غسان ديبة - الاخبار
"أنتم أيها الداخلون الى هنا، تخلّوا عن كل آمالكم" جحيم دانته
■ ■ ■
حول طاولة العشاء جلس أربعة من كبار الاقتصاديين السياسيين يناقشون القضايا العامة الحاضرة.
- ادم سميث بمكر واضح قال: استمعت الى أحد البرامج التلفزيونية في ذلك الوطن الصغير لبنان، حيث إنّ رجل دين مسيحياً يتحدث عن الوظائف في الدولة وكيف ان المسيحيين لا يحصلون على حصتهم، واظن انه ذكر "المهمة". لقد اضحكني، اذ انه حمل معه جدولا كبيرا على ورقة كبيرة ليدعم حجته "بالارقام"، كما يقولون هناك. لم استطع ان ارى ما كتب عليها، لكن لا اعلم لماذا ذكرتني الورقة بنظام جداول التصنيف الذي اخترعه فرانسيس بيكون. - نظر ماركس الى سميث بعدما كان مشغولا بالتفكير: آه لا تذكروا هؤلاء، الا يزالون قبائل تتناحر؟ اظن انه في 1860 كتبت عنهم. اخاف منهم هؤلاء اللبنانيين فهم لا يتغيرون بعكس كل شيء. اظن انهم برهنوا انك تستطيع ان تشرب من النهر نفسه مرتين. - مال مالتوس الى جهة ماركس متسائلا: كم يبلغ عدد الشعب اللبناني؟ وكيف ينقسمون بين مسيحيين ومسلمين؟ اريد ان اعرف قبل ان اعطي رأيي. من يتكاثر اكثر؟ هل ينتجون غذاءهم؟ سمعت ان السوشي اليابانية اصبحت من الاكلات المفضلة هناك والسمك المحلي لا يتكاثر كما يجب. فلماذا الخلاف حول وظائف الدولة؟ - سميث: اظنه كان يشير الى وزارة المالية وهي التي بعد الحرب ارادوها عبر الاستدانة ان تكون اسمن من البط الفرنسي الذي يطعمونه بالقوة. على فكرة، الا يتحدث اللبنانيون الفرنسية؟ لا اعلم بالتحديد يا مالتوس لماذا يختلفون، وخصوصا انه قيل لي ان اللبنانيين يحبون الاقتصاد الحر، حتى انهم كتبوا واجب الولاء له في دستورهم. لا اظن انني دعوت الى هذا! - قاطعه ماركس: لا تنسَ... والمبادرة الفردية! - تابع سميث: يبدو عجيبا لي ان شعبا يحب الاسواق الحرة اكثر مني قد يكون مهتما جدا بمن يعمل في الدولة. اليست الدولة "رجل اعمال فاشلا" كما يقولون هناك. فمن يريد العمل عند شخص كذلك؟ ولماذا الناس على سلاحهم، فقد سمعت ان ما يسمونه الان وسائل التواصل الاجتماعي التهبت بعدما عين وزير مالية لويس الرابع عشر، عفوا، اقصد وزير المالية اللبناني، رئيس دائرة مسلما بدلا من مسيحي. - استفاق ريكاردو من سأمه، فهو يحب النماذج المحكمة وبدا له هذا الموضوع متشعبا كثيرا، لكنه بدأ يرى جانبا مضيئا. قال: آه، لا بد ان الريع قد استحوذ على كل شيء في هذا البلد الصغير، والا، كما وصفتموه لي، لكان موضوع الدولة وموظفيها ثانويا. قلت لك عزيزي سميث ان رؤيتك المتفائلة عن الرأسمالية مبالغ فيها، فريع الاراضي سيأكل الربح كله وسيبقى العمال ينعمون فقط بأجور كفاف يومنا. اليس هذا ما يحدث هناك؟ وبالتالي الناس يتعلقون بحبال الليفياثان. اين صديقنا هوبز... لماذا لم تدعوه الى العشاء؟ - تدخل مالتوس قائلا: ليس هناك من غذاء كافٍ لنا كلنا، وهذا ما اظن أنه يحدث في لبنان. وهناك من يتكاثر اكثر من الاخر، بالتالي الاخر يخاف على نفسه. انهم في وضع، كما ذكر صديقنا سبنسر، فيه البقاء للاقوى. - اجاب سميث: لا عزيزي، هناك من اراد ان يبقي وضعه الاحتكاري في الاسواق وفي الدولة ولكنه يرى الامور قد أفلتت من بين يديه. اليس كذلك؟ لكن الاحتكار لا يتعايش مع الاسواق الحرة. وكأنهم فقط قرأوا ما كتبته عن ميل التجار للاحتكار وطبقوه. ظننت ان التنافس يا أعزائي سيحل كل شيء، ولكنني لم اتصور انهم سيتنافسون حتى الموت على وظائف الدولة. تابع سميث: من المضحك ايضا، ان رجل الدين اعطى مثلا عن شركة افران يمتلكها مسلم وارادت ان تفتح في منطقة مسيحية وهي ستوظف مسيحيين حتى يجتذبوا الزبائن، وهو يتساءل لماذا لا تفعل الدولة الشيء نفسه؟ لم اصدق ما كانت تسمعه أذناي! - ماركس: لكن مهلا. هذا يذكرني عزيزي سميث بقصتك التي رويتها في "ثروة الامم" عن عمل الفران الذي يخبز من اجل مصلحته الخاصة، ولكن عمله في النهاية يؤدي الى الصالح العام. مع انك لم تبرهن هذا، وهو أحد اخطائك الكبرى، عدّه الكثيرون من بعدك حقيقة ليست قابلة للجدل، وكأنها مقدسة. رجل الدين هذا ذكي اليس كذلك ايها الموقر؟ موجها كلامه الى مالتوس. - لم ينتبه مالتوس فرد ريكاردو: كل هذا يحصل والعقارات والايجارات هناك تأكل كل شيء. ظننت ان الرأسمالية المتقدمة قد ابطلت صحة نظرياتي، ولكن ها هو بلد في شرق المتوسط يبرهن العكس. لاول مرة احس انني احب اصحاب الاراضي! - ضحك ماركس ونظر الى سميث ومالتوس: انني دائما وجدت نفسي اتفق مع ريكاردو اكثر مما اتفق معكما انتما الاثنين. صحيح ان الريع يأكل الكثير في لبنان، ولكن، كما اطور دائما افكار صديقنا. انا مثل ريكاردو ايضا اجدني احب لاول مرة الراسماليين، فهم فشلوا فشلا ذريعا، ولكن لم يأكلهم الريع فقط، بل ارادوا ان يصبحوا ريعيين أيضا، اي انهم كالحرباء التي تغير لونها، ولكنهم هذه المرة تغيروا الى الابد، وكما دائما يحفرون قبرهم بايديهم. فها هو، كما ذكرت في كتابي رأس المال، معدل الربح ينخفض ربما لاول مرة بوضوح في نظام راسمالي، فهو عندهم ينخفض في ثالوثهم المفضل في المصارف والعقار والتجارة، فلم يبقَ لهم الا الزبالة كمورد للربح. فما رأيك في هذا يا مالتوس؟ - فوجئ مالتوس فرد متلعثما: الزبالة؟ لا اعلم ماذا تقصد، ولكن قرأت انهم استنفدوا النفط والغاز حتى قبل ان يستخرجوهما. غريبون هؤلاء كيف انهم يصرون على اثبات نظرياتنا جميعا. - ماركس: اظن ان الامر يصل كما قال سميث الى حد "حتى الموت". فهم كابله القرية اخشى ان يعيدوا ما فعلوه في السابق وهم يستحضرون الان اشباح الكراهية. ذكرني رجل الدين هذا بميلوسوفيتش عندما ذهب الى كوسوفو في 1987. ما قاله هناك قوض الجنة الشيوعية في يوغوسلافيا. - قفز ريكاردو الذي كاد ان ينام: كنت احلم بانهم يبيعون صكوك اراضيهم لكن هذه المرة ليحجزوا مكانا لهم في الجحيم. بعد كل ما سمعت، اظن انه علينا ان نستعير منك عزيزي ماركس.. "ان اشباحا تخيم فوق لبنان..".
بيار أبي صعب - الاخبار
التحريض المؤسف الذي رافق، في بيروت، إعادة تقديم «لماذا…؟»، قبل أسابيع، لم يكن سوى إشارة رمزيّة، تساعدنا على وضع تجربة عصام محفوظ في إطارها. بعد ٣٥ سنة على تقديم هذه المسرحيّة الخاصة جداً في مساره، برؤيا إخراجيّة تحمل توقيع لينا خوري، أسدت إلينا حفنة من الجهلة والتكفيريين الجدد، خدمة لا تقدّر بثمن.
لقد جاء التأويل الأرعن لأحد المشاهد، ليذكّرنا عنوة بالرجل الذي تفتقده بيروت في زمن الانهيارات الكبرى. كلا لم يكن عصام محفوظ أديب صالونات، ولا كاتباً توفيقيّاً يمكن أن نجترّ اليوم عند قبره خطابات المجاملة، ونمثّل طقوس الاحتفال المعقّمة. لقد كان مثقفاً مزعجاً ونقديّاً، ومبدعاً راديكالياً في علاقة صدام دائم مع الخطاب السائد، والحس المحافظ، والفكر الغيبي، والبنى القمعيّة على اختلافها. كان مثقفاً عربيّاً ماركسياً وعلمانياً ويساريّاً، وكل لبنان يتذكّره اليوم. هذا هو رهانه الرابح. هذا مصير الكتّاب الكبار: أن يكونوا ملك أمّتهم. وتكريمه يبدأ برفع القبعة لأحد ألمع أبناء الجيل المؤسس للحداثة بكل أشكالها، لكنّه يقتضي أيضاً أن نستوحي روح السبعينيات المجيدة، بلا حنين زائد، ونستنير بمشروعها الفكري والقومي والسياسي، في أزمنة التكفير والردّات الظلاميّة والمذهبية. ما زال عصام محفوظ مزعجاً إلى الآن. يكفي أن نستعيد مراحل حياته ونتاجه، من الشعر الذي تركه خلفه بصمة قويّة منسيّة، إلى النص المشهدي الذي أسس للمسرح الحديث، وصولاً إلى المرحلة الفكريّة النقديّة التوثيقيّة التأريخيّة التي زار فيها على امتداد ثلاثة عقود ـــ بلغة الحوار المسرحي والمقابلة الصحافيّة والسيناريو السينمائي ـــ بعض أهم رموز الإبداع والتنوير والتمرّد والماديّة في الحضارة العربية-الإسلاميّة. «سعدون»، بطله العبثي والوجودي، ضحيّة القمع على أشكاله (من اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة…)، ما زال بيننا، رفيقنا وشريك لحظتنا المرّة. لقد كان صاحب «الزنزلخت» طوال حياته في مواجهة مع الرجعيّة والاستبداد. وانتهى فقيراً بلا عمل، ولا منبر، لأنّه اختار السباحة عكس التيار، خرج من طائفته إلى الأمّة والعالم، ولم يتملّق سلطة أو زعيماً أو نظاماً. والاحتفاء به الآن، هو استعادة لهذه الخيارات واحيائها. في الذكرى العاشرة لرحيله، تعالوا نراه كما هو. تعالوا نرسم له «صورة شخصيّة»، أسوة بما فعله هو مع جبران خليل جبران في الثمانينيات. تعالوا نبدأ من الاعتذار إلى عصام ـــ ربما حان الوقت لذلك ـــ لأننا تركناه يعيش سنواته الأخيرة وحيداً. منذ ضاقت به جريدته العام 1996 بعد ثلاثين سنة من الانتماء وتوسيع الآفاق، وحتّى انطفائه معزولاً ومشلولاً، العام 2006، فوق فراش المرض. اليوم نتذكّره بنظارتيه السوداوين، وحديثه المتقطع، وثقافته الواسعة التراثية والمعاصرة، بعبثيته وهشاشته، بوساوسه وأحلامه، بخوفه وتطيره. لتكن مناسبة لإعادة اكتشاف كتبه الخمسين، والترويج لها لدى جيل جديد يكتشف الشارع والتمرّد والوطن، والتحركات المطلبيّة ومفهوم الالتزام، والأدب والحب والحياة. هل تعرفون يا أصدقاء عصام محفوظ؟ عرّاف «الملاحدة» العرب، سليل «رواد النهضة»، خليل «المتمردين» في تراثنا، رفيق بول إيلويار ولوي أراغون وجورج شحادة. تراءى له آرتور رامبو بالأحمر على متاريس «عاميّة باريس». عصام محفوظ مريد «الشيخ الأكبر» ابن عربي، زميل دورنمات وأداموف، وريث مارون النقاش وأبو خليل القباني وأبو نظارة وجورج أبيض وسعيد تقي الدين. عصام محفوظ أحد صنّاع الفرجة ومنظريها أيضاً، كتب مانيفستو الحداثة المسرحيّة في «بيانه المسرحي رقم واحد» الذي صاغ مع بيانات يوسف إدريس وروجيه عسّاف وعبد الكريم برشيد والطيب الصديقي وسعدالله ونّوس، ملامح المسرح العربي الحديث. جمع بين مسرح العبث والمسرح السياسي والمسرح التوثيقي، على مائدته كان يلتقي بيكيت وبنتر وتنسي ويليامس وبريخت وبيتر فايس. مسرحه ينبض بـ «لغة الحياة، لغة الحسّ الدرامي»، بعيداً من الحشو والتنميق والايديولوجيا، بين عامية وفصحى مبسّطة. وهذه اللغة طبعت مسار الفن المشهدي الحديث ثم المعاصر في لبنان. عصام محفوظ معاصرنا. طيفه يخيّم على مقاهي الحمراء التي لم تعد، مسارح بيروت التي لم تعد، الصفحات الثقافيّة التي لم تعد. في مقالة له في «المستقبل» العام 2006، يتذكر الناقد الراحل محمد دكروب صرخة صديقه خلال الاحتلال الإسرائيلي لبيروت (1982)، إذ رفض أن يغادر العمارة التي يقطنها: «لو لم يبق في الحي سواكَ ـــ كتب محفوظ في «النهار» ـــ فإن الوطن سيكون أنت، سيكون على مقاسك، لكم كان يريحك هذا الشعور: أن تكون أنت الوطن». عصام محفوظ الشاهد على تجربة الحداثة. عصام الباحث عن الحرية. عن وطن على مقاسنا. الاحتفاء به في الذكرى العاشرة لرحيله، يكون بمواصلة الاستفزاز والتمرّد، الرفض وتحطيم الأصنام، التجريب والغضب.
زينب حاوي - الاخبار
في 13 كانون الثاني (يناير) 2016، طُرح العرض الأول لفيلم «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978) في الصالات اللبنانية. قبل هذا التاريخ ليس كما بعده. عرض مسرحية زياد الرحباني التي ناهز عمرها 38 عاماً على الشاشة الكبيرة، كان تحدياً كبيراً، خصوصاً أنّ الأجيال ألفتها من دون صورة، وحفظتها عن ظهر قلب.
اليوم، يعيد الجيل الشاب اكتشاف ما تردد على مسامعه من أصدائها، لكن سينمائياً. منذ تاريخ هذا العرض، والأسئلة مشرّعة حول كيفية تظهير هذا العمل تقنياً وفنياً، من قبل شركة M.media (الأخبار 18/1/2016). احتدم الجدل حول هذه الخطوة وأهميتها، خصوصاً في عصرنا السياسي والاجتماعي الراهن. في الأيام الأولى للعرض الأول وما تلاه أيضاً من عروض قبل التدشين الرسمي لهذا الفيلم أمام الجمهور اللبناني، أي في تاريخ 21 كانون الثاني، كنا أمام مشهدين صحافياً وعلى مواقع التواصل الاجتماعي صنعهما كتّاب وصحافيون وناشطون. مشهد أشاد بالعمل رغم شوائبه التقنية، وقسم آخر كان ربما الأشد ضراوة وقساوة، تمثل في بعض الأقلام التي غابت عنها صفات النقد المهني، ليحضر مكانها سيل من الأسطر يحطّم بالعمل ويفرغه من قيمته السياسية والاجتماعية والإيديولوجية، ووصل الى حدّ وصفه «بالعمل الموتور والنزق»، فيما ركز نقاد على رداءة المشاهد والتصوير كأنها هي وحدها التي تحسم القيمة الفعلية للعمل. طبعاً، كانت خلفية بعض المقالات، سياسية بحت. يمكن الاستنتاج ذلك بسهولة من خلال تحليل وتفكيك بسيط لهذه المواد التي ظهرت كأنها حملة إعلامية منظمة على زياد وعلى المسرحية بسبب مواقفه السياسية المثيرة للجدل.
ورغم كل هذا التشويه والتشويش، وإطلاق السهام على العمل منذ عرضه الأول، الا أن النتائج أتت مخالفة تماماً للأهداف التي بنيت عليها هذه الحملة. كما تبين معنا، قلب «بالنسبة لبكرا شو؟» الموازين، إذ حقق أرقاماً خيالية في شباك التذاكر منذ انطلاق عروضه رسمياً، أي يوم الخميس الماضي. جولة على الصالات السينمائية في لبنان، تكفي للجزم بأن ما تشهده حالياً، هو أقرب الى ثورة في تاريخ العروض، يتوقع أن تستمر بهذا الزخم لتحقيق أرقام قياسية جديدة. رنيم مراد من قسم التسويق في M.media تحدثت لـ»الأخبار» عن حلول «بالنسبة لبكرا شو؟» أولاً في تاريخ السينما اللبنانية، وهذا الأمر كما تقول كان متوقعاً. أما هيام صليبي، مديرة المبيعات في شركة Italia Film الموزعة لفيلم «بالنسبة لبكرا شو؟»، فقد أوردت أنّ العمل حقّق 62 الف مشاهدة منذ الخميس الماضي حتى أول من أمس. وتتوقع صليبي في اتصال مع «الأخبار» أن تصل الأرقام الى 250 الى 300 الف مشاهدة في الأسابيع المقبلة. ورغم «رداءة الصور»، إلا أنّ «الإقبال فظيع» كما تردف. طبعاً هذه أرقام خيالية تحققها السينما اللبنانية في وقت قياسي لأول أيام عرض فيلم في الصالات. ويبدو أنّ الضجة لن تقتصر على لبنان، فقد كشفت صليبي عن نية الشركة تسويق «بالنسبة لبكرا شو؟» عربياً بعد الطلب الكثيف عليه في تونس والمغرب ومصر والإمارات، بالإضافة الى سوريا، خصوصاً بعد الحملات الإلكترونية التي نظمها الناشطون السوريون للمطالبة بعرض الفيلم في الشام. مدير البرمجة في صالات سينما Empire بسام عيد، تحدث عن أكثر من 61 الف مشاهدة حتى اليوم، كاسراً بذلك الأرقام التي حققها فيلم The Passion of the Christ لميل غيبسون الذي سجّل وقتها 50 الف مشاهدة بعد أسبوع من عرضه. هكذا، ترسو الترتيبات على التالي في صالات «أمبير» ضمن خانة تسجيل الأرقام القياسية: «بالنسبة لبكرا شو؟»، في المرتبة الأولى، يليه «آلام المسيح»، وفي المرتبة الثالثة فيلم «تايتانيك»، و«وهلأ لوين؟» للمخرجة نادين لبكي في المرتبة الرابعة. أما في صالات «غراند سينما»، فيورد رالف سمعان من قسم التسويق، وصول نسب المشاهدة الى أكثر من 62 ألفاً. يقول سمعان لـ «الأخبار» إنّ هذا «رقم كتير كبير مع أول 5 أيام من العرض» مع بيع أكثر من 28 ألف بطاقة سبقت تاريخ العرض الأول للفيلم. وقارن سمعان ذلك بفيلم «حرب النجوم: صحوة القوة» (إخراج جاي. جاي. أبرامز) الذي يحقق اليوم أرقاماً قياسية في أميركا والعالم وصلت الى مليار و900 وأربعين مليون مشاهدة. وفي لبنان، حقق «حرب النجوم» في أول 5 أسابيع من عرضه 62 ألف مشاهدة في صالات «غراند سينما» ليكسره اليوم عمل زياد الرحباني. زينب...
زينب حاوي - الاخبار
بعد عامين من الانتظار، تعرض قناة «الميادين» السبت المقبل سلسلة «الاجتياح... غزو لبنان 1982» (منتج منفذ نانوميديا - إنتاج الميادين). على مدى 7 أسابيع متتالية، ستعرض أجزاء السلسلة، لتوثّق تواريخ فاصلة في الصراع العربي - الإسرائيلي، ونشوء المقاومة اللبنانية ومجيء الفصائل الفلسطينية إلى لبنان في تلك الفترة.
الفكرة تعود إلى رئيس مجلس إدارة «الميادين» غسان بن جدو الذي أراد الإضاءة على مرحلة الإجتياح الإسرائيلي لبيروت، وتحديداً بين 1982 و1985، والإطلالة على الواقع الحالي وإعادة تصويب البوصلة نحو العدو الأساسي. منذ إنطلاقتها، تعمد قناة «الواقع كما هو» إلى إفراد «مساحات على شاشتها للأعمال التوثيقية والميدانية»، تقول المنتجة المنفذة في إدارة البرامج نيكول كاماتو لـ «الأخبار»، وذلك بهدف «التماس مع التفاصيل الحياتية للإنسان العربي بشكل خاص». أعدّ نصوص الحلقات السبع (مدة كل حلقة 50 دقيقة) الإعلامي رفيق نصر الله الشاهد على تفاصيل كثيرة حصلت في تلك الفترة بصفته صحافياً ومراسلاً وموثقاً «عشت الحصار لحظة بلحظة». يتحدّث نصر الله لـ «الأخبار» عن التجربة التي يوثّق حدوثها منذ عام 1969 لحظة إبرام «اتفاق القاهرة» الذي «نظّم» الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان، كما يعرّج على مرحلة إنتقال الثورة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان. يقول نصر الله إن «الهدف الرئيس من كلّ هذا السرد التاريخي التوثيقي هو تبيان جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، وإنعاش الذاكرة بتاريخية وأهمية بيروت ومقاومتها ضد الإسرائيلي». يعدنا الإعلامي اللبناني بأن نشاهد وقائع تُسرد للمرة الأولى وتفاصيل لم تُتناول سابقاً من معارك عسكرية ووثائق، ومعطيات كاللقاء الذي جمع بين بشير الجميل وحافظ الأسد قبل أسابيع من الغزو الصهيوني للبنان، أو كشف تفاصيل جديدة عن هوية مرتكبي مجزرتي صبرا وشاتيلا.
الإعلامي الذي شارف كتابه التوثيقي عن الإجتياح الإسرائيلي للبنان على الإنتهاء، يقول إنه حرص في إعداد مادته التلفزيونية على «إيراد المعلومة أكثر من السرد الروائي، وأبعد نفسه وآراءه الشخصية ليترك للمادة التاريخية مهمة التحدث عن نفسها». وحرص أيضاً على «إظهار جوانب أخرى تُهمل عادة في إعادة سرد الحروب ألا وهي الجوانب الإنسانية». سنشاهد إذاً، تفاصيل متعلّقة بالمقاومة وصوغ بيانها الأول، ونستقصي أحوال الطواقم الطبية والمستشفيات إبان الحصار. أكثر من 60 شخصية سياسية، وإعلامية، وشهود عيان، ومقاتلين سابقين، سيتعاقبون على هذه الحلقات من جنسيات مختلفة: لبنانية، فلسطينية، سورية وحتى «إسرائيلية»، كقائد عملية الغزو أوري لوبراني، والمستشار وقتها للرئيس الراحل ياسر عرفات بسام ابو شريف. العمل سيتضمن مادة أرشيفية غنيّة بعدما جرت غربلة 200 ساعة تلفزيونية منها. يُحدثنا مدير شركة «نانوميديا» علي شهاب عن مشاهد تعرض للمرة الأولى من أرشيف التلفزيون الإسرائيلي. العمل الذي إستغرق 6 أشهر لاعداده، يكشف عن محطات ومحاور رئيسة في فترة الإجتياح، وستستخدم فيه تقنيات حديثة، كالتصوير الجوي من طائرة بدون طيار إستعملت لتفحّص أماكن جرت فيها عمليات للمقاومة وقتها، مرفقة بأعمال الغرافيكس الثلاثية الأبعاد، إضافة الى ذلك، أُنتجت موسيقى خاصة (إعداد جو نصر) لترافق السرد التاريخي، حاكت أحداث الحلقات. وعندما تغيب الصور والمادة الأرشيفية، تحضر الرسوم، مع الإستعانة بفنانين عملا على إعادة رسم أحداث محورية كلقاء بشير الجميل بأرييل شارون. يأمل شهاب تقديم هذه المادة التوثيقية للإضاءة على مرحلة مفصلية من لبنان ما زالت تداعياتها مستمرة من خلال «مضمون مشوّق» وتعريف الجيل الشاب بمفاصل غزو «إسرائيل» للبنان.
الجزء الأول من سلسلة «الإجتياح... غزو لبنان 1982»: السبت المقبل 21:00 على «الميادين»
هديل فرفور - الاخبار
«شو ناطر لتكرّس حقك بالسكن؟»، يسأل الإعلان المصوّر لـ «الحملة الوطنية لدعم قضية المستأجرين»، التي تُطالب بإلغاء قانون الإيجارات الجديد الصادر في نيسان عام 2014. يبدأ الفيديو المصوّر بعرض حملات إعلانية تروّج لقروض مصرفية مخصصة للسكن تمكّن «العملاء» من شراء البيت الذي على كل شاب أن «يؤمنه» وفق ما تتبنى «الدعاية»، ليخلص الفيديو إلى أنه على الرغم من «كثافة» عروضات القروض السكنية، إلا أن الإيجار «يبقى الوسيلة الأساسية المعتمدة في بيروت»، ذلك أن أسعار الشقق في بيروت «لا يغطيها أعلى قرض سكني»، فضلاً عن أن «70% من العائلات اللبنانية لا تستطيع الحصول على أدنى قرض سكني متوافر، لأن دخلها السنوي لا يتجاوز 10 آلاف دولار».
ينطلق الفيديو من هذه «المُقدّمة» ليطرح إشكالية قانون الإيجارات الجديد الذي لم يراع حق المواطنين في السكن بمدينتهم التي تحوّلت إلى «مقرّ» لأصحاب الرساميل والمداخيل المرتفعة. ففيما كان المطلوب من هذا القانون أن «يواجه» هذا التحوّل ويعيد، عبر سياسة إسكانية متكاملة، حق ذوي المداخيل المتوسطة والمحدودة السكن في المدينة، أتى ليستكمل المسار الذي يخدم المُضاربين العقاريين وليرسي النظام الاقتصادي الريعي القائم. من هنا، كان العنوان الذي حمله هذا الفيديو: «مدينتي، ومن حقي البقاء فيها»، كنوع من «الاستنكار» الحاصل ضد «نهج» طرد «الناس» من المدينة الذين سيدخلون إليها في ما بعد عمالاً وزائرين وموظفين لا قاطنين، على حد تعبير المعماري رهيف فيّاض. الهدف الأساسي للفيديو هو إعلان إطلاق «الحملة الوطنية لدعم قضية المُستأجرين»، وهي حملة مكونة من عدد من الأفراد من ذوي اختصاصات مختلفة وعدد من المجموعات الناشطة والجمعيات الحقوقية، وتضم كلاً من «لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين»، «المفكرة القانونية»، «الجمعية الاقتصادية اللبنانية»، «التجمّع الديمقراطي»، «اتحاد المُقعدين اللبنانيين»، «مؤسسة البحوث والاستشارات»، «اتحاد الشباب الديمقراطي»، «لجنة أهالي المفقودين»، و»التحالف من أجل العدالة البيئية والعمرانية». تدعم هذه الحملة قضية المستأجرين وتُطالب بإلغاء قانون الإيجارات الصادر في 1 نيسان 2014. وبحسب مُطلقي هذه الحملة، فإنهم «يراهنون» على تحرّكات المستأجرين القدامى «الذين يشكلون وقوداً لحراك مطلبي لسكن ميسّر». أهمية قضية الإيجارات، بحسب الحملة، أنها تشكّل وسيلة يجري خلالها «التركيز على الشق السياسي في نقاشات السكن ـ والسياسي بمعنى التوجه أبعد من الملكية للتطرق إلى الحق في المدينة وأسئلة أساسية عن الحق المكتسب في المكان». أسباب إطلاق الحملة متعددة، ولعل أبرزها «غياب أي سياسة سكنية شاملة وعدم تحمّل الدولة مسؤولياتها في ضمان السكن للمواطنين المعوزين ولا في ضمان بدلات عادلة»، فضلاً عن عدم أخذ الدولة المستأجرين المسنين والمعوّقين في الاعتبار، وعدم مراعاة انتقال ملكية بعض المالكين القدامى إلى المالكين الجدد الذين اشتروا أبنية من المالكين القدامى بأثمان مخفوضة حسم منها أعباء تعويضات المستأجرين، «فجاء القانون الجديد ليحررهم من هذه الأعباء المرتقبة محققاً لهم إثراءً غير مشروع». تجدر الإشارة إلى أن هذه الحملة تأتي ضمن سياق مبادرة «الحق في السكن» التي أطلقها في أواخر شهر شباط من العام الماضي كل من «المفكرة القانونية» و»الجمعية اللبنانية الاقتصادية»، بالتعاون مع «استوديو أشغال عامة»، وهو عبارة عن مشروع قانون يضمن الحق في السكن ويصوّب المسار التشريعي «الذي أتى مبتوراً عند إقرار القانون الجديد»، على حدّ تعبير أصحاب المبادرة. (http://www.al-akhbar.com/node/229553). ودعت الحملة إلى «أوسع مشاركة» في الاعتصام الذي يُنظّمه المستأجرون، اليوم، عند الساعة الخامسة بعد الظهر من أمام ثكنة الحلو، مروراً بشارع مار الياس، وصولاً إلى منزل رئيس الحكومة تمام سلام.
غسان ديبة - الاخبار
«اللينينية تجمع بين أمرين أبقاهما الأوروبيون لقرون في جزئين مستقلين في الروح البشرية: الدين والأعمال»
جون ماينارد كينز
■ ■ ■
في 11 سبتمبر 1973 دخل الجيش التشيلي، الذي قام بانقلاب ضد حكومة سلفادور الليندي، الى غرفة داخل القصر الرئاسي شبيهة بجسر التحكم في السفن الفضائية في «ستار ترك» مؤلفة من سبع كراسي مع كومبيوترات وشاشات مراقبة واستولت عليها.
لاحقاً عندما لم تستطع الديكتاتورية العسكرية ان تفهم كيفية عمل هذه الغرفة، والمشروع الذي كان يعمل عليه عشية الانقلاب، حطمته بالكامل. كان هذا المشروع الذي عرف بـ «سايبر سين» (Cybersyn) اسسته حكومة الليندي كنظام تحكم للاقتصاد على المستويات كافة، وهو في تلك المرحلة لم يكن مكتملاً، وشغلت فقط بعض اجزائه بعد إضراب اكتوبر 1972 الممول جزئياً من الـ CIA، وذلك من أجل الإبقاء على نظم الإنتاج والتوزيع تعمل حتى لا تصاب البلاد بفوضى اقتصادية كانت على اجندة المعارضة اليمينية التي كانت تدفع الى الانقلاب للقضاء على الحكومة الاشتراكية. بدأت في الآونة الأخيرة تتكشف أكثر فأكثر تفاصيل هذا المشروع، اذ عرفت ايدين مدينا في مقالة لها العالم على تفاصيل هذا المشروع، والتي فازت عليه بجائزة الجمعية الدولية لمهندسي الكهرباء والالكترونيات الشهيرة (IEEE) في 2007. يعرف المشروع أيضاً بـ «الانترنت الاشتراكي»، اذ كان يتضمن نظاماً الكترونياً لتبادل المعلومات في الوقت الحقيقي (Real time) -وهو اساس الانترنت الحالي- عبر ربط مراكز الانتاج والتوزيع وغيرها بواسطة تلكسات الى غرفة التحكم. كان الهدف هو التحكم الاقتصادي ضمن الوجهة الاشتراكية لحكومة الوحدة الشعبية، كما كانت للمشروع أهداف أخرى إدارية وفلسفية وحتى سياسية. في الإطار الأخير، كان هناك تفكير لوضع «آلات استشعار» في منازل عينة كبيرة من الناخبين التشيليين يستطيعون عبرها تسجيل آرائهم حول السياسات أو الأوضاع العامة، ما يتيح في «الوقت الحقيقي» كمّاً هائلاً من المعلومات للحكومة تستطيع قياس مدى ارتياح وقبول الشعب لسياساتها. نحو 45 عاماً قبل ذلك، في عام 1928 بدأت في الاتحاد السوفياتي تجربة جديدة غير مسبوقة على المستويين الاقتصادي والسياسي، بل أيضاً على مستوى العلوم الاجتماعية، وهي البدء بالخطة الخمسية الاولى. وقد كانت المرة الاولى في التاريخ التي تطبق أداة علمية للتحكم بالاقتصاد عبر استبدال الاسواق بمجموعة كبيرة من المعادلات الرياضية من اجل دفع حشد الموارد باتجاهات معينة بدل ان تبقى تخضع للسوق ومساوئها، مثل توليد الازمات الدورية وسوء توزيع الدخل والثروة وانتاج مستوى استثمار أقل من المثالي وفي مجالات أقل كفاءة من المطلوب للنمو والتطور الاقتصادي.
هذه المعادلات الرياضية كانت بحاجة الى أمور عدة، أولها إيجاد طرق لحلها وهذا ما أنتجه العلماء الرياضيون والاقتصاديون السوفيات بجدارة كبيرة وصلت الى ان يفوز العالم الرياضي السوفياتي ليونيد كانتوروفيتش بجائزة نوبل للاقتصاد في عام 1975. وجاءت الكومبيوترات لاحقاً لتساعد في حل هذا الكم الهائل من المعادلات. لكن الحاجة الاساسية كانت دائماً هي «المعلومات» وكيفية انتاجها وادخالها الى نظم التخطيط، واهم هذه المعلومات هي استشعار رغبات المستهلكين واوضاع الطلب للسلع المختلفة، وقد أصبح جلياً في المراحل اللاحقة في تطبيق التخطيط المركزي في الاتحاد السوفياتي كيف أن نقص المعلومات كان يؤدي الى فوائض وشح في سلع وقطاعات معينة (لم يكن هذا هو السبب الوحيد فأنظمة التسعير وضرورة حشد الموارد باتجاهات معينة كان لهما التأثير أيضاً). من المفارقة ان الثورة في المعلومات في تحصيلها ونقلها ومعالجتها قد بدأت تحصل بشكل متسارع بعد انتهاء تجربة التخطيط المركزي في 1991. فاليوم حتى رغبات المستهلكين اصبحت متاحة للقياس، وهي المهمة التي كانت تعتبر مستحيلة بسبب عددهم الهائل و»رغباتهم» التي لا يمكن تكميمها كما يمكن تكميم عمليات الانتاج واستعمالات التكنولوجيا. أما الآن ومع تعميم التسوق عبر الانترنت أصبحت لدينا قاعدة معلومات كبيرة حول المستهلكين وتفضيلاتهم. في الصين، مثلاً، تبلغ المبيعات عبر الانترنت والوسائط الالكترونية اكثر من 10% من مجمل المبيعات الاستهلاكية وتتزايد بشكل مضطرد. كما ان الانظمة الذكية تدرس الانماط الاستهلاكية وتستعمل في التسويق لسلع وخدمات حسب رغبات المستهلك حتى فرداً فرداً. في آخر استعمال لأنظمة المعلومات هو مشروع قياس درجة الانتباه لدى المستخدم للكمبيوتر التي يمكن ان تستعمله شركات الاعلان في «تخطيطها». إذ من المعروف ان الانسان الحديث بدأ يفقد مقدرته على التركيز لمدة طويلة ما يعني أن من يستطيع ان يعظم الاستفادة من «الانتباهات الجزئية» للانسان يمكنه ان يحصد الربح الكبير من استغلال هذا «المورد» الذي يزداد مع الأسف شحاً. في ثلاثينيات القرن الماضي، اعلن الاقتصادي النمساوي فريديريك حايك، المناهض للاشتراكية والعدو اللدود للكينزية، ان الاشتراكية غير ممكنة بسبب معضلة نقص «المعلومات» التي لا يمكن تخطيها، وان السوق هي الآلة المثلى لمعالجة المعلومات. ان تجربة الاشتراكية المحققة على مدى 70 عاماً، كما مشروع «الانترنت الاشتراكي» في التشيلي، يؤشران الى رغبة الانسانية في حل معضلة المعلومات هذه. الآن تحصل تطورات على مستوى القدرة على تحصيل ومعالجة المعلومات واخضاعها للانظمة الذكية تجعل، ليس فقط التخطيط المركزي ممكناً، بل تؤشر الى الحاجة الى التخطيط من اجل حل مساوئ السوق، ليس فقط على المستويات الماكرواقتصادية، كالأزمات او التوزيع السيئ للدخل والثروة، وإنما أيضاً على مستوى كفاءة معالجة المعلومات. بذلك تكون الرأسمالية، بقياسها الدقيق في الاقتصاد الهادف الى البحث عن الربح، تؤدي الى تخطي العقبة «الحايكية» وتعبد الطريق لإنشاء نظام أكثر فعالية منها، وهي بذلك تتبع منطقها الاساسي الذي يدفعها دائماً الى انتاج الظروف المؤاتية لتحقيق نقيضها الاشتراكي.
أعطت وزارة الأشغال العامّة والنقل، أمس، أمر المباشرة بأعمال إنشاء «ميناء نبيه بري للسياحة والنزهة» على شاطئ عدلون في الجنوب، على الرغم من الاعتراضات الأهلية والمخالفات القانونية والشكاوى القضائية التي رافقت عملية تلزيم المشروع. بحسب المعلومات المستقاة من بلدية عدلون، يستولي هذا المشروع على نحو 164 ألف متر مربع من الشاطئ ويدمّر واحداً من أهم المواقع الأثرية، المتمثّل ببقايا مدينة «مآروبو» الفينيقية... من دون أي دراسة لتقويم الأثر البيئي أو تدخّل جدّي من وزارة الثقافة أو مناقشة للجدوى مع المجتمع المحلي!
هديل فرفور, آمال خليل - الاخبار
«لمن مراكب الصيد واليخوت؟»، تسأل إحدى الناشطات في الحملة المدنية الرافضة لمشروع «ميناء نبيه بري للسياحة والنزهة»، تقول: «الـ40 مليار ليرة التي ستُنفق على هذا المشروع، كانت آثار البلدة وأهل عدلون أولى بها».
التساؤل الذي طرحته ابنة البلدة خلال الاعتصام الرمزي الذي نظّمه «تجمّع جمعيات وهيئات المجتمع المدني لأجل عدلون»، أمس، أمام المتحف الوطني، ينطلق من واقع مفاده أن البلدة تحتاج إلى مشاريع تنموية تنهض بالسكان وتحسّن مستوى عيشهم، لا مشاريع مخصصة للأثرياء ويخوتهم يستفيد منها بعض النافذين من خلال عقود الاستثمار والتشغيل اللاحقة، وذلك على حساب الحق العام بالشاطئ والبحر والآثار والذاكرة الجماعية. اختارت وزارة الأشغال العامة والنقل واحداً من أهم المواقع التاريخية على الشاطئ اللبناني لإقامة «ميناء لليخوت»، وهو الواجهة البحرية لمدينة «مآروبو» الفينيقية ومينائها الأسري وبقايا دباغاتها. ودافعت الوزارة عن مشروعها بالقول إنه سيحتضن مراكب الصيادين أيضاً كي تكسب موافقة بعض السكان، إذ صرّح المدير العام للنقل البري والبحري عبد الحفيظ القيسي بأن هذا المشروع هو خدمة للصيادين وللحياة البحرية في المنطقة، إلا أن جمعية «الجنوبيون الخضر» ردّت بأن بلدة عدلون ليس فيها أي مركب واحد للصيد يستفيد من هذا المشروع، ومرفأ الصرفند للصيادين لا يبعد أكثر من كيلومترات قليلة عن موقع المرفأ الجديد المزمع إنشاؤه. أمس، أعطت وزارة الأشغال العامة والنقل أمر مباشرة العمل للشركة المتعهدة (شركة خوري للمقاولات) التي شرعت بأعمال ردم الأحواض والحاويات الصخرية والأجران وتدميرها، وقد كانت تستخدم قبل آلاف السنين كملاحات ودباغات ومشاغل مراكب في مدينة «مآروبو»، أول أسماء عدلون المدونة. تقول الجمعية إن المشروع «سيقوم بالكامل على آلاف الأمتار المربعة من الأملاك العامة البحرية، نصفها يشكّله الشاطئ والنصف الآخر من خلال عملية ردم البحر»، لافتة إلى أن «أعمال الردم الواسعة التي سيتضمنها المشروع ستلحق أبلغ الضرر بالتنوع البيولوجي للشاطئ (...) وستؤدي إلى تدمير موائل السلاحف البحرية، التي ما زالت توجد في محيط الموقع وتعشّش على شطآنه، وهو ما سيؤدي إلى اختلال إضافي في النظام البيئي المُحيط». ينقل التجمع المناهض للمشروع عن بلدية عدلون معلومات مفادها «أن المشروع سيقوم على جرف وردم ما يزيد على 164 ألف متر مربع من هذا الشاطئ الفريد»، وتحديداً على الموقع التاريخي حيث بنى الفينيقيون مدينتهم التاريخية «مآروبو» ما بين الألف الأول والألف الثاني قبل الميلاد. واجب الحكومة اللبنانية والوزارات والجهات المعنية العمل على حماية هذا الموقع التاريخي وحماية الشاطئ والعمل على تأهيله ضمن خطة تنموية شاملة تنهض بالبلدة التاريخية. ولكن بدلاً من ذلك، أُعلن مشروع بناء مرفأ بتسعة أحواض، يتسع لـ 400 يخت ومركب، وسنسولي حماية (600 م و240 م)، وهي مقاييس تتجاوز مقاييس مرفأ صور أو مرفأ صيدا حجماً، «في بلدة تفتقر إلى البنية التحتية المناسبة وتعاني ومواقعها التاريخية والبيئية إهمالاً مُزمناً»، على حد تعبير «الجنوبيون الخضر».
يجزم رئيس اتحاد الشباب الديمقراطي علي متيرك (وهو واحد من أبناء بلدة عدلون) بأنه «لم يجر إطلاع أهالي البلدة على الجدوى الاقتصادية للمشروع، ولم تُجرَ دراسة تقويم الأثر البيئي». في الواقع، إن عدم تقديم المشروع لأي تقرير أثر بيئي وعدم إجراء المسوحات للمواقع ليس المخالفة الوحيدة التي يرتكبها المشروع، كذلك إن هذه المخالفة ليست وحدها التي تفضح تقاعس وزارة البيئة ووزارة الثقافة. يؤكد الأهالي أن أعمال الردم والجرف بدأت منذ نحو أسبوعين من قبل المتعهّد «شركة خوري للمقاولات»، على الرغم من وجود كتاب صريح موجه من قبل وزارة الثقافة إلى محافظ لبنان الجنوبي يطلب فيه وقف العمل. وعلى الرغم أيضاً من أن وزارتي البيئة والثقافة كانتا قد طلبتا من وزارة الأشغال توفير الخرائط ودراسة تقويم الأثر البيئي للمشروع وإجراء مسح للموقع قبل إعطاء موافقتهما، إلا أن وزارة الأشغال تجاهلت كل ذلك وأصرت على المضي بالمشروع، وصمتت الوزارتان ولم تستخدما صلاحيتهما من أجل وقف المشروع قسراً. وكانت عملية تلزيم «شركة خوري للمقاولات» بأشغال المرفأ السياحي الجديد قد انطوت على ملابسات كثيرة وشبهات. إذ أصدر مجلس شورى الدولة قراراً يقضي بموجبه بإبطال قرار وزير الأشغال العامة والنقل غازي زعيتر تلزيم أشغال إنشاء مرفأ عدلون (السنسول الرئيسي ــ المرحلة الأولى)، للشركة المذكورة لمخالفته الأصول القانونية في عملية التلزيم. إذ ألغى الوزير المعني نتائج المناقصة ورفض السعر الأدنى البالغ 4.88 مليارات ليرة (الذي قدّمته شركة الجنوب للإعمار)، وأصدر قراراً يقضي بتحويل التلزيم من مناقصة عمومية إلى استدراج عروض محصور عبر استدعاء 5 شركات فقط مسماة من قبله، من بينها شركة واحدة فقط شاركت في المناقصة الملغاة هي «شركة خوري للمقاولات» التي فازت في النهاية! اللافت أن هذه الشركة فازت في استدراج العروض بسعر أعلى مما قدمته في المناقصة الملغاة بمبلغ 2.49 مليار ليرة. (راجع الأخبار العدد السبت ١٧ تشرين الأول ٢٠١٥ http://al-akhbar.com/node/244051 والعدد الاثنين ١٢ تشرين الأول ٢٠١٥ http://www.al-akhbar.com/node/243723). يقول متيرك إنه لم يجرِ إشراك أهالي البلدة بالمشروع، لافتاً إلى أن الشاطئ المستهدف ترتاده «الفئات الشعبية في البلدة»، وعلى الرغم من أن القيّمين على المشروع تعهدوا بإبقاء الشاطئ مسبحاً شعبياً، إلا أن تحويل البحر أمامه إلى حوض ومرسى لليخوت سيسبب الضرر الأكيد للرواد لأسباب عدة، منها تلوث مياهه من الزيوت المتسربة من اليخوت. مصادر في بلدية عدلون قالت لـ «الأخبار»، إنه منذ أكثر من 3 سنوات طُرح المشروع على أساس إقامة مسبح شعبي «قبل أن ينحرف عن مساره ويصير ميناء نبيه بري للسياحة والنزهة». يقول الناشطون في البلدة إن الأهالي منقسمون بين معارض كلياً للمشروع وبين مؤيد له وبين من لا يزال متخوّفاً من إبداء رأيه. يطرح متيرك مسألة «غياب مساحة النقاش الموجودة بين أهالي البلدة»، في إشارة إلى أن «الصراع» بين مؤيدي المشروع ومعارضيه محكوم باعتبارات حزبية وسطوة قوى الأمر الواقع وترويجها مزاعم عن أن المشروع سيُسهم بخلق 400 وظيفة. ولم يتوان مؤيدو المشروع عن إطلاق تهديدات ضد كل من يعارض إنشاء الميناء. أمس، ناشد التجمّع المناهض المعنيين كافة التحرّك لإنقاذ الشاطئ التاريخي لبلدة عدلون. على ماذا تراهنون؟ يقول المتحدّث باسم «الجنوبيون الخضر» وسيم بزيع: «نراهن على القضاء والشعب، كذلك نراهن على إحراج المعنيين من خلال الضغط على المنظمات الدولية التي تُعنى في هذا الملف». يكشف رئيس الجمعية هشام يونس أنه التقى في العاصمة البريطانية، لندن، عدداً من الأكاديميين والخبراء الأثريين الأوروبيين الذين وافقوا على الحضور إلى عدلون في شهر أيار المقبل وعقد مؤتمر خاص عن إرث البلدة التاريخي في محيط المرفأ الفينيقي.
بيار أبي صعب - الاخبار
كم كانت خيبة السينمائية المصرية الشابة كبيرة، حين وصلت من القاهرة لتكتشف أن زياد الرحباني لن يعيد تقديم مسرحيته «بالنسبة لبكرا، شو؟»، كما شُبّه لها على فايسبوك اللعين.
هذه فرصة ذهبية لا تفوّت، فكرت، فقطعت تذكرتي سفر لها ولصديقها، وهرعا إلى بيروت! كلا للأسف عزيزتي، ما يمكنك مشاهدته هو شريط سينمائي، قائم على ترميم وثائق فيديو، صُوّرت على دفعات في النصف الثاني من السبعينيات، خلال عروض المسرحية الأسطوريّة التي نعرفها عن ظهر قلب، من خلال أشرطة كاسيت عبرت متاريس وخنادق وحدوداً... لكن خلافاً لبعض ما سمعتِه وقرأتِه ربّما من انتقادات وتنظيرات، هنا وهناك، منذ وصولك إلى مدينة الغرائب والعجائب، فإن الأمر يستحق بحد ذاته عناء السفر.الفيلم الذي يشكّل مفاجأة حقيقية، ستشعل بيروت فور انطلاق الفيلم في الصالات التجارية، يبعث على الشاشة الكبيرة تلك اللحظات التي يخيل إلينا أننا عشناها في حياة أخرى. يحييها ويخلّدها ويضعها في تصرّف الأجيال القادمة. ويحتفي بعبقرية زياد الرحباني وموهبته، بوعيه النقدي وحسّه الشعبي وفطرته الكوميدية ومقدرته على توظيف اللغة والشخصيات والحبكة والحالات والسخرية لتفكيك الواقع وفضحه، في خدمة رؤية سياسية، استشرافية، متقدمة، ما أحوجنا إليها اليوم، في زمن الطاعون المذهبي، والاستلاب السياسي، وقاطعي الرؤوس. بعض الجمهور شاهد المسرحية حقاً، لكن معظمه لم يكن هنا، قبل 35 سنة، أو لم يتمكن من عبور خطوط التماس بين «الشرقية» و«الغربية». مع أن أغنيات زياد وكاسيتات مسرحياته واسكتشاته الإذاعية، كانت قد تفشت في «الغيتو الانعزالي» حسب مسميات المرحلة.
لا شك في أن المغامرة التي خاضها إيلي خوري، منتج فيلم «بالنسبة لبكرا، شو؟» وموزعه، تستحق تحية إعجاب، وتشكل درساً سياسياً وثقافياً. يوم قرر رجل الصورة والإعلانات وفنون التواصل أن يحصل على حقوق أشرطة فيديو عمرها عقود، في أرشيف زياد الرحباني، بهدف إحيائها، وإعادتها لجمهور لا يعرفها إلا من بعيد، فكر بعضهم أنه مجنون يهوى ركوب المخاطر. لكنّنا نفهم الآن أساس رهانه: لقد لعب ورقة الحنين ضدّ التكنولوجيا، وشعبيّة زياد الرحباني ضد تصدعات الزمن، وقدرة فنّه على مخاطبة الراهن من قلب ضباب الحرب الأهلية اللبنانية. إنه الفن كآلة لعبور الزمن، ومساءلة الوثيقة وترميمها، وبعثها الآن وهنا. الفيلم يعيد الاعتبار إلى الأرشيف بصفته مادة فنية. هكذا تصبح الهنات الطبيعية في الصوت والصورة من تشويش وغبش وصدى، وفقر حركات الكاميرا، وغياب التقطيع، وأخطاء الراكور... جزءاً من جمالية العمل وسحر أسلوبه، وتعبيراً عن «شعرية» المسافة. سيحب الناس الفيلم رغم المشاكل التقنية، بل بفضلها: المسرح الشعبي على خشبة «مسرح وسينما الأورلي» بالأمس البعيد، هو على الشاشة اليوم «المسرح الفقير» المتقشف الذي يأخذ إلى الجوهر.وهذه التجربة الخاصة التي ستوحّد اللبنانيين، كما جمعت النقيضين إيلي خوري وزياد الرحباني، تسلّط الضوء على خطاب سياسي استشرافي، يبدو راهناً أكثر من أي وقت مضى. لقد تنبّأ زياد بالحريرية الاقتصادية سنوات قبل بروزها، وفضح «اقتصاد الكاباريه» الذي بنى عليه الرئيس الراحل فلسفة إعادة الإعمار الكارثيّة. «بلد ما فيه مواد أولية» قدره أن يتحول إلى ماخور لطيف للرساميل النفطية، وأن يجند طاقاته الإنتاجية في خدمتها. كيف نتلقى كل ذلك اليوم وقد أصبح لبنان مستنقعاً استهلاكياً، وازدادت غربة المثقفين والشعراء، و«هوت سنونوتهم على الرماد»، وبعنا كل شيء، وصرنا تحت رحمة اقتصاد الخدمات، ونمط الإنتاج الطفيلي الذي يختزله الناس إلى تسمية «الخليج»؟في فيلم «بالنسبة لبكرا، شو؟» هناك أيضاً الحنين. قبعة جوزيف صقر الكولونيالية، وفتنة نبيلة زيتوني، وسالفاً فايق حميصي، وصوت بطرس فرح، واستدارة رفيق نجم، وطبعاً زياد بالبيريه والنظارتين واللحية. نحن اليوم في الـ «بكرا» الذي تسأل عنه ثريا طوال الوقت، وتلاحق به زوجها زكريا البارمان الشهير في «ساندي سناك»، في الحمرا، بيروت 1978: بكرا أسوأ مما توقعناه. المسرحية التي أثّرت في الوعي السياسي لجيل كامل، نستعيدها اليوم كأيقونة، كبوصلة، في الزمن النغل. زياد بيننا، شفيعنا، نسبق شخصياته، نردد حواراته كتعاويذ سحرية أو أدعية. نعود، بسحر ساحر، إلى تلك اللحظة التي كان فيها كل شيء ممكناً!
سيف دعنا - الاخبار
من المستحيل على حركة تحرر أن تستمر في مجابهة الغرب حتى النهاية وهي تشاطره منظومته الاقتصادية نفسها (هادي العلوي: «في الإسلام المعاصر»)
«ليس هناك عالم ثالث للعالم الثالث»i. هكذا فَسَّرَ ايمانويل والرشتين فشل دول الجنوب في القرن العشرين في تكرار نموذج الإصلاحات الليبرالية الكبرى التي شهدتها اوروبا في القرن التاسع عشر.
بهذا المعنى، لم تحقق أوروبا هذه الإنجازات التاريخية (تحديداً بناء «دولة الرفاه» و«الديمقراطية الليبرالية»، أو «حق الانتخاب العام») بشكل مستقل واعتماداً على مصادرها وثرواتها فقط. بل، كانت هذه الإنجازات ممكنة التحقيق فقط اعتماداً على نظام عالمي أوروبيّ المركزية سهل باستمرار عملية انتقال الثروة وتدفقها من مجتمعات الجنوب إلى مجتمعات الشمال. فمنذ ما سماه والرشتين «القرن السادس عشر الطويل» (١٤٥٠ـ١٦٤٠) تأسس نظام رأسمالي عالمي مكّن اوروبا من نهب ثروات شعوب دول الجنوب بشكل مباشر، عبر الاستعمار الكلاسيكي، وغير المباشر، عبر منظومة عالمية (الاستعمار الجديد) سهّلت انتقال وتدفق الثروة عبر آليات متعددة كالتبادل غير المتكافئ للقيم الاقتصادية والتقسيم العالمي الإجباري للعمل لصالح اوروبا. ولهذا، فحتى تصبح اوروبا (والغرب عموماً) وتبقى كما هي، على العالم الثالث أن يكون ويظل كما هو. تفسير والرشتين هذا ليس جديداً طبعاً، رغم أن مشروع «نظرية النظام العالمي» مؤسس كلياً تقريباً على فرضية مفيدة لفهم مجريات الأحداث والتاريخ في سياق هذه المنظومة تتمثل بترابط العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في كل أنحاء هذا النظام العالميii. فجوهر الفكرة موجود في نظرية لينين عن «تفاوت التطور»iii، ومفصلة بشكل أولي في «تراكم رأس المال» عند روزا لوكسمبورغ صاحبة مفهوم «السوق الثالثة». فـ«الحقيقة الحاسمة»، تقول لوكسمبورغ، «إنه لا يمكن الحصول على فائض القيمة (أو تحقيقها) اعتماداً على البيع للعمال أو الرأسماليين (في المركز الرأسمالي)، بل هذا ممكن فقط عبر التبادل مع منظومات وشرائح اجتماعية غير رأسمالية»iv.
الفراغ الايديولوجي وإنتاج الوهم
لكن هذا التفسير المنطقي والذي يَسْهُلْ إسناده وتدعيمه بالبيانات لا ينفي أن النظام العالمي في الحقيقة أكثر تعقيداً، ويمكن القول أيضاً أكثر سوداوية وإحباطاً إذا أردنا الذهاب خطوة اخرى إلى الأمام ومحاولة تقديم تفسير أوسع لفشل حركات التحرر في الجنوب أولاً وفقدان السيادة والاستقلال لاحقاً. فقدرة النظام الرأسمالي العالمي على التطور وضمان استمرار تدفق الثروة من الجنوب إلى الشمال تتطلب دائماً ابتكار آليات جديدة، وأحياناً شيطانية ومتوحشة وعنيفة، وتفترض أدواراً مهمة للشرائح المهيمنة والنخب في الجنوب كما تفترض هيمنة سياسية، ثقافية، ومعرفية اوروبية على العالم ـ آخرها طبعاً كان الليبرالية الجديدة التي سآتي على تبعاتها باختصار في وطننا العربي في هذا المقال. لهذا السبب انتهت حركات التحرر من الاستعمار في مجتمعات الجنوب وبلا أي استثناء تقريباً إلى جملة من الـ«مجندين للاستعمار»، كما جادل ديفيد سكوت في كتاب عبقري (برغم دفعه للإحباط) يحمل نفس العنوانv. هم مجندون وليسوا مجرد تابعين أو متطوعين إذن، والسبب طبعاً، ليس فقط طبيعة بنية المنظومة الاقتصادية الرأسمالية العالمية فقط، بل تحديداً استنادها لعملية تبادل ثقافي ومعرفي غير متكافئة بين الشمال والجنوب تشكل أساس عملية الهيمنة التي شَرَحَ أحد آلياتها الأنثروبولوجي الماركسي ستانلي دياموند في «البحث عن البدائي»: «التبادل الثقافي كان دائماً موضوع هيمنة. فإما أن تقوم الحضارة مباشرة بتدمير الثقافة البدائية التي ترى أنها تقف في طريق حقها التاريخي، أو يتم إضعاف الاقتصاد البدائي بفعل اقتصاد السوق المتحضر بحيث لا يمكنه الاستمرار كحامل للثقافة التقليدية»vi. في سعيها للهيمنة، إذن، تقوم المنظومة الرأسمالية بكسر العمود الفقري للثقافات المحلية ولمشاريع التحرر غير الأوروبية بالقضاء، بالقوة أحياناً كما في حالة العراق (وسوريا الآن) على أساسها الاقتصادي وسحقه.
والرشتين إذن يجيب على السؤال على مستوى البنية الاقتصادية ويشرح آليات تدفق الثروة من الجنوب للشمال. أما على مستوى الإيديولوجيا والهيمنة (الثقافة والمعرفة)، فهذه مسألة مهمة طرقها الزميلان ورد كاسوحة وعامر محسن في سلسلة مقالات مهمة هنا في «الأخبار» وأحاطا بها بعمق، وكان في الخلفية حوار بيننا أساسه مقال نشرته الـ«فورين بوليسي» عن الإكوادور ومستقبل رفاييل كوريا والسؤال المقلق الذي تبع ذلك: هل سنخسر الإكوادور، وربما بوليفيا، بعد فنزويلا (الهجمة على الإكوادور بدأت في الإعلام)؟ ربما لم تشكل خسارة فنزويلا، وربما الإكوادور لاحقاً، مفاجأة لمن يفكر بالطريقة السالفة الذكر. الكتابة كانت على الحائط منذ البداية، ولكن يبدو أن الأمل في تحقيق اختراق في هذه المنظومة العالمية دفع الكثيرين لتجاهل الأسئلة المهمة: هل يمكن فعلاً ان تنجح تجربة كتجربة فنزويلا في سياق نظام عالمي رأسمالي كالذي نعيش فيه؟ وهل يمكن حقاً أن تنجح تجربة تعتمد فقط على مجرد فك الارتباط السياسي عن الاقتصاد «Delinking»، والاكتفاء بمجرد مواجهة مفاعيل تدخل البنك الدولي وصندوق النقد في الداخل؟ السؤال المهم الآخر برأيي هو سؤال حالة الفراغ الايديولوجي وما يتبعه من إنتاج للوهم، أو غياب أي نوع من النقاش والحوار الإيديولوجي بمشاركة رؤى من خارج المنظومة الرأسمالية. فليست العلاقة الاقتصادية السياسية غير المتكافئة لوحدها كافية للتفسير الشامل هنا. ربما تفسر هذه العلاقة فعلاً الظروف المزرية والمرعبة أحياناً التي يعيشها أهل الجنوب (وإذا عرفنا أن وتائر النمو في الدورات الاقتصادية المتعاقبة تصاعدية بالضرورة عادة فإن توقع أي سيناريو مستقبلي غير الأسوأ في الجنوب غير منطقي). مشكلة الهيمنة التي طرقها الزميلان عامر محسن وورد كاسوحة ضرورية جداً لفهم الصورة أكثر، ولن أضيف للنقاش هنا سوى القول إن هيمنة وهم نموذج الطبقة الوسطى الغربية وخيار الخلاص الفردي كمُمكن في عقول فقراء الجنوب هو من تبعات إلغاء اليسار وصوت الجنوب في الحوار الإيديولوجي حول الاقتصاد والمجتمع والسياسة والتاريخ. فالقوة الإيديولوجية للنيوليبرالية، والاقتصاديات الرأسمالية عامة، وقدرتها على خلق هذا الوهم أساسه غياب اليسار والجنوب كبدائل في أي حوار بسبب الضعف السياسي في أعقاب سقوط المنظومة الاشتراكية وتفكك اليسار وتشتت الجنوب، وكلما زاد الضعف السياسي زاد وسيزداد التهميش ـ قل ما شئت عن التجربة الاشتراكية وعن تجربة العالمثالثية، إلا أنه ينبغي الاعتراف أن مجرد وجودهما، وحضورهما السياسي والفكري، كان يعني توفر النقد من خارج المنظومة الرأسمالية الذي يؤدي غيابه إلى سيادة الوهم وتوحش رأس المال. كان سقوط الاشتراكية وتفكك المنظومة الجنوبية كارثي، ليس فقط لأن الفقراء يزدادون وسيزدادون فقراً بل وأيضاً لأنهم يزدادون وسيزدادون تعلقاً بأوهام نموذج لن يعيشوه أبداً تسوقه آلات الدعاية الغربية. لكن إلغاء اليسار الجنوب وغياب النقد من خارج المنظومة الرأسمالية يعني أيضاً تعطيل فكرة العلم والفن والأدب وكل اشكال الإبداع الإنساني ـ من يعرف شيئاً قليلاً عن فلسفة العلوم، مثلاً، يعرف أن العلم يكون، وأن الثورات العلمية تحدث، فقط حين يتوفر النقد من خارج المنظومة الفكرية والعلمية السائدة وليس من داخلها ـ هل يتذكر أحد آخر اختراقاً معرفياً جدياً في العلوم الإنسانية والاجتماعية؟ هل يلاحظ الناس مدى بؤس ما يسمى «علم الاقتصاد» الذي يدرس في الجامعات؟ حتى وقت قريب، كانت العلوم الاجتماعية، كما يقر الجميع، هي حوار مع ماركس أو مع شبح ماركس بعد موته (الثانية كما في حالة احد أهم علماء الاجتماع، ماكس فيبر) وكان حضور الصوت الجنوبي في نظريات التنمية ملموساً، وهو ما فتح الأفق واسعاً لتطورها. أما الآن، فنادراً ما تقرأ في مجلات التخصص ما يخرج عن مسلمات المنهج الوضعي (positivism) فيما المنهج الواقعي النقدي، مثلاً، (كما هو عند روي باشكار) فيستثنى على أنه إعادة إنتاج أكاديمية خبيثة للرؤية اليسارية لأكاديميين ماركسيين يتحايلون على التيار الرئيسي. سقوط الاشتراكية كان كارثياً لأنه ليس بوسع الرأسمالية الإجابة على الأسئلة التي يطرحها تعفنها ولا مواجهة وحل المشكلات التي تخلقها وستخلقها باستمرار. كان كارثياً لأن استمرار الرأسمالية هي تعطيل للتطور الإنساني في كل المجالات ـ سيستمر التاريخ طبعاً لأن الاستمرارية هي التاريخ الحقيقي، لكن العطالة ستصيب العلوم الاجتماعية والإنسانية والأدب والفن والثقافة عموماً. هكذا تصيب العطالة العقول ويسود الوهم وخرافات رأس المال.
تنمية العرب المعكوسة
«يرجع الوضع الميؤوس منه للعالم العربي»، يقول هادي العلوي في «في الإسلام المعاصر» إلى «اقتصاده الطرفي ـ الكولونيالي الملحق بالاقتصاد الرأسمالي العالمي. أي إلى الفشل في ايجاد الاقتصاد النقيض للاقتصاد المهيمن بما يسمح بالقطع مع المتروبول الأوروبي الغربي باعتباره مصدر خرابنا الأوحد»vii. هذا من ناحية بنية النظام العالمي، وهي صحيحة بالمضمون وتنطبق حقاً على كل دول الجنوب. لكن قصة الوطن العربي، على الأقل منذ نهاية السبعينات هي قصة فريدة ومرعبة تحكيها الأرقام والبيانات.
لم تفشل العملية التنموية في الوطن العربي، بل تعرضت قدرات وإمكانيات الوطن العربي على النمو لعملية اجتثاث. هذه خلاصة القصة التي يرويها كتاب «التنمية العربية ممنوعة: آليات التراكم عبر الحروب العدوانية»viii. فمراجعة ما حصل في وللوطن العربي خلال العقود الثلاثة الماضية فقط، وهي عمر اختراق النيوليبرالية لبلادنا تشي بأن الوطن العربي خضع (أو أخضع بالقوة غالباً) لعملية تنمية معكوسة (Dedevelopment) عبر تجريده من قدراته وإمكانياته على النمو. تاريخ التنمية المعكوسة في الوطن العربي هو، هو، تاريخ النيوليبرالية في بلادنا. كل المؤشرات الاقتصادية (الفقر طويل الأمد، ارتفاع معدلات البطالة ومستويات اللامساواة، تدفق الموارد الحقيقية والمالية، الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان الأساسية من قبل الأنظمة والاستعمار العسكري وغيرها الكثير مقارنة بالمعايير العالمية) تؤكد أن ما حصل خلال العقود الثلاثة الماضية هو «عملية تفكيك متعمد ومنهجي لقدرة الوطن العربي» على التحول هيكلياً وبالتالي اجتثاث قدرته على النمو. وفوق ذلك كله، لم يتعرض الوطن العربي مثل باقي دول الجنوب لعملية كلاسيكية من إنتاج التخلف (underdevelopment) فقط، ولم يتعرض للتبعات المتوحشة التقليدية لنماذج ووصفات النمو المفروضة من البنك الدولي وصندوق النقد (طرد آلاف الفلاحين من الأرض وتحويلهم ليد عاملة رخيصة تبحث بيأس عن عمل)، كما لم يعاني فقط مما سماه روي ماورو ماريني «الاستغلال الفائق». فوق كل ذلك، وخلال «العقود الخمسة الماضية، كان الوطن العربي ساحة لأعلى نسبة تواتر للحرب على وجه الأرض» (ص: ٤). منذ نهاية الحرب الباردة تحديداً، كما يقول بيري أندرسون في مقدمة العدد الأخير من «نيو لفت ريفيو»، «أن الدول العربية شكلت منطقة للتدخل العسكري الغربي لا مثيل لها في عالم ما بعد الحرب الباردة» (ص:5)ix. والحرب هنا ليست مجرد الوجه العنيف والوحشي لرأس المال فقط، بل هي (كمؤشر لأزمة وتعفن رأس المال هذا) أيضاً أحد آليات تراكمه (فرضية «المجمع الصناعي العسكري» لتفسير الحروب الغربية على بلادنا تبسيطية جداً طبعاً، إن لم نقل سخيفة، مثل فرضية اللوبي، لأنها تتجاهل فكرة الطبقة الحاكمة وترابط مصالح الشركات في المنظومة الرأسمالية، وحتى فهم جوهر فكرة رأس المال). الحروب المتتالية في وعلى وطننا العربي كانت دوماً آلية دمجه في منظومة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، والأهم كانت الآلية التي أعادت تشكيل وتطويع الطبقات المهيمنة (المهزومة) في الوطن العربي، كما يحصل عادة بعد كل حرب، وفق مصالح الغرب ووفق شروط الهزيمة. في المحصلة فرضت الحرب على المهزوم دائماً شروطها وفقد الوطن العربي تدريجياً سيادته وحتى أساسيات مفهومه للأمن القومي (المعنى الحقيقي للتنمية) عبر إخضاعه لسياسات نيوليبرالية. هذه القصة تؤكد صحة ودقة السؤال الذي صفع به العزيز قاسم عزالدين مؤخراً «مفكري» و«منظري» الديمقراطية في بلادنا: ما معنى ديمقراطيتكم في هذا السياق حين تصادر كل القرارات المهمة وتوضع في يد المؤسسات الدولية في الخارج (البنك الدولي وصندوق النقد والمفوضية الاوروبية)x. هذه ديمقراطية الطبقة المهزومة التي تضع شعبها فقط أمام خيار إختيار من ينفذ تعليمات الخارج وشروط الهزيمة فقط (مبارك أم مرسي أم السيسي، ما الفرق؟) ويتنازل عن السيادة الوطنية، ولا تؤسس لصعود من يملك برنامج سيادة وطنية. ألم تعلمنا التجربة اليونانية شيئاً؟ كيف بصقت ألمانيا وأوروبا على نتائج الاستفتاء العام ولاحقاً الانتخابات في اليونان وكيف يخضع اليسار أو اليمين، لا يهم، في المجتمعات المهزومة طالما انه ينتخب ليطبق ذات السياسة الاقتصادية؟ التاريخ الاقتصادي لوطننا العربي في العقود الأخيرة لوحده كفيل بأن ينسف كل افتراضات الاقتصاد النيوليبرالي رأساً على عقب، وهو شاهد حي على أن تاريخ اجتثاث مقدرات التنمية في بلادنا وما لحق بنا من كوارث هو، هو تاريخ النيوليبرالية ذاته في بلادنا. فالانفتاح لم يعمل على زيادة الإنتاجية كما يَفْترِض ويَعِدْ أنبياء النيوليبرالية ورسل رأس المال. العكس بالضبط هو ما حصل في الوطن العربي، كما تؤكد دراسة «انخفاض الإنتاجية في الوطن العربي». مثلاً، «على مدى العقود الثلاثة الماضية نما الطلب على اليد العاملة بمعدل اقل بكثير من نمو القوة العاملة، في حين أنه في الستينيات والسبعينيات (سنوات تدخل الدولة وإدارتها للاقتصاد) كان نمو الطلب على اليد العاملة متساو تقريباً مع معدل عرض العمل. علاوة على ذلك، منذ بداية الثمانينات (بداية اختراق النيوليبرالية لبلادنا) لم يكن هناك أي تحولات كبرى في التكوين القطاعي أو تكوين الشركات في الوطن العربي، والذي كان من شأنه (لو حصل) أن يسمح بمرونة أكبر للطلب على العمل أو لحصول استبدال أكبر بين العمل/ رأس المال». لهذا، لم تكن شركات أكبر مع تكنولوجيا أفضل هي التي تقود النمو من خلال استبدال العمل بآلات أكثر كفاءة (كما ترسم الدعاية الصورة)، بل «كانت ظروف السوق الحرة التي تقبل بها فقط المجتمعات المهزومة هي التي قادت لتسريح العمل» (ص: ١٤١)xi. في المقلب الآخر، وعلى العكس من ذلك تماماً، «أثبت القطاع العام «غير الكفؤ» (وفق هذه الأدبيات) جدارته. كان فعالاً اجتماعياً لأنه استمر بالعمل بكفاءة «كوسادة» للرعاية الاجتماعية لمجمل السكان» (ص:١٤١). بعد ثلاثة عقود من السياسات النيوليبرالية كانت النتائج كارثية: «٥٠٪ من سكان الوطن العربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم (حد الفقر) وينفقون أكثر من نصف دخلهم على المواد الغذائية الأساسية»، كما يشير التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام ٢٠٠٥. لكن عتبة الدولارين للدخل، والدولار للإنفاق على المواد الغذائية الأساسية، يجب أن تقرأ أيضاً في سياق ظروف الوطن العربي الخاصة، كون بلادنا هي أكثر بلاد الأرض تبعية (واستيراداً) حين يتعلق الأمر بالمواد الغذائية. فعتبة الدولارين والدولار في البلاد التابعة والمستوردة للمواد الغذائية ستضيف كثيراً لمعرفتنا وفهمنا لكيفية قراءة معدلات الفقر. ففي الهند، مثلاً، حيث المواد الغذائية تنتج محلياً، يمكن للدولار أن يشتري أكثر بكثير من لبنان حيث يتم استيراد غالبية السلة الغذائية. ولهذا «فإنه حين يتم تحرير الأسعار من حركة الأسعار الدولية ويتم تحديدها وفقا لمعطيات الإنتاج في السوق الوطنية، فإن العائد يكون ذا قيمة أكبر نسبة للسعر». وبالتالي، فإنه حين يتم إنفاق نصف كل دولار على الأغذية المستوردة التي يتم تحديد أسعارها دولياً (كما في العراق ولبنان وليبيا مثلا) فإن مقياس «تعادل القوة الشرائية» (purchasing power parity) يصبح بلا معنى حين تشتري العملة الوطنية في الداخل ما يشتريه الدولار في الخارج» (ص: ١٤٢). سأختم هنا بسؤال بدأت به الدراسة السالفة الذكر: «لماذا لم تشكك أو تتساءل أدبيات التيار الرئيسي (النيوليبرالية) حتى الآن وبعد ثلاثين عاماً من الالتزام العربي الكامل بكل ما يصدر عن واشنطن بهذا النموذج، رغم تراكم الاختلال بين الادخار والاستثمار، بين النمو الأجوف وفرص العمل المنخفضة، بين انخفاض القدرات الصناعيةـ الإنتاجية والثروة» (ص: ١٤٠). وطبعاً، لماذا يرفض التيار الرئيسي في الاقتصاد نقاش دور القطاع العام بحجة فشل التجربة السوفياتية، ويرفض حتى مجرد عقد مقارنة بين النموذجين وفق مقاييسهم هم؟
خاتمة: أممية غير بيضاء
إذا كان «من المستحيل على حركة تحرر أن تستمر في مجابهة الغرب حتى النهاية وهي تشاطره منظومته الاقتصادية نفسها» كما قال هادي العلوي، فهل يمكن حقاً القطع مع هذه المنظومة ومقاومة ضغوطها ومحاربة الأوهام التي تزرعها ليلاً ونهاراً في عقول البشر؟ أم أن الجواب هو في نظام عالمي آخر، في اممية بديلة مؤسسة على التعاون بين البشر لا على المنافسة (لأن هناك خاسراً ورابحاً بالضرورة في كل منافسة ويحسمها عادة القوة لا الكفاءة)، أممية غير أوروبية المركزية، أممية غير بيضاء، قائمة على المساواة بين البشر وخالية من الامتيازات. «لا يوجد عالم ثالث للعالم الثالث» تؤشر لخلل بنيوي عميق في النظام العالمي لا يجب التغاضي عنه أو إنكار دوره ومسؤوليته عما جرى ويجري في الوطن العربي وفي الجنوب. هذه فكرة أدركها جيداً الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأدرك أن مصر لوحدها لا يمكن أن تكون حرة، والعرب لوحدهم لا يمكن أن يكونوا أحراراً، وحتى المسلمين لوحدهم لا يمكن أن يكونوا أحراراً في عصر الإمبراطوريات الكبرى ما دفعه حتى لتجاوز حلقاته الثلاث لاحقاً والعمل على بناء كتلة تاريخية كبرى تُشَكِل فيها دول الجنوب محور واحد في مواجهة الشمال. ما جرى منذ ناصر إلى يومنا هذا ان الرأسمالية تغيرت كثيراً وأصبح الشمال والجنوب مفاهيم إقتصاديةـ سياسية، لا مجرد مفاهيم جغرافية بحتة (مع أن هذا كان صحيحاً دائماً وإن بدرجات أقل) وأصبح هناك جنوب في الشمال، وشمال في الجنوب كما أشرت في مقال سابق هنا في الأخبارxii. ما جرى منذ ناصر إلى اليوم أننا بدأنا ندرك أن الخلل هو في المنظومة الرأسمالية العالمية وان المطلوب هو تغييرها. لهذا، لا يمكن الجنوبيون شعوباً وأفراداً وحتى محاور أن يكونوا أحراراً، ولا يمكنهم حتى أن يتخيلوا أنفسهم أحراراً في سياق هذه المنظومة الرأسمالية وهذا العالم الأبيض. يمكنهم ذلك فقط إذا كان هدفهم أساساً تغيير الاسس التي يقوم عليها هذا العالم. لكن سيادة الوهم وتجريد الفقراء والعمال في بلادنا وفي الجنوب من وعيهم الطبقي ووعيهم بذاتهم وأسباب عذابهم وإستمرار ارتباكهم حول العدو والصديق، سيظل يصور لهم دائماً أن التفكير المنطقي والضروري بعالم آخر ممكن جداً وضروري جداً ووجودي جداً هو الجنون، وأن هذا العالم الرأسمالي الأبيض المجنون جداً وغير القابل للاستدامة إلا بالحروب والدماء والقهر والفقر والدمار هو الوحيد الممكن والواقعي. هكذا يظن أيضاً من يظن أن تحرير فلسطين فكرة أكثر جنوناً من جنون فكرة تأسيس الكيان الصهيوني.