من فنزويلا إلى الوطن العربي: التنمية الممنوعة

من فنزويلا إلى الوطن العربي: التنمية الممنوعة
15 Jan
2016

سيف دعنا - الاخبار

 

 

من المستحيل على حركة تحرر أن تستمر في مجابهة الغرب حتى النهاية وهي تشاطره منظومته الاقتصادية نفسها (هادي العلوي: «في الإسلام المعاصر»)

 

«ليس هناك عالم ثالث للعالم الثالث»i. هكذا فَسَّرَ ايمانويل والرشتين فشل دول الجنوب في القرن العشرين في تكرار نموذج الإصلاحات الليبرالية الكبرى التي شهدتها اوروبا في القرن التاسع عشر.

 

بهذا المعنى، لم تحقق أوروبا هذه الإنجازات التاريخية (تحديداً بناء «دولة الرفاه» و«الديمقراطية الليبرالية»، أو «حق الانتخاب العام») بشكل مستقل واعتماداً على مصادرها وثرواتها فقط. بل، كانت هذه الإنجازات ممكنة التحقيق فقط اعتماداً على نظام عالمي أوروبيّ المركزية سهل باستمرار عملية انتقال الثروة وتدفقها من مجتمعات الجنوب إلى مجتمعات الشمال. فمنذ ما سماه والرشتين «القرن السادس عشر الطويل» (١٤٥٠ـ١٦٤٠) تأسس نظام رأسمالي عالمي مكّن اوروبا من نهب ثروات شعوب دول الجنوب بشكل مباشر، عبر الاستعمار الكلاسيكي، وغير المباشر، عبر منظومة عالمية (الاستعمار الجديد) سهّلت انتقال وتدفق الثروة عبر آليات متعددة كالتبادل غير المتكافئ للقيم الاقتصادية والتقسيم العالمي الإجباري للعمل لصالح اوروبا. ولهذا، فحتى تصبح اوروبا (والغرب عموماً) وتبقى كما هي، على العالم الثالث أن يكون ويظل كما هو. تفسير والرشتين هذا ليس جديداً طبعاً، رغم أن مشروع «نظرية النظام العالمي» مؤسس كلياً تقريباً على فرضية مفيدة لفهم مجريات الأحداث والتاريخ في سياق هذه المنظومة تتمثل بترابط العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في كل أنحاء هذا النظام العالميii. فجوهر الفكرة موجود في نظرية لينين عن «تفاوت التطور»iii، ومفصلة بشكل أولي في «تراكم رأس المال» عند روزا لوكسمبورغ صاحبة مفهوم «السوق الثالثة». فـ«الحقيقة الحاسمة»، تقول لوكسمبورغ، «إنه لا يمكن الحصول على فائض القيمة (أو تحقيقها) اعتماداً على البيع للعمال أو الرأسماليين (في المركز الرأسمالي)، بل هذا ممكن فقط عبر التبادل مع منظومات وشرائح اجتماعية غير رأسمالية»iv.

 

الفراغ الايديولوجي وإنتاج الوهم

 

لكن هذا التفسير المنطقي والذي يَسْهُلْ إسناده وتدعيمه بالبيانات لا ينفي أن النظام العالمي في الحقيقة أكثر تعقيداً، ويمكن القول أيضاً أكثر سوداوية وإحباطاً إذا أردنا الذهاب خطوة اخرى إلى الأمام ومحاولة تقديم تفسير أوسع لفشل حركات التحرر في الجنوب أولاً وفقدان السيادة والاستقلال لاحقاً. فقدرة النظام الرأسمالي العالمي على التطور وضمان استمرار تدفق الثروة من الجنوب إلى الشمال تتطلب دائماً ابتكار آليات جديدة، وأحياناً شيطانية ومتوحشة وعنيفة، وتفترض أدواراً مهمة للشرائح المهيمنة والنخب في الجنوب كما تفترض هيمنة سياسية، ثقافية، ومعرفية اوروبية على العالم ـ آخرها طبعاً كان الليبرالية الجديدة التي سآتي على تبعاتها باختصار في وطننا العربي في هذا المقال. لهذا السبب انتهت حركات التحرر من الاستعمار في مجتمعات الجنوب وبلا أي استثناء تقريباً إلى جملة من الـ«مجندين للاستعمار»، كما جادل ديفيد سكوت في كتاب عبقري (برغم دفعه للإحباط) يحمل نفس العنوانv. هم مجندون وليسوا مجرد تابعين أو متطوعين إذن، والسبب طبعاً، ليس فقط طبيعة بنية المنظومة الاقتصادية الرأسمالية العالمية فقط، بل تحديداً استنادها لعملية تبادل ثقافي ومعرفي غير متكافئة بين الشمال والجنوب تشكل أساس عملية الهيمنة التي شَرَحَ أحد آلياتها الأنثروبولوجي الماركسي ستانلي دياموند في «البحث عن البدائي»: «التبادل الثقافي كان دائماً موضوع هيمنة. فإما أن تقوم الحضارة مباشرة بتدمير الثقافة البدائية التي ترى أنها تقف في طريق حقها التاريخي، أو يتم إضعاف الاقتصاد البدائي بفعل اقتصاد السوق المتحضر بحيث لا يمكنه الاستمرار كحامل للثقافة التقليدية»vi. في سعيها للهيمنة، إذن، تقوم المنظومة الرأسمالية بكسر العمود الفقري للثقافات المحلية ولمشاريع التحرر غير الأوروبية بالقضاء، بالقوة أحياناً كما في حالة العراق (وسوريا الآن) على أساسها الاقتصادي وسحقه.

 

والرشتين إذن يجيب على السؤال على مستوى البنية الاقتصادية ويشرح آليات تدفق الثروة من الجنوب للشمال. أما على مستوى الإيديولوجيا والهيمنة (الثقافة والمعرفة)، فهذه مسألة مهمة طرقها الزميلان ورد كاسوحة وعامر محسن في سلسلة مقالات مهمة هنا في «الأخبار» وأحاطا بها بعمق، وكان في الخلفية حوار بيننا أساسه مقال نشرته الـ«فورين بوليسي» عن الإكوادور ومستقبل رفاييل كوريا والسؤال المقلق الذي تبع ذلك: هل سنخسر الإكوادور، وربما بوليفيا، بعد فنزويلا (الهجمة على الإكوادور بدأت في الإعلام)؟ ربما لم تشكل خسارة فنزويلا، وربما الإكوادور لاحقاً، مفاجأة لمن يفكر بالطريقة السالفة الذكر. الكتابة كانت على الحائط منذ البداية، ولكن يبدو أن الأمل في تحقيق اختراق في هذه المنظومة العالمية دفع الكثيرين لتجاهل الأسئلة المهمة: هل يمكن فعلاً ان تنجح تجربة كتجربة فنزويلا في سياق نظام عالمي رأسمالي كالذي نعيش فيه؟ وهل يمكن حقاً أن تنجح تجربة تعتمد فقط على مجرد فك الارتباط السياسي عن الاقتصاد «Delinking»، والاكتفاء بمجرد مواجهة مفاعيل تدخل البنك الدولي وصندوق النقد في الداخل؟ السؤال المهم الآخر برأيي هو سؤال حالة الفراغ الايديولوجي وما يتبعه من إنتاج للوهم، أو غياب أي نوع من النقاش والحوار الإيديولوجي بمشاركة رؤى من خارج المنظومة الرأسمالية. فليست العلاقة الاقتصادية السياسية غير المتكافئة لوحدها كافية للتفسير الشامل هنا. ربما تفسر هذه العلاقة فعلاً الظروف المزرية والمرعبة أحياناً التي يعيشها أهل الجنوب (وإذا عرفنا أن وتائر النمو في الدورات الاقتصادية المتعاقبة تصاعدية بالضرورة عادة فإن توقع أي سيناريو مستقبلي غير الأسوأ في الجنوب غير منطقي). مشكلة الهيمنة التي طرقها الزميلان عامر محسن وورد كاسوحة ضرورية جداً لفهم الصورة أكثر، ولن أضيف للنقاش هنا سوى القول إن هيمنة وهم نموذج الطبقة الوسطى الغربية وخيار الخلاص الفردي كمُمكن في عقول فقراء الجنوب هو من تبعات إلغاء اليسار وصوت الجنوب في الحوار الإيديولوجي حول الاقتصاد والمجتمع والسياسة والتاريخ. فالقوة الإيديولوجية للنيوليبرالية، والاقتصاديات الرأسمالية عامة، وقدرتها على خلق هذا الوهم أساسه غياب اليسار والجنوب كبدائل في أي حوار بسبب الضعف السياسي في أعقاب سقوط المنظومة الاشتراكية وتفكك اليسار وتشتت الجنوب، وكلما زاد الضعف السياسي زاد وسيزداد التهميش ـ قل ما شئت عن التجربة الاشتراكية وعن تجربة العالمثالثية، إلا أنه ينبغي الاعتراف أن مجرد وجودهما، وحضورهما السياسي والفكري، كان يعني توفر النقد من خارج المنظومة الرأسمالية الذي يؤدي غيابه إلى سيادة الوهم وتوحش رأس المال. كان سقوط الاشتراكية وتفكك المنظومة الجنوبية كارثي، ليس فقط لأن الفقراء يزدادون وسيزدادون فقراً بل وأيضاً لأنهم يزدادون وسيزدادون تعلقاً بأوهام نموذج لن يعيشوه أبداً تسوقه آلات الدعاية الغربية. لكن إلغاء اليسار الجنوب وغياب النقد من خارج المنظومة الرأسمالية يعني أيضاً تعطيل فكرة العلم والفن والأدب وكل اشكال الإبداع الإنساني ـ من يعرف شيئاً قليلاً عن فلسفة العلوم، مثلاً، يعرف أن العلم يكون، وأن الثورات العلمية تحدث، فقط حين يتوفر النقد من خارج المنظومة الفكرية والعلمية السائدة وليس من داخلها ـ هل يتذكر أحد آخر اختراقاً معرفياً جدياً في العلوم الإنسانية والاجتماعية؟ هل يلاحظ الناس مدى بؤس ما يسمى «علم الاقتصاد» الذي يدرس في الجامعات؟ حتى وقت قريب، كانت العلوم الاجتماعية، كما يقر الجميع، هي حوار مع ماركس أو مع شبح ماركس بعد موته (الثانية كما في حالة احد أهم علماء الاجتماع، ماكس فيبر) وكان حضور الصوت الجنوبي في نظريات التنمية ملموساً، وهو ما فتح الأفق واسعاً لتطورها. أما الآن، فنادراً ما تقرأ في مجلات التخصص ما يخرج عن مسلمات المنهج الوضعي (positivism) فيما المنهج الواقعي النقدي، مثلاً، (كما هو عند روي باشكار) فيستثنى على أنه إعادة إنتاج أكاديمية خبيثة للرؤية اليسارية لأكاديميين ماركسيين يتحايلون على التيار الرئيسي. سقوط الاشتراكية كان كارثياً لأنه ليس بوسع الرأسمالية الإجابة على الأسئلة التي يطرحها تعفنها ولا مواجهة وحل المشكلات التي تخلقها وستخلقها باستمرار. كان كارثياً لأن استمرار الرأسمالية هي تعطيل للتطور الإنساني في كل المجالات ـ سيستمر التاريخ طبعاً لأن الاستمرارية هي التاريخ الحقيقي، لكن العطالة ستصيب العلوم الاجتماعية والإنسانية والأدب والفن والثقافة عموماً. هكذا تصيب العطالة العقول ويسود الوهم وخرافات رأس المال.

 

تنمية العرب المعكوسة

 

«يرجع الوضع الميؤوس منه للعالم العربي»، يقول هادي العلوي في «في الإسلام المعاصر» إلى «اقتصاده الطرفي ـ الكولونيالي الملحق بالاقتصاد الرأسمالي العالمي. أي إلى الفشل في ايجاد الاقتصاد النقيض للاقتصاد المهيمن بما يسمح بالقطع مع المتروبول الأوروبي الغربي باعتباره مصدر خرابنا الأوحد»vii. هذا من ناحية بنية النظام العالمي، وهي صحيحة بالمضمون وتنطبق حقاً على كل دول الجنوب. لكن قصة الوطن العربي، على الأقل منذ نهاية السبعينات هي قصة فريدة ومرعبة تحكيها الأرقام والبيانات.

 

لم تفشل العملية التنموية في الوطن العربي، بل تعرضت قدرات وإمكانيات الوطن العربي على النمو لعملية اجتثاث. هذه خلاصة القصة التي يرويها كتاب «التنمية العربية ممنوعة: آليات التراكم عبر الحروب العدوانية»viii. فمراجعة ما حصل في وللوطن العربي خلال العقود الثلاثة الماضية فقط، وهي عمر اختراق النيوليبرالية لبلادنا تشي بأن الوطن العربي خضع (أو أخضع بالقوة غالباً) لعملية تنمية معكوسة (Dedevelopment) عبر تجريده من قدراته وإمكانياته على النمو. تاريخ التنمية المعكوسة في الوطن العربي هو، هو، تاريخ النيوليبرالية في بلادنا. كل المؤشرات الاقتصادية (الفقر طويل الأمد، ارتفاع معدلات البطالة ومستويات اللامساواة، تدفق الموارد الحقيقية والمالية، الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان الأساسية من قبل الأنظمة والاستعمار العسكري وغيرها الكثير مقارنة بالمعايير العالمية) تؤكد أن ما حصل خلال العقود الثلاثة الماضية هو «عملية تفكيك متعمد ومنهجي لقدرة الوطن العربي» على التحول هيكلياً وبالتالي اجتثاث قدرته على النمو. وفوق ذلك كله، لم يتعرض الوطن العربي مثل باقي دول الجنوب لعملية كلاسيكية من إنتاج التخلف (underdevelopment) فقط، ولم يتعرض للتبعات المتوحشة التقليدية لنماذج ووصفات النمو المفروضة من البنك الدولي وصندوق النقد (طرد آلاف الفلاحين من الأرض وتحويلهم ليد عاملة رخيصة تبحث بيأس عن عمل)، كما لم يعاني فقط مما سماه روي ماورو ماريني «الاستغلال الفائق». فوق كل ذلك، وخلال «العقود الخمسة الماضية، كان الوطن العربي ساحة لأعلى نسبة تواتر للحرب على وجه الأرض» (ص: ٤). منذ نهاية الحرب الباردة تحديداً، كما يقول بيري أندرسون في مقدمة العدد الأخير من «نيو لفت ريفيو»، «أن الدول العربية شكلت منطقة للتدخل العسكري الغربي لا مثيل لها في عالم ما بعد الحرب الباردة» (ص:5)ix. والحرب هنا ليست مجرد الوجه العنيف والوحشي لرأس المال فقط، بل هي (كمؤشر لأزمة وتعفن رأس المال هذا) أيضاً أحد آليات تراكمه (فرضية «المجمع الصناعي العسكري» لتفسير الحروب الغربية على بلادنا تبسيطية جداً طبعاً، إن لم نقل سخيفة، مثل فرضية اللوبي، لأنها تتجاهل فكرة الطبقة الحاكمة وترابط مصالح الشركات في المنظومة الرأسمالية، وحتى فهم جوهر فكرة رأس المال). الحروب المتتالية في وعلى وطننا العربي كانت دوماً آلية دمجه في منظومة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، والأهم كانت الآلية التي أعادت تشكيل وتطويع الطبقات المهيمنة (المهزومة) في الوطن العربي، كما يحصل عادة بعد كل حرب، وفق مصالح الغرب ووفق شروط الهزيمة. في المحصلة فرضت الحرب على المهزوم دائماً شروطها وفقد الوطن العربي تدريجياً سيادته وحتى أساسيات مفهومه للأمن القومي (المعنى الحقيقي للتنمية) عبر إخضاعه لسياسات نيوليبرالية. هذه القصة تؤكد صحة ودقة السؤال الذي صفع به العزيز قاسم عزالدين مؤخراً «مفكري» و«منظري» الديمقراطية في بلادنا: ما معنى ديمقراطيتكم في هذا السياق حين تصادر كل القرارات المهمة وتوضع في يد المؤسسات الدولية في الخارج (البنك الدولي وصندوق النقد والمفوضية الاوروبية)x. هذه ديمقراطية الطبقة المهزومة التي تضع شعبها فقط أمام خيار إختيار من ينفذ تعليمات الخارج وشروط الهزيمة فقط (مبارك أم مرسي أم السيسي، ما الفرق؟) ويتنازل عن السيادة الوطنية، ولا تؤسس لصعود من يملك برنامج سيادة وطنية. ألم تعلمنا التجربة اليونانية شيئاً؟ كيف بصقت ألمانيا وأوروبا على نتائج الاستفتاء العام ولاحقاً الانتخابات في اليونان وكيف يخضع اليسار أو اليمين، لا يهم، في المجتمعات المهزومة طالما انه ينتخب ليطبق ذات السياسة الاقتصادية؟ التاريخ الاقتصادي لوطننا العربي في العقود الأخيرة لوحده كفيل بأن ينسف كل افتراضات الاقتصاد النيوليبرالي رأساً على عقب، وهو شاهد حي على أن تاريخ اجتثاث مقدرات التنمية في بلادنا وما لحق بنا من كوارث هو، هو تاريخ النيوليبرالية ذاته في بلادنا. فالانفتاح لم يعمل على زيادة الإنتاجية كما يَفْترِض ويَعِدْ أنبياء النيوليبرالية ورسل رأس المال. العكس بالضبط هو ما حصل في الوطن العربي، كما تؤكد دراسة «انخفاض الإنتاجية في الوطن العربي». مثلاً، «على مدى العقود الثلاثة الماضية نما الطلب على اليد العاملة بمعدل اقل بكثير من نمو القوة العاملة، في حين أنه في الستينيات والسبعينيات (سنوات تدخل الدولة وإدارتها للاقتصاد) كان نمو الطلب على اليد العاملة متساو تقريباً مع معدل عرض العمل. علاوة على ذلك، منذ بداية الثمانينات (بداية اختراق النيوليبرالية لبلادنا) لم يكن هناك أي تحولات كبرى في التكوين القطاعي أو تكوين الشركات في الوطن العربي، والذي كان من شأنه (لو حصل) أن يسمح بمرونة أكبر للطلب على العمل أو لحصول استبدال أكبر بين العمل/ رأس المال». لهذا، لم تكن شركات أكبر مع تكنولوجيا أفضل هي التي تقود النمو من خلال استبدال العمل بآلات أكثر كفاءة (كما ترسم الدعاية الصورة)، بل «كانت ظروف السوق الحرة التي تقبل بها فقط المجتمعات المهزومة هي التي قادت لتسريح العمل» (ص: ١٤١)xi. في المقلب الآخر، وعلى العكس من ذلك تماماً، «أثبت القطاع العام «غير الكفؤ» (وفق هذه الأدبيات) جدارته. كان فعالاً اجتماعياً لأنه استمر بالعمل بكفاءة «كوسادة» للرعاية الاجتماعية لمجمل السكان» (ص:١٤١). بعد ثلاثة عقود من السياسات النيوليبرالية كانت النتائج كارثية: «٥٠٪ من سكان الوطن العربي يعيشون بأقل من دولارين في اليوم (حد الفقر) وينفقون أكثر من نصف دخلهم على المواد الغذائية الأساسية»، كما يشير التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام ٢٠٠٥. لكن عتبة الدولارين للدخل، والدولار للإنفاق على المواد الغذائية الأساسية، يجب أن تقرأ أيضاً في سياق ظروف الوطن العربي الخاصة، كون بلادنا هي أكثر بلاد الأرض تبعية (واستيراداً) حين يتعلق الأمر بالمواد الغذائية. فعتبة الدولارين والدولار في البلاد التابعة والمستوردة للمواد الغذائية ستضيف كثيراً لمعرفتنا وفهمنا لكيفية قراءة معدلات الفقر. ففي الهند، مثلاً، حيث المواد الغذائية تنتج محلياً، يمكن للدولار أن يشتري أكثر بكثير من لبنان حيث يتم استيراد غالبية السلة الغذائية. ولهذا «فإنه حين يتم تحرير الأسعار من حركة الأسعار الدولية ويتم تحديدها وفقا لمعطيات الإنتاج في السوق الوطنية، فإن العائد يكون ذا قيمة أكبر نسبة للسعر». وبالتالي، فإنه حين يتم إنفاق نصف كل دولار على الأغذية المستوردة التي يتم تحديد أسعارها دولياً (كما في العراق ولبنان وليبيا مثلا) فإن مقياس «تعادل القوة الشرائية» (purchasing power parity) يصبح بلا معنى حين تشتري العملة الوطنية في الداخل ما يشتريه الدولار في الخارج» (ص: ١٤٢). سأختم هنا بسؤال بدأت به الدراسة السالفة الذكر: «لماذا لم تشكك أو تتساءل أدبيات التيار الرئيسي (النيوليبرالية) حتى الآن وبعد ثلاثين عاماً من الالتزام العربي الكامل بكل ما يصدر عن واشنطن بهذا النموذج، رغم تراكم الاختلال بين الادخار والاستثمار، بين النمو الأجوف وفرص العمل المنخفضة، بين انخفاض القدرات الصناعيةـ الإنتاجية والثروة» (ص: ١٤٠). وطبعاً، لماذا يرفض التيار الرئيسي في الاقتصاد نقاش دور القطاع العام بحجة فشل التجربة السوفياتية، ويرفض حتى مجرد عقد مقارنة بين النموذجين وفق مقاييسهم هم؟

 

خاتمة: أممية غير بيضاء

 

إذا كان «من المستحيل على حركة تحرر أن تستمر في مجابهة الغرب حتى النهاية وهي تشاطره منظومته الاقتصادية نفسها» كما قال هادي العلوي، فهل يمكن حقاً القطع مع هذه المنظومة ومقاومة ضغوطها ومحاربة الأوهام التي تزرعها ليلاً ونهاراً في عقول البشر؟ أم أن الجواب هو في نظام عالمي آخر، في اممية بديلة مؤسسة على التعاون بين البشر لا على المنافسة (لأن هناك خاسراً ورابحاً بالضرورة في كل منافسة ويحسمها عادة القوة لا الكفاءة)، أممية غير أوروبية المركزية، أممية غير بيضاء، قائمة على المساواة بين البشر وخالية من الامتيازات. «لا يوجد عالم ثالث للعالم الثالث» تؤشر لخلل بنيوي عميق في النظام العالمي لا يجب التغاضي عنه أو إنكار دوره ومسؤوليته عما جرى ويجري في الوطن العربي وفي الجنوب. هذه فكرة أدركها جيداً الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأدرك أن مصر لوحدها لا يمكن أن تكون حرة، والعرب لوحدهم لا يمكن أن يكونوا أحراراً، وحتى المسلمين لوحدهم لا يمكن أن يكونوا أحراراً في عصر الإمبراطوريات الكبرى ما دفعه حتى لتجاوز حلقاته الثلاث لاحقاً والعمل على بناء كتلة تاريخية كبرى تُشَكِل فيها دول الجنوب محور واحد في مواجهة الشمال. ما جرى منذ ناصر إلى يومنا هذا ان الرأسمالية تغيرت كثيراً وأصبح الشمال والجنوب مفاهيم إقتصاديةـ سياسية، لا مجرد مفاهيم جغرافية بحتة (مع أن هذا كان صحيحاً دائماً وإن بدرجات أقل) وأصبح هناك جنوب في الشمال، وشمال في الجنوب كما أشرت في مقال سابق هنا في الأخبارxii. ما جرى منذ ناصر إلى اليوم أننا بدأنا ندرك أن الخلل هو في المنظومة الرأسمالية العالمية وان المطلوب هو تغييرها. لهذا، لا يمكن الجنوبيون شعوباً وأفراداً وحتى محاور أن يكونوا أحراراً، ولا يمكنهم حتى أن يتخيلوا أنفسهم أحراراً في سياق هذه المنظومة الرأسمالية وهذا العالم الأبيض. يمكنهم ذلك فقط إذا كان هدفهم أساساً تغيير الاسس التي يقوم عليها هذا العالم. لكن سيادة الوهم وتجريد الفقراء والعمال في بلادنا وفي الجنوب من وعيهم الطبقي ووعيهم بذاتهم وأسباب عذابهم وإستمرار ارتباكهم حول العدو والصديق، سيظل يصور لهم دائماً أن التفكير المنطقي والضروري بعالم آخر ممكن جداً وضروري جداً ووجودي جداً هو الجنون، وأن هذا العالم الرأسمالي الأبيض المجنون جداً وغير القابل للاستدامة إلا بالحروب والدماء والقهر والفقر والدمار هو الوحيد الممكن والواقعي. هكذا يظن أيضاً من يظن أن تحرير فلسطين فكرة أكثر جنوناً من جنون فكرة تأسيس الكيان الصهيوني.

الأكثر قراءة