غسان ديبة - الاخبار
«اللينينية تجمع بين أمرين أبقاهما الأوروبيون لقرون في جزئين مستقلين في الروح البشرية: الدين والأعمال»
جون ماينارد كينز
■ ■ ■
في 11 سبتمبر 1973 دخل الجيش التشيلي، الذي قام بانقلاب ضد حكومة سلفادور الليندي، الى غرفة داخل القصر الرئاسي شبيهة بجسر التحكم في السفن الفضائية في «ستار ترك» مؤلفة من سبع كراسي مع كومبيوترات وشاشات مراقبة واستولت عليها.
لاحقاً عندما لم تستطع الديكتاتورية العسكرية ان تفهم كيفية عمل هذه الغرفة، والمشروع الذي كان يعمل عليه عشية الانقلاب، حطمته بالكامل. كان هذا المشروع الذي عرف بـ «سايبر سين» (Cybersyn) اسسته حكومة الليندي كنظام تحكم للاقتصاد على المستويات كافة، وهو في تلك المرحلة لم يكن مكتملاً، وشغلت فقط بعض اجزائه بعد إضراب اكتوبر 1972 الممول جزئياً من الـ CIA، وذلك من أجل الإبقاء على نظم الإنتاج والتوزيع تعمل حتى لا تصاب البلاد بفوضى اقتصادية كانت على اجندة المعارضة اليمينية التي كانت تدفع الى الانقلاب للقضاء على الحكومة الاشتراكية. بدأت في الآونة الأخيرة تتكشف أكثر فأكثر تفاصيل هذا المشروع، اذ عرفت ايدين مدينا في مقالة لها العالم على تفاصيل هذا المشروع، والتي فازت عليه بجائزة الجمعية الدولية لمهندسي الكهرباء والالكترونيات الشهيرة (IEEE) في 2007. يعرف المشروع أيضاً بـ «الانترنت الاشتراكي»، اذ كان يتضمن نظاماً الكترونياً لتبادل المعلومات في الوقت الحقيقي (Real time) -وهو اساس الانترنت الحالي- عبر ربط مراكز الانتاج والتوزيع وغيرها بواسطة تلكسات الى غرفة التحكم. كان الهدف هو التحكم الاقتصادي ضمن الوجهة الاشتراكية لحكومة الوحدة الشعبية، كما كانت للمشروع أهداف أخرى إدارية وفلسفية وحتى سياسية. في الإطار الأخير، كان هناك تفكير لوضع «آلات استشعار» في منازل عينة كبيرة من الناخبين التشيليين يستطيعون عبرها تسجيل آرائهم حول السياسات أو الأوضاع العامة، ما يتيح في «الوقت الحقيقي» كمّاً هائلاً من المعلومات للحكومة تستطيع قياس مدى ارتياح وقبول الشعب لسياساتها. نحو 45 عاماً قبل ذلك، في عام 1928 بدأت في الاتحاد السوفياتي تجربة جديدة غير مسبوقة على المستويين الاقتصادي والسياسي، بل أيضاً على مستوى العلوم الاجتماعية، وهي البدء بالخطة الخمسية الاولى. وقد كانت المرة الاولى في التاريخ التي تطبق أداة علمية للتحكم بالاقتصاد عبر استبدال الاسواق بمجموعة كبيرة من المعادلات الرياضية من اجل دفع حشد الموارد باتجاهات معينة بدل ان تبقى تخضع للسوق ومساوئها، مثل توليد الازمات الدورية وسوء توزيع الدخل والثروة وانتاج مستوى استثمار أقل من المثالي وفي مجالات أقل كفاءة من المطلوب للنمو والتطور الاقتصادي.
هذه المعادلات الرياضية كانت بحاجة الى أمور عدة، أولها إيجاد طرق لحلها وهذا ما أنتجه العلماء الرياضيون والاقتصاديون السوفيات بجدارة كبيرة وصلت الى ان يفوز العالم الرياضي السوفياتي ليونيد كانتوروفيتش بجائزة نوبل للاقتصاد في عام 1975. وجاءت الكومبيوترات لاحقاً لتساعد في حل هذا الكم الهائل من المعادلات. لكن الحاجة الاساسية كانت دائماً هي «المعلومات» وكيفية انتاجها وادخالها الى نظم التخطيط، واهم هذه المعلومات هي استشعار رغبات المستهلكين واوضاع الطلب للسلع المختلفة، وقد أصبح جلياً في المراحل اللاحقة في تطبيق التخطيط المركزي في الاتحاد السوفياتي كيف أن نقص المعلومات كان يؤدي الى فوائض وشح في سلع وقطاعات معينة (لم يكن هذا هو السبب الوحيد فأنظمة التسعير وضرورة حشد الموارد باتجاهات معينة كان لهما التأثير أيضاً). من المفارقة ان الثورة في المعلومات في تحصيلها ونقلها ومعالجتها قد بدأت تحصل بشكل متسارع بعد انتهاء تجربة التخطيط المركزي في 1991. فاليوم حتى رغبات المستهلكين اصبحت متاحة للقياس، وهي المهمة التي كانت تعتبر مستحيلة بسبب عددهم الهائل و»رغباتهم» التي لا يمكن تكميمها كما يمكن تكميم عمليات الانتاج واستعمالات التكنولوجيا. أما الآن ومع تعميم التسوق عبر الانترنت أصبحت لدينا قاعدة معلومات كبيرة حول المستهلكين وتفضيلاتهم. في الصين، مثلاً، تبلغ المبيعات عبر الانترنت والوسائط الالكترونية اكثر من 10% من مجمل المبيعات الاستهلاكية وتتزايد بشكل مضطرد. كما ان الانظمة الذكية تدرس الانماط الاستهلاكية وتستعمل في التسويق لسلع وخدمات حسب رغبات المستهلك حتى فرداً فرداً. في آخر استعمال لأنظمة المعلومات هو مشروع قياس درجة الانتباه لدى المستخدم للكمبيوتر التي يمكن ان تستعمله شركات الاعلان في «تخطيطها». إذ من المعروف ان الانسان الحديث بدأ يفقد مقدرته على التركيز لمدة طويلة ما يعني أن من يستطيع ان يعظم الاستفادة من «الانتباهات الجزئية» للانسان يمكنه ان يحصد الربح الكبير من استغلال هذا «المورد» الذي يزداد مع الأسف شحاً. في ثلاثينيات القرن الماضي، اعلن الاقتصادي النمساوي فريديريك حايك، المناهض للاشتراكية والعدو اللدود للكينزية، ان الاشتراكية غير ممكنة بسبب معضلة نقص «المعلومات» التي لا يمكن تخطيها، وان السوق هي الآلة المثلى لمعالجة المعلومات. ان تجربة الاشتراكية المحققة على مدى 70 عاماً، كما مشروع «الانترنت الاشتراكي» في التشيلي، يؤشران الى رغبة الانسانية في حل معضلة المعلومات هذه. الآن تحصل تطورات على مستوى القدرة على تحصيل ومعالجة المعلومات واخضاعها للانظمة الذكية تجعل، ليس فقط التخطيط المركزي ممكناً، بل تؤشر الى الحاجة الى التخطيط من اجل حل مساوئ السوق، ليس فقط على المستويات الماكرواقتصادية، كالأزمات او التوزيع السيئ للدخل والثروة، وإنما أيضاً على مستوى كفاءة معالجة المعلومات. بذلك تكون الرأسمالية، بقياسها الدقيق في الاقتصاد الهادف الى البحث عن الربح، تؤدي الى تخطي العقبة «الحايكية» وتعبد الطريق لإنشاء نظام أكثر فعالية منها، وهي بذلك تتبع منطقها الاساسي الذي يدفعها دائماً الى انتاج الظروف المؤاتية لتحقيق نقيضها الاشتراكي.