوم، حلّ «اللي هاجم إسرائيل» في مخيماتهم التي قارنها بنظيرتها في غزة: «الشوارع هناك أوسع من هنا»، قال. بعد المخيم توجّه غينغ إلى مدرسة اليرموك في منطقة العنّان. على الطريق شاهد الرجل أعلاماً لحزب الله، فسأل: «أين نحن»؟ يجيبه خالد: «أنت في الضاحية حيث مناطق نفوذ حزب الله»، يجيب غينغ مبتسماً: «الآن شعرت بأمان». زيارته المخيم مثّلت له «صدمة»، قال لـ«الأخبار»: «صُدمت لرؤيتي طريقة العيش فيه». في مدرسة اليرموك زار الصفوف الابتدائية، التي سمع من الأطفال فيها «ما يدهش»، كما قال. هنا تقف فرح من الصف الرابع ابتدائي لتطالب «بإعادة إعمار غزة»، تغار صديقتها لتقول: «أنا مستعدة لأتبّرع بدمي من أجل غزة». يعدهما غينغ بحمل رسائلهما إلى أطفال غزة. ثم جلس غينغ مع إدارة المدرسة في انتظار وصول «مناقيش الزعتر». وفي الانتظار، تحدث عن سياسته «هناك»، فهو يعمل على تعليم أطفال غزة أن «سياسة العصا في المدارس، التي ترمز إلى الخوف، لا تنفع، يجب أن نعلّم الأطفال كيف يفكرون ليتعلموا كيف يواجهون، وخصوصاً إذا رأوا دبابة إسرائيلية تقتحم منازلهم». هكذا، جلس الأساتذة للاستماع إلى الرجل الذي أدهشهم بشجاعته المستمرة. تحرك الموظف الأممي غير الدبلوماسي، ليؤكد ما كانت إسرائيل تنفيه دائماً حينها، بأنها لم تكن تعلم بوجود مدنيين في المدارس التي قصفتها. غينغ طالب خلال الحرب بتحقيق دولي وذلك لامتلاكه «الأدلّة ومشاهدتي بأمّ العين الواقع على الأرض» كما قال لـ«الأخبار». مواقف كان أشد ما يكون بحاجتها أبناء غزة خلال الحرب التي شنّت عليهم، هذه المواقف لم تعجب إسرائيل فشنّت عليه وسائل الإعلام العبرية حينها حملة تشككت بحياديته كموظف أممي. هكذا، توجه غينغ إلى وزارة التربية حيث عقد مؤتمراً صحافياً مع وزير التربية حسن منيمنة وصاحبة المبادرة وزيرة التربية السابقة بهية الحريري. قال منيمنة إن المبادرة «انطلقت إثر الحرب المجنونة التي قامت بها اسرائيل على القطاع وأدت إلى دمار مادي وبشري، وما يزال القطاع يعاني والضفة والقدس، وخاصة هذه الأيام من عمليات تهويد وإبادة وإصرار على رفض السلام، وخصوصاً المشروع العربي»، مضيفاً «بادرت وزيرة التربية السابقة بهية الحريري إلى دعوة طلاب لبنان للمساهمة في دعم إخوانهم، قامت بحملة تبرعات من طلاب لبنان في التعليم الرسمي وبعض المساهمات من الطلاب في التعليم الخاص، أي كل أطفال لبنان ساهموا في هذه الحملة لبناء مدرسة صغيرة في غزة، والمبلغ الذي جمع 266 ألف دولار». من جهتها، قالت النائبة بهية الحريري إنه «في فترة الحرب على غزة طالب الجميع بأي مبادرة لمساعدة الغزاويين، وعندما دمرت المدارس كانت هناك مبادرة لدعم حق الأطفال الفلسطينيين بالتعلم، وعندنا ثقة بالأونروا لهدف المبادرة وحفظ منظومة التعليم سواء في الداخل أو الخارج».

ودعت إلى أن «تكون هناك مبادرة مماثلة في هذا المكان الذي هو ملك للمسلمين والمسيحيين والإنسانية». وفي مؤتمر صحافي في مقر الأونروا في بئر حسن، قال غينغ إن «الحصار على غزة غير محتمل والوضع الاقتصادي يزداد سوءاً، إذ كان هناك 126 ألف عامل في القطاع الخاص، فخسر 95% منهم عملهم و80% من سكان القطاع يعتمدون على الإعاشة التي توزعها الأونروا، كما أن البيئة هناك غير ملائمة، إذ إن 70 مليون ليتر مكعب من مياه الصرف الصحي تذهب في البحر نتيجة سوء البنى التحتية». وقال إن الحصار «غير مقبول، فهو أسلوب كان يعتمد في القرون الوسطى ولا يجب اتباعه في عام 2010، فحينما كانت برلين محاصرة تداعى العالم لتحريرها، واليوم المشكلة أن السياسيين لا يملكون الإرادة اللازمة لفك الحصار عن القطاع». أما عما تعرض له بعد تصريحاته النارية خلال الحرب فيقول «الحقائق هي الحقائق، وما قلته هو ما رأيته وأملك أدلة على ذلك، لكن الأهم هو اليوم وكيفية العمل على فكّ الحصار الذي ينعكس سلباً على حياة 750 ألف طفل وعلى النساء اللواتي يتأثرن بدورهنّ. اما الوحيدون الذين لن يتأثروا فهم عناصر الميليشيات الذين لا يزالون يطلقون الصواريخ حتى الآن».

تضامني طبيعي فأنا الإيرلندي

أراد بعض موظفي الأونروا في بيروت أن يطلقوا لقب «الكينغ» على مدير عمليات الأونروا في غزة جون غينغ، بسبب مواقفه الجريئة ومساندته للشعب الفلسطيني في غزة. لكن بالنسبة إلى مدير العمليات في غزة فإن تضامنه أمر طبيعي لأنني «أتيت من إيرلندا، وشهدت ماذا فعل الاحتلال في بلدي. لذلك يجب أن ينتهي الصراع الآن رأفة بأرواح من بقي» كما قال. يضيف ضاحكاً ناصحاً بإعطاء لقب «الكينغ لمساعدة مدير الأونروا فهي بريطانية الجنسية، وهم الملوك وليس نحن». يشار إلى أن غينغ خدم برتبة ضابط في الجيش الإيرلندي وجندي سلام في رواندا وجنوب لبنان خلال الاجتياح الإسرائيلي.

 

قاسم س. قاسم

فضح الديوان زيف الادعاءات بعدم إمكان قطع حساب عهد السنيورة (أرشيف ــ هيثم الموسوي)بعد إطلاق الرئيس نبيه برّي تهديده برفع الصوت ضدّ المخالفات في إدارة العمل الحكومي، طلب ديوان المحاسبة، أمس، من وزارة المال إيداعه قطع حسابات الموازنة عن الأعوام الماضية. خطوة قانونيّة، هذه المرّة، لمحو آثار المرحلة السياسية السابقة

محمد زبيب نأى ديوان المحاسبة بمسؤوليته في السجال الدائر في شأن الحسابات المالية النهائية للسنوات الماضية بين أعوام 2006 و2009، وحاول في بيان مفاجئ أصدره أمس أن يعوّض الخطأ الذي ارتكبه في السابق بتغاضيه عن إنفاق الحكومة نحو 38 مليار دولار من دون أي سند قانوني، وقبوله، على مضض، بمبدأ الظروف الاستثنائية، وعدم ملاحقته المسؤولين في وزارة المال بسبب تقاعسهم المقصود عن أداء واجباتهم الوظيفية في إعداد حسابات المهمّة وحسابات القطع لسنوات طويلة، وهو تقاعس يعاقب عليه القانون، ويرتّب مسؤولية قانونية وسياسية بسبب مخالفته الدستور والقوانين المرعية الإجراء.

إلا أن الديوان وجّه ضربة إلى فريق رئيس الحكومة سعد الحريري، ولا سيما وزيرة المال ريا الحسن، بإعلانه بعض الوقائع التي تنبئ بوجود تلاعب في الحسابات، وهو ما أكّده رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون، إذ حذّر في تصريح له أمس من «التلاعب بالأرقام»، قائلاً إنه «لا أحد يريد تبرير صرف 11 مليار دولار فوق ما تجيزه القاعدة الاثني عشرية في السنوات الأربع الماضية».

فقد عقد مجلس ديوان المحاسبة جلسة طارئة بدعوة من رئيسه القاضي عوني رمضان وحضور أعضائه، رؤساء الغرف بالوكالة القضاة: عبد الرضا ناصر، ناصيف ناصيف، إنعام البستاني، والمدعي العام لدى الديوان بالإنابة القاضي بسام وهبة، ودعيت رئيسة الغرفة بالوكالة القاضية نيللي أبي يونس للمشاركة في الجلسة. وعرض القاضي رمضان، بحسب البيان الصادر عن الديوان، موضوع قطع حساب الموازنة العامة عن سنة 2008، واللغط الدائر حوله في بعض الأوساط. وبعد المناقشة، تبين أن قطع الحساب لم يرسل إلى ديوان المحاسبة بعد، وأن مديرية المحاسبة العامة في وزارة المال أرسلت قطع حسابات السنوات 2005 و2006 و2007 إلى الديوان، ثم طلبت شفهياً استردادها بغية إعادة صياغتها مجدداً. ولما طلب إليها تقديم كتاب خطي بالاسترداد، لم تفعل، لكنها لجأت إلى إرسال قطع حساب سنة 2005 مرة ثانية إلى ديوان المحاسبة، مغاير للأول. وتطرق المجتمعون إلى موضوع قطع حساب الموازنة الذي يُعَدّ مرتبطاً عضوياً بحساب المهمة، وقال البيان إن «عدم إرسال وزارة المال حسابات المهمة إلى ديوان المحاسبة منذ سنة 2001، حال عملياً دون تمكّن الديوان من تدقيق قطع حسابات الموازنة وفقاً للأصول». وقرر مجلس ديوان المحاسبة الطلب رسمياً إلى وزارة المال المسارعة إلى إيداع الديوان قطع حسابات الموازنة عن السنوات الماضية، بما فيها قطع حساب سنة 2008، إضافة إلى حسابات المهمة العائدة إلى السنوات من 2001 إلى 2008، وذلك بعد التدقيق فيها من مديرية المحاسبة العامة لدى الوزارة عملاً بأحكام المرسوم الرقم 3373 تاريخ 11/12/1965 (تحديد أصول تنظيم الحسابات المالية ومهلها)، لأنه يستحيل على ديوان المحاسبة، من الناحيتين الحسابية والعملية، أن يدرس قطع حساب سنة معينة ويدقق فيه بمعزل عن حساب المهمة العائد إلى السنة عينها. ماذا يعني مضمون البيان الصادر عن ديوان المحاسبة؟ بحسب مصادر معنية، فإن الديوان أراد بهذه الطريقة أن يضع حدّاً لما يجري منذ فترة في المديريات المعنية في وزارة المال، ولا سيما في مديريات المحاسبة والمعلوماتية والصرفيات؛ إذ بلغته شكاوى ومعلومات عن عمليات تزوير تحصل في الحسابات بهدف إخفاء بعض النفقات المحققة في عهد رئيس الحكومة السابقة النائب فؤاد السنيورة ووزيري المال السابقين جهاد أزعور ومحمد شطح. وقد أشار بيان الديوان بوضوح إلى حالة محددة، إذ غيرت وزارة المال قطع الحساب الخاص بسنة 2005 بعد ورود نسخته الأصلية إلى الديوان! وهذا يخالف أبسط القواعد المحاسبية المتعلقة بمسك الحسابات على نحو دقيق، بما لا يسمح بإحداث أي تعديلات عليها. وكشف الديوان عن أن وزارة المال لم ترسل حسابات المهمّة إليه منذ سنة 2001، وهو سلوك يخالف قانون المحاسبة العمومية ويعرّض المسؤولين عن المال العام لملاحقات جزائية. وفضح الديوان زيف ادعاءات وزيرة المال بعدم إمكان قطع حساب السنوات من 2006 إلى 2009 لتبرير تقديم مشروع القانون العالق في مجلس الوزراء والرامي إلى إعفائها من هذا الموجب الدستوري، إذ تحدث البيان عن تسلمه قطع حساب سنتي 2006 و2007، وطالب بقطع حساب سنة 2008... ما يعني أن وزيرة المال لم تقل الحقيقة في مشروع القانون المذكور، ولا سيما ما ورد في أسبابه الموجبة عن أن «الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد حالت دون إقرار الموازنات للأعوام الممتدة من عام 2006 إلى عام 2009، ما أدّى حتماً إلى عدم إمكان قطع حساب لتلك الأعوام».

عدد الاربعاء ٦ تشرين الأول ٢٠١٠

teseمحمد عبد الرحمن

في كل مرة يصدر فيها قرار جديد يحدّ من حرية الإعلام في مصر، يخرج أصحاب القرار مؤكدين أن هدفهم هو تنظيم القطاع، لا فرض الرقابة. كذلك، يعلن هؤلاء أن سلسلة القرارات التي اتّخذت أخيراً لا علاقة لها بانتخابات مجلس الشعب المقبلة، ولا بالحراك السياسي الذي تشهده مصر حالياً. مثلاً، حدث ذلك عندما أقفلت استديوهات «أوربت» في القاهرة لأسباب قيل في البداية إنّها مالية، قبل أن يصبح غياب عمرو أديب وبرنامجه «القاهرة اليوم» اعتيادياً. ثم تكرر الأمر نفسه مع الصحافي المعارض إبراهيم عيسى وجريدة «الدستور»، التي لا يزال ملّاكها الجدد يؤكدون أنهم يبحثون عن رئيس تحرير جديد يحافظ على قوة الجريدة. في وقت يبدو فيه واضحاً أن عملية اغتيال هذه الصحيفة المستقلة قد نجحت عن سابق إصرار وترصّد.وأخيراً جاء قرار «جهاز تنظيم الاتصالات» بفرض رقابة مسبقة على الرسائل الإخبارية السريعة التي ترد على الهواتف الخلوية ليؤكد أن المرحلة المقبلة ستشهد مزيداً من التضييق على الإعلام، حتى إن بعضهم أعرب عن تخوّفه من وصول الرقابة إلى موقع «فايسبوك»، الذي ينشط المصريون عليه نشاطاً كبيراً وبحرية كاملة.وبالعودة إلى أزمة الهواتف الخلوية، فإن اللافت هو أن جهات حكومية كانت قد أطلقت هذه الخدمة بالذات قبل سنوات، وتحديداً «وكالة أنباء الشرق الأوسط»، وقطاع الأخبار في «التلفزيون المصري». إذ يبعث المشترك برسالة فارغة إلى رقم الخدمة التي تكلف دولاراً واحداً تقريباً كل شهر لتصله يومياً أبرز الأخبار التي تبثها الوكالة أو التلفزيون. وغالباً ما تكون الأخبار المُرسلة هي الأخبار الرسمية التي لا يتابعها المشترك من خلال الصحف أو الشاشات. وخلال الأشهر الماضية، دخلت إلى حلبة المنافسة جريدتَا «المصري اليوم»، و«اليوم السابع» من خلال الاتفاق مع شركات الخلوي العاملة في مصر.كذلك، ظهرت شركات صغيرة تقدم الخدمة نفسها لكن بطريقة تختلف عن المؤسسات والأفراد الذين يحتاجون إلى التواصل مع أكبر عدد من أفراد الجمهور في أقل وقت ممكن. مثلاً خلال الانتخابات، لجأ المرشحون إلى إرسال كميات كبيرة من الرسائل إلى عدد ضخم من الناخبين، وهو ما أثار مخاوف الجهات الحكومية من سوء استخدام هذه الخدمة عموماً. وما زاد الطين بلّة كان انتشار رسائل على الهواتف الخلوية خلال الأزمة الأخيرة بين الأنبا بيشوي ومحمد سليم العوا. ورأت مصادر حكومية أنها زادت من حالة الاحتقان الطائفي بين المصريين.والجهات الحكومية نفسها حذّرت من أن بعضهم قد يسيء استخدام هذه الخدمة لتحقيق مكاسب غير مشروعة على المستوى الاقتصادي، وتحديداً داخل البورصة المصرية. لكن الأكيد أن القيود الرقابية الجديدة لن تفرّق بين الخدمات الإخبارية والشركات الصغيرة التي قد تُستخدَم لإطلاق الشائعات السياسية والاقتصادية. إذ إن الهدف الأساسي من هذا القرار هو السيطرة المسبقة على الأخبار والمعلومات التي تصل إلى أكثر من خمسين مليون مصري مشتركين في خدمة الهاتف الخلوي. وبالتالي بات إلزامياً على الصحف أن ترسل أخبارها أولاً إلى الرقباء الذين سيُختارون، للاطلاع على نص الخبر قبل الموافقة على تمريره.

تزامن هذا التضييق على الإعلام مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية نهاية الشهر المقبل

وقد دفع ذلك رئيس تحرير صحيفة «المصري اليوم» مجدي الجلاد إلى التساؤل في برنامج «العاشرة مساءً» على قناة «دريم» عن سبب فرض هذا النوع من الرقابة على صحف حاصلة على ترخيص بالصدور، وكل ما ترسله إلى جمهورها متوافر على موقعها الإلكتروني أو على الصفحات المطبوعة. وأبدى الجلاد مخاوفه من أن تتبع هذه الخطوة قرارات أخرى تحد من سرعة وصول المعلومات إلى المتلقي. وذكّر بأنّ هذا القرار يبعد المشتركين عن الحياة العامة، بما أن معظم المستفيدين من هذه الخدمة هم المصريون الذين لا يقرأون الصحف، ولا يعرفون أبرز التطورات السياسية والاجتماعية. ثمّ استقبل البرنامج نفسه اتصالاً من مستشار وزير الاتصالات محمود الجويني أكد خلاله أن ما صرّح به الجلاد خاطئ، وأن القرار وسيلة تنظيمية لنشر الرسائل من خلال وسيط بين الجرائد والقارئ. حيث تُرسَل الأخبار أولاً إلى هذا الوسيط (الرقيب)، وهو يختار منها الصالح للنشر ويرسله بدوره إلى القرّاء! وأكد الجويني أن هذه الخطوة تعدّ وسيلة تقنية لتنظيم الرسائل التي تصل إلى الأفراد بعد التأكد من صحتها، وخصوصاً مع انتشار هذه الخدمة في الفترة الأخيرة. ما تسبّب ببلبلة داخل المجتمع المصري. ونفى الجويني ما يتردّد عن ارتباط موعد هذا القرار بموعد الانتخابات النيابية المقررة في نهاية الشهر المقبل، مؤكداً أن هذا القرار يُعدّ له منذ فترة طويلة.

هل يمكن فعلياً تحييد السياسة عن نقاش طلابي مهما كان نوعه؟ (مروان  طحطح) تحوّل تدشين «زاوية المتحدثين» إلى فرصة لإبراز التوتر المتراكم في العلاقة المشحونة بين مجلس الطلبة وجزء من قاعدته. ما بدأ احتجاجاً على حظر الكلام في السياسة والدين تطوّر إلى جدال بشأن استقلالية الجسم الطالبي وصحة تمثيله من جانب المجلس 

رنا حايك بعد انقطاع دام 36 عاماً بسبب الحرب الأهلية، تحاول الجامعة الأميركية في بيروت استرجاع نشاط عريق هو «زاوية المتحدثين»، (راجع الأخبار، عدد 3 نيسان 2010) . وبينما يرى مجلس الطلاب أنه بذل مجهوداً كبيراً لإقناع الإدارة بعودة النشاط، بعدما وصل معها إلى تسوية قوامها استبعاد طرح المواضيع المتعلقة بالدين والسياسة للنقاش، على أمل فك تلك المحظورات مع الوقت، يرفض جزء كبير من الطلاب تلك التسوية، معتبرين أنها تحمل تصغيراً للحركة الطالبية، يسهم فيها المجلس الطالبي المتهم بالتماهي مع الإدارة وبتبديد مكتسبات كانت المجالس الطالبية قد حصلت عليها تاريخياً. «خلال السنوات الماضية، اقتصرت النشاطات على تنظيم حفلات موسيقية وبيع حلوى معدّة في المنازل. أهذا ما خُلقَ له الطلاب؟»، تسأل إحدى الطالبات، التي رفضت أمس الحديث إلى مراسل الحرة، لكونها، كما قالت له، «حرّة، مثلك تماماً». تلك الطالبة المشاكسة، التي آثرت عدم ذكر اسمها، تنتمي لما أصبح يعرَف في الجامعة الأميركية بـ«الخمسين يسارياً» الذين يصفهم رئيس المجلس الطالبي، الياس غانم، بـ«المحتجين الدائمين، لكونهم لا ينظرون سوى إلى النصف الفارغ من الكوب». غانم، الذي افتتح النشاط يوم أمس «باسم الحرية»، برّر موقف الإدارة بحظر الحديث بالسياسة والدين قائلاً: «لدينا أهالي طلبة يزوروننا يومياً طالبين منا حماية أبنائهم بعد أن يجتازوا بوابة الجامعة. كيف نعرّضهم للخطر إذاً؟». ذلك الموقف هو بالتحديد ما يستفز الغاضبين، فهو يحمل «لهجة تربوية فيها من الوصاية ما نرفضه، وافتراض مسبق بأننا همجيّون. لم لا يجرّبوننا قبل فرض تلك القواعد؟ ثم، لمَ علينا أن نرسل إلى العميد طلباً مسبقاً للتحدث في مساحة حرة مثل هذه؟ أصلاً، ها هو النشاط يدشّن ونحن محاصرون برجال الأمن وتحت أعين الإدارة. نحن أنضج من أن نقبل تسوية كهذه». طبعاً، لم يصادر المحتجّون على الحدث. فقد اعتلى المنبر تباعاً طلاب أيدوا موقف المجلس والإدارة. أحدهم أكّد على «مساحة الحرية والتعبير في الأميركية»، وهو الموضوع الذي كان مطروحاً للنقاش يوم أمس، مستشهداً بجريدة الطلاب في الجامعة، وبوجود النوادي والانتخابات فيها. إحداهنّ رأت أن الدين والسياسة ليسا جوهر أيّ نقاش، طارحةً التحدث عن «الشجر ليش أخضر»، ما استتبع موجة من الضحك لدى المشاكسين الذين حملوا لافتة كبيرة طوال فترة النشاط مكتوب عليها: «أوقفوا القمع الثقافي». فقد تطرّقت مداخلات المحتجين لما سمّوه «وهم تسوّقه الجامعة الأميركية بأنها تؤمن حرية الرأي والتعبير في حرمها». لتأكيد ذلك، استشهدت زينة هندي، التي اعتلت المنصة وهي ترتدي كوفية فلسطينية بعدة مواقف قائلة: «لو لم تكن AUB تمنع التظاهر لكنت قد تظاهرت ضد أغنى رجل في العالم كان في ضيافتها من دون أن يمنعني الأمن من ذلك، ولكنت قد استطعت استضافة متحدثين ضد العنصرية الإسرائيلية في ندوات، ولكنت قد تمكنت من التعبير عن سخطي من تطبيع ثقافي مورس فيها من دون أن أُتهم بأنني انفعالية كما قيل لي»، قبل أن تدعو مجلس الطلبة، «إن كانت نيته فعلاً الذّود عن حرية التعبير كما يدّعي، إلى العمل ضد تحجيم النشاط السياسي في الجامعة».

في مقابل أحد الطلاب الذي دعا الصبايا «للحديث في إحدى المرات عن كيفية صنع التبولة»، ما أثار سخطهن، سأل الطالب نايت جورج فعلاً إن كان المطلوب تحويل هذا التقليد العريق إلى مساحة نقاش في أفضل جرّاح تجميل!

ترويض زاوية المتحدثين غير مقبول

يؤكد بعض الطلاب من المحتجين على حظر التحدث بالدين والسياسة أنهم كانوا هم وراء إعادة تفعيل هذا التقليد، إلا أن تسريباً أوصل الفكرة إلى مجلس الطلاب والإدارة الذين تلقّفوه ليطلقوه بنسخة «مسخرة» كما يصفها أحدهم، معتبراً أنها «صفقة بين الإدارة والأحزاب المسيطرة على المجلس». وقد دعا ذلك أحد الطلاب إلى عدم شكر المجلس على جهده خلال المداخلة التي ألقاها لأنه «ما كتير تعبتوا»، كما قال. وقد أصدر المحتجون بياناً أكدوا فيه رفضهم للصيغة الحالية، وإلّا، «فكيف ستخرّج الجامعة طلاباً حقيقيين، يواجهون الحياة في ما بعد؟»، كما علّق أحدهم، بينما صرخ آخر رداً على منسق الجلسة الذي أكد «لسنا جاهزين بعد للتحدث بأمور حسّاسة»، قائلاً: «إي ماننا بيض بعد!»

القرار يشمل حالياً البطاقات المسبقة الدفع... ويمتد لاحقاً إلى الثابت

تعرفة الخلوي المرتفعة ليست ناتجة فقط من سياسات سيئة استسهلت فرض الضرائب غير المباشرة وغير القانونية على المواطنين، بل هي ناتجة كذلك من عدم اقتناع وزراء الاتصالات سابقاً بوجود بدائل سهلة تخفض الكلفة وتحافظ على العائدات. فقد خفض وزير الاتصالات شربل نحاس التعرفة الليلية على البطاقات المسبقة الدفع 40%، بإجراء لن يخفض إيرادات الخزينة العامّة من الخلوي بل يزيدها

رشا أبو زكي مليونان و300 ألف مشترك هو عدد المستفيدين من الإجراء الذي أعلنته وزارة الاتصالات أخيراً، والقاضي بخفض تعرفة الاتصالات الليلية بين 20 و40 في المئة على المشتركين بالخلوي عبر البطاقات المسبقة الدفع، ابتداءً من مطلع أيلول الجاري، وذلك بعدما بيّنت دراسة للوزارة أن عدد المشتركين الذين يستخدمون الخلوي بين الساعة الحادية عشرة ليلاً والثامنة صباحاً يعدّ قليلاً جداً. والخفض الجديد الذي يطال تعرفة الخلوي يعدّ جزءاً من سلسلة إصلاحات ستطال أسعار المكالمات الخلوية، التي ستعلن تباعاً خلال الأشهر المقبلة. وإن كانت الأيام الخمسة الماضية لا تعدّ مؤشراً لمعرفة نتائج هذه الخطوة على تطور عدد المشتركين بالهاتف الخلوي، وعدد المستفيدين من إجراء الخفض، إلا أن التوقعات تشير الى ارتفاع في حركة الاتصالات ستشهده شبكتا الخلوي بين الساعة العاشرة والثامنة صباحاً، في مقابل تأثر طفيف لعائدات الخزينة العامّة من الخلوي، إلا أنه سيكون له مردود إيجابي أكيد على المستهلك، الذي يدفع في البطاقات المدفوعة سلفاً الفاتورة الأعلى في المنطقة.

10 ساعات يومياً

ففي 14 آب الماضي، أعلنت وزارة الاتصالات قرار بدء تطبيق تعرفة ليلية مخفوضة تصل حتى 40% على خدمتي التخابر الصوتي والرسائل القصيرة العائدة للخطوط المسبقة الدفع (المعروفة بخطوط التشريج)، اعتباراً من مطلع أيلول الجاري، وقد قسمت الوزارة نسبة الخفض على فترتين، الأولى من العاشرة ليلاً حتى الثانية عشرة من منتصف الليل، إذ تبلغ نسبة الخفض 20 في المئة على كلفة دقيقة التخابر لتصبح 29،6 سنتاً بدلاً من 36 سنتاً، وخفض 20 في المئة على كلفة الرسالة القصيرة لتصبح 2،7 سنت بدل 9 سنتات. أما الفترة الثانية فتمتد من الساعة الثانية عشرة منتصف الليل حتى الثامنة صباحاً، وتبلغ نسبة الخفض 40 في المئة على كلفة دقيقة التخابر لتصبح 22،2 سنتاً، وخفض 40 في المئة على كلفة الرسالة القصيرة لتصبح 5،4 سنتات. وقد أعلنت شركة ألفا، وهي تشغّل الشبكة الخلوية الأولى بإدارة شركة أوراسكوم تيلكوم، المباشرة بتطبيق الخفوضات على تعرفة المكالمات والرسائل القصيرة sms للخطوط المسبقة الدفع خارج أوقات الذروة، ابتداءً من الأول من أيلول 2010، وكذلك فعلت شركة أم تي سي تاتش، وهي تشغّل الشبكة الخلوية الثانية بإدارة شركة زين. وأشار رئيس هيئة مالكي الخلوي في وزارة الاتصالات جيلبير نجار إلى أن نسبة المشتركين في البطاقات المسبقة الدفع نسبة الى إجمالي عدد المشتركين في الخلوي تصل الى 80 في المئة في الشبكتين، وبالتالي فإن عدد المستفيدين من قرار خفض كلفة المكالمات الليلية يفيد أكثر من مليونين و300 ألف مشترك. ويشير نجار الى أن هذا القرار لا يخفض من إيرادات الخلوي، بل من المتوقع أن يزيدها، وذلك لكون حركة الاتصالات على شبكتي الخلوي تكون في أدنى مستوياتها بين الساعة الحادية عشرة والنصف تقريباً والساعة الثامنة صباحاً، والقيام بإجراء الخفض خلال هذه الفترة سيزيد من عدد مستخدمي الشبكتين للإفادة من الحسومات الكبيرة على كلفة الاتصال، ما يرفع من عائدات الخزينة العامّة، في مقابل إفادة المواطنين من أسعار شبه مقبولة على الاتصال الخلوي، لافتاً الى أن هذا القرار سيؤدي الى ملء الفراغ الذي يحدث عادة على الشبكتين خلال الفترة الليلية، وينقل الاتصالات غير الضرورية التي يمكن أن يجريها المواطنون الى الليل، بعدما كانوا يدفعون كلفة مرتفعة للاتصال طوال الوقت.

القرار سيمتد الى الخلوي الثابت

ويفيد مستشار وزير الاتصالات محمود حيدر أن اختيار هذه الفترة تحديداً لتخصيصها بإجراء الخفض يعود الى وجود سعة على الشبكات خلالها، بحيث تنخفض حركة الاتصالات كثيراً ويتراجع الضغط على الشبكتين ليقتصر على عدد محدود من المشتركين بالبطاقات المسبقة الدفع، ويوضح أنه فعلياً تبدأ فترة انخفاض الحركة هذه عند الساعة الثانية عشرة، إلا أن الوزارة قررت أن تعطي حافزاً للمواطنين للإفادة من هذا الخفض، بحيث تبدأ من الساعة العاشرة ليلاً، وبذلك تتسع رقعة الإفادة الى أكبر عدد من المشتركين.

ويلفت حيدر الى أن الوزارة وفّرت حافزاً للمواطنين، ولكن من الصعب توقع نسبة المشتركين التي ستستفيد من هذا الإجراء، لكن من المؤكد أن النسبة تتجه نحو الارتفاع، ويشدد على أن الخفض يطال حالياً البطاقات المسبقة الدفع التي تبلغ كلفة الدقيقة فيها 36 سنتاً، وهي كلفة مرتفعة جداً نسبة الى الأسعار المطبقة في الدول المجاورة، والتي تصل أقصاها الى 18 سنتاً، ويشرح أن هذا الإجراء سيؤثر تأثيراً طفيفاً على إيرادات الوزارة لأنه ستستخدم الشبكة بموارد لم تكن مستخدمة، وهنا يوجد ربح ولو على سعر أقل، ولكن بما أن السعر قليل ستكون هنالك خسارة في قيمة الفواتير المدفوعة، ما سيخلق توازناً معيناً، وسيؤدي الى تأثيرات طفيفة على إيرادات الخزينة. أما عدم شمول القرار الخطوط الخلوية الثابتة فيعود الى أسباب تقنية كذلك، أي عملية الفوترة، وقد ارتأت الوزارة إطلاق الخدمة على البطاقات المدفوعة سلفاً، على أن تمتد الى الخطوط الثابتة بعد اكتمال الإجراءات التقنية خلال الأشهر القليلة المقبلة، وخصوصاً أن سعر الدقيقة على الخط الثابت يصل الى 11 سنتاً وهو سعر مقبول نسبة الى الدول المجاورة، وبالتالي بدأت الوزارة خطوتها بالبطاقات المدفوعة سلفاً، التي تطال عادة ذوي الدخل المحدود والذين يشترون الوحدات شهرياً. ويلفت الى أن تقويم تأثيرات هذه الخطوة على المشتركين سيعرف نهاية الشهر الجاري، وعلى ضوئها تكون قراءة النتائج الأولية لعملية الخفض على التعرفة الليلية.

500 ليرة لبنانية

هي تعرفة التخابر الدولي على الهاتف الثابت خلال النهار التي خُفضت إلى 400 ليرة في الليل في عام 2007 بقرار من وزير الاتصالات حينها

15 دولاراً

هي كلفة الاشتراك الشهري بالخط اللاحق الدفع، أي الثابت بعدما انخفض من 25 دولاراً، أي بنسبة 40 في المئة في عام 2009.

11 سنتاً

هي كلفة دقيقة التخابر في الخط الثابت، التي خُفضت بنسبة 16.% إلى 13 سنتاً، فيما انخفض سعر الدقيقة على الخطوط المسبقة الدفع من 48 إلى 36 سنتاً.

تأثيرات موسمية

ستكون تأثيرات خفض التعرفة الليلية على إيرادات الخزينة العامّة موسمية، ففي رمضان مثلاً يسهر المواطنون أكثر من الأشهر الأخرى، ما يرفع نسبة استخدام الخلوي خلال الفترة الليلية، بعكس ما يحدث في الأشهر الأخرى. ويلفت وزير الاتصالات شربل نحاس (الصورة) الى أن الخفوضات موجودة على تعرفة الاتصالات الدولية، وكذلك على الاتصالات الليلية على الهاتف الثابت، إلا أن إطلاق الخفوضات على الاتصالات الخلوية كان يحتاج الى أمرين: قرار من الوزير، وجهوزية فنية تتعلق بأنظمة الفوترة.

بين الكهرباء والاتصالات: المطلوب تحقيق التوازن لا الأرباح (مروان طحطح) 

غسان ديبة* توجّهت الحكومة اللبنانية في كانون الثاني عام 2007 إلى مؤتمر باريس ـــــ 3 بورقة إصلاحية تضمنت العديد من البنود والإجراءات التي وعدت بتنفيذها في مقابل الحصول على المساعدات من الدول المانحة. وقد تمخّض المؤتمر عن وعود من الدول المانحة، ورُبطت هذه الوعود بالمساعدات المالية بتنفيذ الدولة اللبنانية هذه الإصلاحات بعد تجربة باريس ـــــ 2 التي لم تستطع الحكومات المتعاقبة حتى عام 2007 تحقيقها. وفي عام 2008 وافق الـIMF على قرض بحوالى 77 مليون دولار للبنان ضمن ما يعرف ببرنامج المساعدات الطارئة لما بعد الحرب (EPCA) وذلك «من أجل المساهمة في دعم البرنامج الاقتصادي للبنان لعام 2007». وقد أدى دخول الـIMF على «خط» باريس ـــــ 3 إلى مزيد من الضغط على لبنان من أجل تحقيق هذه الإصلاحات. فقد قال محسن خان مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق «إن الوعود من باريس ـــــ 3 تساوي 7.6 مليارات دولار، هي على فترة 5 سنوات... وإن تحويل هذه الأموال لا يخضع للموافقة المسبقة من الصندوق... لكن الصندوق سيراقب التطورات في لبنان ويصدر تقارير بشأنها... وإنني أتوقع من المانحين أن يأخذوا تقاريرنا في الحسبان عند اتخاذ قراراتهم بتحويل الأموال أو عدم تحويلها». وبالفعل يصدر الـIMF تقارير دورية كان آخرها في تشرين الثاني 2009. وحتى الآن، ونتيجة تأزّم الوضع السياسي والنزاعات التي نشبت منذ عام 2006 بين مختلف القوى السياسية التي تمثّل النظام الطائفي السياسي، لم تُطبَّق هذه الإصلاحات. إذ اصطدم هذا المشروع «الليبرالي» مباشرة بالبنية السياسية لنظام الطائف الذي يعتمد على «ميكانيزمات» التوزيع للريع... هذه السياسة الاقتصادية المعتمدة منذ عام 1992. ومع تأليف حكومة الوحدة الوطنية أخيراً وتقديم بيانها الوزاري والبدء الآن بعملية إصدار الموازنة الجديدة، عادت ملامح باريس ـــــ 3 إلى الظهور في طريقها إلى محاولة «التطبيق» على الرغم من تضمُّن البيان الوزاري بنوداً قد تناقض مباشرة أو غير مباشر هذه الإصلاحات. وتجلى هذا التناقض أخيراً في تأخّر صدور الموازنة نتيجة الحاجة إلى التوافق بين مطالب الوزارات الإنفاقية التوسعية ومحاولة وزارة المالية الإبقاء على عجز الخزينة ضمن حدود معينة كما تتطلبها باريس ـــــ 3 بالنسبة إلى نمو الدين العام إلى الناتج المحلي الذي كان السبب الأساسي لقفز الحكومات اللبنانية إلى الخارج بدءاً بباريس ـــــ 1 وانتهاءً إلى باريس ـــــ 3. وبسبب استمرار هاجس الدين العام الذي وصلت نسبته إلى الـ160% الآن (انخفض عن عام 2006 حيث بلغ 180% بسبب تحقيق لبنان فوائض أوليّة نتيجة عدم إقرار موازنات في هذه الفقرة وإعادة إحياء الضريبة على البنزين والنمو الذي حصل)، فإن الحكومة اللبنانية قد تذهب إلى تنفيذ هذه الإصلاحات، وخصوصاً في مجالي الضرائب والخصخصة بالإضافة إلى «إصلاح» الضمان الاجتماعي و«تحديث» قانون العمل، لأن أحد أكلاف الاستثمار هو عدم المرونة في سوق العمل من حيث سهولة دخول العمال وخروجهم. إن تحقيق هذه الإصلاحات سيزيد من الفجوة في المداخيل بين اللبنانيين ويدفع بالكثيرين نحو البطالة والفقر، وسيؤدي إلى انتهاء مكتسبات العمال والموظفين والطبقتين العاملة والمتوسطة في ضمان التقاعد والعمل. ومن هنا تأتي أهمية بلورة خطة بديلة لباريس ـــــ 3 تتبناها النقابات والقوى السياسية المختلفة وحتى بعض تلك الموجودة في الحكومة. ملامح الخطة البديلة

(1) في السياسة الضريبية:

يجب أن يعي لبنان أن الباب الأساسي لبدء عملية كبح جماح تراكم الدين هو زيادة مداخيل الدولة اللبنانية. إلا أن الإجراءات الضريبية يجب أن تأخذ في الاعتبار التأثير التوزيعي لهذه الضرائب. وبالتالي فإن هذه الإجراءات، بالإضافة إلى تحقيق المداخيل، يجب أن تجعل النظام الضرائبي أكثر تصاعدية. كما على هذه الإجراءات الضريبية أن تأخذ في الاعتبار تأثير النظام الضريبي على الاستهلاك. أولاً: رفع معدلات الضريبة على الأرباح ومن ضمنها شركات الأموال، من أجل رفع حصة الضرائب على الأرباح من 1.5% من الناتج المحلي إلى 3% (أي 500 مليون دولار). ثانياً: رفع معدلات الضريبة على الفوائد (ومن ضمنها ضريبة على فوائد سندات الخزينة) من أجل رفع حصة هذه الضرائب من 1.16% من الناتج المحلي إلى 3% من الناتج المحلي. ثالثاً: رفع ضريبة رؤوس الأموال من أجل رفع حصة هذه الضرائب من 0.37% إلى 1.5% من الناتج المحلي. رابعاً: إجراء تعديل جذري على هيكلية الضريبة على القيمة المضافة (TVA) تشمل تطبيق معدلات مختلفة حسب كمالية السلع وتغيّراً في سلّة السلع المعفاة، مع الإبقاء على حصة الضريبة من الناتج المحلي التي تبلغ الآن 6%. ويهدف هذا التغيير إلى جعل الضريبة تصاعدية، حيث إن الضريبة كما هي الآن هي ضريبة غير عادلة. إذ بيّنت إحدى الدراسات أن الطبقة الأقل دخلاً تدفع معدلاً فعلياً يبلغ 7%، وتدفع الطبقة الوسطى معدّلاً يبلغ 6%، بينما تدفع الطبقة الأعلى دخلاً معدلاً فعلياً هو 4%. وقد بيّنت إحدى الدراسات أخيراً أن رفع ضريبة القيمة المضافة إلى 12% سيؤدي إلى انخفاض استهلاك الفئات الأكثر فقراً بحوالى 8%، ويرتفع معدل استهلاك الفئات الأغنى بحوالى الـ5% ويزيد الفقر من 28% إلى 31% وإلى 35% في حال الزيادة إلى 15%. خامساً: وضع ضريبة جديدة على الربح العقاري المحقق. فقد بلغت قيمة حجم التبادل العقاري في لبنان في عام 2009 حوالى الـ7 مليارات دولار جبت الدولة من خلالها 1.3% من الناتج المحلي كضريبة على التسجيل العقاري. إن هذه الإجراءات الضريبية مجتمعة ستحقق إيراداً إضافياً للخزينة يبلغ حوالى 1.5 مليار دولار سنوياً، مع المحافظة على الاستهلاك على حاله، فيما النظام الضريبي يصبح أكثر تصاعدية وعدلاً.

(2) في السياسة الاجتماعية وسوق العمل:

أولاً: يجب أن يلتزم لبنان التزاماً كاملاً بتحقيق أهداف الألفية من خفض للفقر وتحسين مؤشرات التنمية الإنسانية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وبالتالي يجب إنشاء «البرنامج الوطني لخفض الفقر» بموازنة تبلغ 5% من مجموع المساعدات والقروض الممنوحة للبنان في باريس ـــــ 3. ثانياً: إن قانون العمل اللبناني يمثّل ضمانة للعمال والموظفين اللبنانيين الذين بذلوا تضحيات كبرى خلال فترة إعادة الإعمار من خلال تجميد أجورهم ودفعهم للضرائب غير المباشرة. وبالتالي، فإن قانون العمل يجب أن يطوَّر بحيث يضمن درجات أكبر من ديمومة العمل وحق التنظيم النقابي والمشاركة الديموقراطية في إطار مفهوم متطور وتقدمي لعلاقات العمل والحوكمة العصرية للمؤسسات. ثالثاً: إن الأنظمة التقاعدية المعمول بها في القطاعين العام والخاص تمثّل الخزان المالي الذي ضمن ويضمن حصول العمال والموظفين على تقاعد لائق وعادل وضامن للتكافل والتضامن الاجتماعي. إن الإصلاح المقترح في باريس ـــــ 3 المدعوم من البنك الدولي بتحويل نظام التقاعد في الصندوق الوطني إلى نظام ترسملي سينقل «المخاطر» إلى الموظف نفسه ويجعله عرضة للتقلّبات في أسعار الأصول والاستثمارات للنظام الترسملي، وهو الإصلاح الذي رُفض أصلاً في الولايات المتحدة نفسها ولم تستطع تحقيقه الإدارات الجمهورية المتعاقبة. أضف إلى ذلك أن الأزمة الأخيرة في الأسواق المالية قد بيّنت هشاشة هذا النظام وتفوّق النظام التقاعدي الحالي بالنسبة إلى ضمان حصول المتقاعدين على أموالهم عند نهاية الخدمة. رابعاً: اعتماد سياسة إسكان جديدة لا تعتمد على الميكانيزمات المالية المتّبعة حالياً على مبدأ زيادة معدلات التملُّك لدى المواطنين. إذ إن هذا النموذج الشبيه بـ«مجتمع الملكية» في الولايات المتحدة و«الرأسمالية الشعبية» في بريطانيا قد أثبت فشله خلال الأزمة المالية، بل كان أحد أسباب هذه الأزمة وبروز «الفقاعات المالية». إن استحداث قانون جديد للإيجارات يضمن قيام سوق تأجيرية ذات آجال عالية بحيث يصبح معدل عقد الإيجار 9 سنوات بدلاً من 3 مع ضمانات مالية للمالك وضمانات إبقائية للمستأجر، يضمن حل مشكلة السكن المرشحة للتفاقم في المستقبل القريب. خامساً: إجراء إصلاح شامل في النظام التعليمي لا يعزز التعليم الرسمي فحسب، بل يدخل تشريعات تسمح بتدخل الدولة من أجل توزيع عادل للمقاعد الدراسية في الجامعات والمدارس الخاصة العالية الجودة لمجمل قطاعات الشعب اللبناني.

(3) الخصخصة:

إن تجارب كثير من الدول أثبتت أن الخصخصة لم تحقق النتائج المرجوّة من تحسين أسعار الخدمات، ناهيك بجودة الخدمات نفسها. ولعل التجربة الأخيرة لتدخل الدولة في الولايات المتحدة وأوروبا لإنقاذ الكثير من الشركات المفصلية من الانهيار، تؤكد أهمية دور الدولة ليس فقط في تنظيم بعض أسواق الإنتاج ومؤسساته، بل أيضاً في امتلاكها. في لبنان، يبدو أنّ وضع قطاعي الكهرباء والاتصالات، إنْ من الناحية المالية أو التجهيز الرأسمالي، لن يسمح بخصخصة تضمن في الوقت نفسه أهدافاً ثلاثة متناقضة هي: خفض الدين العام عبر تحقيق مداخيل عالية من الخصخصة، التجهيز الرأسمالي لشركة الكهرباء لزيادة الإنتاج بحوالى 80%، وضمان رفاه المستهلك من خلال بنية الأسعار في هذين القطاعين. وبالتالي نقترح: أولاً: لا يمكن استعمال العجز الكبير في قطاع الكهرباء، الذي يبلغ حوالى 1.5 مليار دولار (يتأرجح حسب سعر النفط) كذريعة لتخصيص الكهرباء، وخصوصاً أن هذا التخصيص سيزيد سعر الكهرباء بما لا يتحمله لا الاقتصاد ولا المستهلك اللبناني. أما في قطاع الاتصالات، فإن الدولة اللبنانية تحقق فائضاً بلغ في 2009 نحو 1.37 مليار دولار (مدخول ثابت، بل يتزايد). وبالتالي، إذا نظرنا إلى قطاع الـ(Public utilities) في لبنان ككل، نجد أن لبنان يحقق توازناً. وهذا هو المطلوب، ذلك أن هدف القطاع هو تأمين هذه السلع الخدماتية من أجل تعظيم رفاه المستهلك، ويتم ذلك عبر عدم تحقيق أي ربح اقتصادي من هذا القطاع للدول

ثانياً: تبعاً لهذه النظرة، ونظراً لتعذّر التخصيص لهذين القطاعين، يجب أن تنشئ الدولة «الهيئة الوطنية للاقتصاد العام» لإدارة هذين القطاعين على هذه الأسس، وتحقيق الاستثمار العام من أجل تحديث التجهيزات الرأسمالية والتطور التكنولوجي. ثالثاً: استحداث «وزارة التخطيط» و«المصرف الوطني للتنمية الاقتصادية»، وذلك بعد حل مجلس الإنماء والإعمار والمجالس الأخرى. إن هذه المؤسسات ستكون الحاملة الأساسية للسياسات الاقتصادية والتنموية الطويلة الأمد. فوزارة التخطيط تضع أهدافاً اقتصادية وطنية مثل معدلات النمو والاستثمار العام وتوزّع الاستثمار العام بين القطاعات. كما يتضمن عمل الوزارة استحداث «سياسة صناعية» تعيد بناء القطاعين الصناعي والزراعي على أسس زيادة التنافسية للسلع اللبنانية وتطوير قطاعات ذات إنتاجية عالية ووقف التراجع الكبير الحاصل في القطاعات المنتجة، إنْ على الصعيد الوطني أو على الصعيد المناطقي، كما بيّنت الإحصاءات أخيراً. كما أن «المصرف» سيعمل على تأمين التمويل للتنمية عبر تركيز المساعدات الخارجية والموارد الداخلية للدولة فيه، ودمج المؤسسات المتفرقة كـ«كفالات» وغيرها.

(4) السياسة النقدية وسعر الصرف:

إن عدم التناظر بين السياستين المالية والنقدية منذ عام 1992 وحتى الآن، كبّد الاقتصاد اللبناني خسائر كبيرة على مستوى النمو الاقتصادي، وزاد من الهشاشة المالية للاقتصاد، وأدى إلى قيام اقتصاد منحاز، مالياً أو ريعياً. وبالتالي فإن على لبنان: أولاً: إجراء تغيير في أهداف مصرف لبنان من التركيز فقط على استقرار العملة اللبنانية إلى التركيز على استهداف زيادة العمالة واستقرار الأسعار في الوقت نفسه. ثانياً: إخضاع المصرف المركزي لرقابة ديموقراطية ومحاسبة لاحقة لسياساته من مجلس النواب اللبناني، شبيهة برقابة الكونغرس الأميركي على الاحتياطي الفدرالي. ثالثاً: على المصرف المركزي استحداث سلّة عملات من ضمنها الدولار الأميركي واليورو، كمؤشر على تنافسية السلع اللبنانية واستحداث سياسة ربط تضمن التنافسية وتتحكم بالميزان التجاري والجاري. ستؤدي هذه الإصلاحات إلى وضع المالية العامة اللبنانية على سكة الاستقرار المتوسط والبعيد الأمد، وستؤسس لقيام اقتصاد عصري منتج يحقق نمواً اقتصادياً وزيادة للعمالة ووقف للهجرة، مع تحسين توزيع الدخل وخفض الفقر و«الموت الرحيم للريعيين»، وهي الأهداف الأساسية التي يجب العمل على تحقيقها لأن استمرار السياسات الحالية والمرتقبة سيؤدي إلى مزيد من التردي الاقتصادي وموت بطيء وقاسٍ للاقتصاد الحقيقي.

.

الأكثر قراءة