في فندق «وولدرف أستوريا» الفاخر، وسط حي مانهاتن، كان رئيس الأركان الإسرائيلي غابي أشكينازي يخاطب أثرياء نيويورك ووجهاءها مساء أول من أمس، طالباً تبرعات سخية لجيشه الذي يواجه تحديات لم يعهدها من قبل. لم يعر أشكينازي اهتماماً لتنديد الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بخطة بناء 1600 وحدة سكنية جديدة في القدس الشرقية، ولا بتنديد البيت الأبيض. إنه يشعر بأنه في بيته وبين أهله مهما تعالت أصوات التنديد. لكن اللافت هذه المرة أن الفندق الفاخر، الذي كان يولَم فيه لأشكينازي، حاصره 500 متظاهر أو أكثر، جلّهم من اليهود والأميركيين، منهم من تجاوز السبعين من العمر. كثيرون جاؤوا على عكّازات وعلى كراسٍ متحركة للمقعدين. رفعوا لافتات تطالب بحجب التمويل عن إسرائيل ورفع الحصار عن غزة فوراً، وبمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بين أمور كثيرة أخرى. ووصفوا أشكينازي بأنه قاتل ومجرم حرب، مكانه في قفص الاتهام لا في صالات السفراء. في المقابل، كانت هناك مجموعة صغيرة من الأفراد اليهود (يقلون عن 20) ترفع أعلاماً إسرائيلية وتشوّش بطريقة هزيلة على التظاهرة الهادئة الكبيرة، التي كانت تُدق خلالها أجراس وتقرع طبول صغيرة. لم يكن هناك أي لبس في مواقف المتظاهرين الذين أجمعوا على خطر الصهيونية على العالم، لا على الشرق الأوسط وحده. آلان دوغلاس، الذي شارك قبل أشهر في مسيرة الحرية لغزة وشاهد بأمّ العين أسلوب التعاطي مع الشعب المحاصر، كان في طليعة المتظاهرين الذين لم يتوقفوا عن الطواف حول الفندق. قال لـ«الأخبار» «بعد فرض إسرائيل، بدعم مؤسف من حكومتنا الأميركية، وبدعم الحكومة المصرية، حصاراً بشعاً على غزة، وهو جريمة بحق الإنسانية، تحوّل الوضع هناك إلى حالة طارئة. إننا نحتج على دعم حكومتنا، متضامنين مع شعب غزة». أما مارشال دوغلاس، فكان غير مسيّس. قال إنه يشعر «بالحنق على استقبال قاتل بهذه الطريقة»، مشدّداً على أن «الرجل الذي يلقي كلمة في الداخل هنا هو نفسه قائد القوات التي هاجمت غزة. هذا أمر أشعر بأنه فظيع بالنسبة إلي». الفئات الأكثر تسييساً والمدركة للعلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل تشعر بأن واشنطن في خطر لكونها لا تملك حركة كبيرة مناوئة للحرب على غرار ما هو حاصل في بريطانيا مثلاً. هؤلاء يخشون من تأثير اللوبي الإسرائيلي على إدارة أوباما، التي فقدت كل ما بقي من الآمال التي علقت عليها. ويخشون من أن يحدث تنافس بين الوحشية الإسرائيلية والوحشية الأميركية. دبرا سويت، مديرة منظمة «العالم لا يستطيع الانتظار»، قالت «إنني أكثر قلقاً من الحرب على إيران في عهد أوباما مما كنت عليه في عهد جورج بوش، رغم استهتار وعدوانية نظام الأخير بإطلاقه الحرب على الإرهاب. إن سياسة أوباما التي يطلق عليها «عملية الطوارئ الخارجية» تمثل خطراً على شعوب العالم». ورأت أن أوباما لن ينسحب من العراق، وسيواصل الفتك بأفغانستان، ويدعم الظلم الذي يمارَس بحق الفلسطينيين وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط لأنه «لم يتخلّ عن حلم السيطرة على الشرق الأوسط الكبير الذي بدأه جورج بوش». أما رهام برغوثي، من منظمة «عدالة نيويورك» التي تدافع عن الحقوق الفلسطينية، وتضم تحالفاً من اليهود والعرب، فرأت أن الفضل في هذا التضامن الأميركي «يرجع في الأساس إلى معاناة شعب غزة المحاصر، الذي تعرض لبطش غير مألوف». قالت إن «هناك مجموعة واسعة تشارك في هذه التظاهرة من ضمنها المجموعة اليهودية المضادة للاحتلال والصهيونية، وفي الوقت نفسه هناك مجموعات أميركية لم يكن التضامن مع الشعب الفلسطيني شغلها الأول، لكنها وجدت نفسها بعد الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت في غزة معنية بمعارضة نشاط الجماعات المناصرة للجيش الإسرائيلي في نيويورك». التظاهرة الليلية دامت نحو 3 ساعات. ومثّلت ظاهرة جديدة من التظاهرات التي كثرت في نيويورك ونواحيها خلال عام. ظاهرة يخرج فيها اليهود ضد إسرائيل علناً غير آبهين بالترهيب الإسرائيلي الشديد في هذه المدينة. هناك جماعات بينها تحمل صور التعذيب الذي يمارَس في القدس. هؤلاء يرددون عندما يعلمون أنك صحافي عربي «يجب أن يعلم العرب أنْ ليس كل اليهود والأميركيين مع إسرائيل. وليسوا جميعاً راضين عن الممارسات العنصرية في القدس وغزة». يستغرب المرء كيف تتولّد هذه المواقف وهو يتابع الإعلام الأميركي. ربما تبدلت الصورة مع انفلات الباحث الأميركي عن الحقيقة في الإنترنت، أو مع روايات الجندي العائد من العراق وأفغانستان. أو ربما يعود الفضل في توعية الأميركيين إلى تلك المغامرات التي ركبتها الولايات المتحدة، ودفع الأميركي ثمناً باهظاً لها
نيويورك ــ نزار عبود.