فراس أبو مصلح - الاخبارشهد العام الماضي تعابير مختلفة عن الأزمة الاجتماعية الحادة في لبنان، بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية. دفعت الأحداث الأمنية (المستثمَرة إعلامياً في تسعير التوترات المذهبية) بالعديد من الاحتجاجات الى الشارع. بيادق هذه الاحتجاجات ووقودها فقراء مهمشون، ضحايا سياسات الإفقار وتسعير الانقسامات المذهبية.في المقابل، نزل إلى الشارع كثير ممن تجاوزوا الاصطراع المذهبي المُفتعل بالتوحد حول المصالح الاجتماعية ـــ الاقتصادية الجامعة، لكن الحراك المطلبي ظل هامشياً في مجمل الحراك الاجتماعي، اذ بقي الأخير مشدوداً إلى العناوين السياسية والأمنية. فلماذا فشلت الحركة المطلبية في استقطاب الرأي العام؟ يرى البعض أن الأخيرة لم تعبر فعلاً عن مصالح أكثرية اللبنانيين، وأن استقطاب الرأي العام غير ممكن بطرح مسائل جزئية، بمعزل عن مشروع سياسي تغييري متكامل.اعتاد الرأي العام، منذ عقدين تقريباً، خواء الحياة السياسية، بمعنى خلوها من الطروحات والبرامج الاجتماعية الشاملة للأبعاد السياسية والاقتصادية، وانحطاط الخطاب السياسي إلى مهاترات بين أصحاب الحصص في النظام. وانحصاره منذ عام 2001 في مسألتَي المقاومة والعلاقة مع دمشق. ثم بات الجمود في الحياة السياسية اللبنانية مألوفاً و«طبيعياً» منذ عام 2005، فأصبحت الأطراف السياسية كافة في لبنان في حالة انتظار للمعادلة السياسية التي ستتبلور بعد انجلاء غبار المعارك، وطغت على الحراك الاجتماعي العناوين السياسية والأمنية. فيما بات الاستثمار الإعلامي للأحداث الأمنية الدافع الأكبر للتحركات الشعبية في الشارع، تحت عناوين مذهبية، وأخذت الأخيرة أشكال التجمع والتظاهر وقطع الطرقات والاعتداءات على الناس والممتلكات، فازداد الحراك المطلبي ضيقاً.الظروف لا تكون «مثالية» عادةاستقالة الأحزاب غير المذهبية من العمل الاجتماعي أخلت الساحة لما يسمّى منظمات المجتمع المدني، فهذه المنظمات نفذت اعتصامات وتظاهرات تحت عناوين مطلبية جزئية. تحاكي مصالح وتطلعات فئات محدودة من المجتمع، كتلك التي تطالب بقانون مدني للأحوال الشخصية، وحق الأم اللبنانية بمنح جنسيتها لزوجها وأولادها، وحماية النساء من العنف الأسري (على سبيل المثال). هذه العناوين، على أحقيتها وأهميتها، تبقى مسائل جزئية لا تصنع رأياً عاماً، ولا تمثل قضيةً ومشروعاً للتغيير. اعتصامات وإضرابات عمالية، كتلك التي قام بها مياومو الكهرباء وعمال «سبينيس»، تبقى أيضاً تحركات محدودة تحت عناوين جزئية، قد تنجح في فرض تعديلات على شروط العمل، ليس إلا، لكنها لا تحرك رأياً عاماً.مثّلت إضرابات واعتصامات وتظاهرات «هيئة التنسيق النقابية» العام الماضي تطوراً نوعياً في الحراك النقابي، باختراقها «خطوط التماس» السياسية والتشكيلات المذهبية والحزبية، وبطول نفَسها وزخمها وحجم المشاركة فيها. للمرة الأولى منذ 1991، نشأت حركة مطلبية ذات طابع جماهيري، شاملة موظفي الدولة والمعلمين، واعدة بإنشاء نقابات غير قائمة على العصبيات. ومع ذلك، بقي خارج هذا التحرك على سبيل المثال كل العاملين في القطاع الخاص، ولا سيما حوالى 200 ألف عامل في القطاع غير النظامي، أناس بائسون، بلا ضمانات ولا خدمات اجتماعية، لا تشملهم «سلسلة الرتب والرواتب» ولا تعنيهم، بحسب مدير مؤسسة البحوث والاستشارات الاقتصادية، كمال حمدان، الذي يرى في العمل النقابي «طوابق متعددة» لا تستطيع النقابات المنفردة التعامل معها. هنا تبرز الحاجة إلى أحزاب تضع رؤية شاملة لـ«الطوابق كافة». تكمن مشكلة هيئة التنسيق إذاً في أنها، «بقدر ما تزخّم حركتها المطلبية العملية السياسية التقدمية، بحاجة إلى حاضنة سياسية تقدمية» تؤطرها في مشروع تغييري قابل للتحقق، كما يقول رئيس حركة الشعب، النائب السابق نجاح واكيم. «إن من يسألون الهيئة ماذا حققت، هم مَن يُفترض أن يُسألوا ... القوى التقدمية كانت متخلفة»، يقول واكيم. والتذرع بالصراع المستعر ليس مقبولاً، إذ لا تكون الظروف أبداً «مثالية» للعمل المطلبي والسياسي. تنشب الثورات حين يكون «النظام السياسي في ذروة أزمته»، كما هي الحال الآن.إقصاء الاقتصاد والاجتماع عن السياسة«القرار السياسي تكثيف للمصالح الاجتماعية الاقتصادية»، يقول الباحث الاجتماعي والمستشار الإقليمي لـ«إسكوا»، أديب نعمة؛ أما في لبنان، فقد «جرى إقصاء الاقتصاد والاجتماع» عن السياسة. يرى نعمة في غياب ربط الحراك المطلبي بـ«الشروط السياسية والمؤسسية لتحقيق المطالب» أحد أهم «أعطاب» الحراك. فالمدخل لتحقيق المطالب الاجتماعية ـــ الاقتصادية هو التغيير السياسي، بينما الصراع السياسي اليوم في مكان آخر، إذ إن السياسة «المعقمة» من الأبعاد الاجتماعية ـــ الاقتصادية، والمرتكزة أساساً على العصبيات الطائفية والالتحاق بالأجندات الخارجية «غير معنية» بالقضايا المطلبية، وخصوصاً في ظل اتساع «الاقتصادات الموازية» المتعلقة بالحرب وبالنشاطات غير الشرعية، كالتهريب مثلاً.لا يمكن الضغط على القوى السياسية من قبل القوى الاجتماعية، يؤكد نعمة، فـ«الدائرة السياسية مرتبطة بالعصبية الطائفية والخارج»، و«الدولة هي الطرف الأضعف بين الأطراف السياسية»، ولا «مجتمع مدنياً قوياً»؛ وإذا ما أراد الأخير، ممثلاً بالجمعيات الأهلية والنقابات العمالية و«الهيئات» وأصحاب المهن الحرة (الطبقة الوسطى)، إعادة الاعتبار إلى الاجتماع والاقتصاد في السياسة، «يصطدم بالمجتمع السياسي» القابض على الدولة.برغم وصفه تحركات هيئة التنسيق النقابية بأنها «من أنجح التحركات وأكثرها تماسكاً وعدالةً واختراقاً للطوائف»، يجزم نعمة بأن في القول إنها هزت النظام السياسي مبالغة. فهي محكومة بالتوازنات بين الأطراف السياسية المكونة لها، «ولم يكن بإمكانها الاتفاق على أي بند إضافي خارج موضوع سلسلة الرتب والرواتب». «القضية قوية ويومية وحساسة» الى درجة دفعت إلى التحرك، لكنّ الفاعلين في التحرك «لم يتفلتوا» بالكامل من قبضة القوى السياسية، التي لم ترَ في التحرك تهديداً جوهرياً لمصالحها، فالمطروح «تعديل في حجم التوزيع»، لا التغيير الجذري في النموذج السياسي ـــ الاقتصادي القائم. تمويل السلسلة من الريع لا يخرج عن المنطق «الغنائمي»، بمطالبته بحصة من الريع، بحسب نعمة، بدل طرح مشروع للتغيير الفعلي يتمثل في حزمة سياسات تنتج حلاً حقيقياً «يقص جوانح النظام الريعي، نظام الأتاوات»، ويشمل تغييراً جذرياً في النظام الضريبي وتقديم الخدمات العامة.