رغيــفٌ.. ووزراء

السفير: من منازلهم الوثيرة، إلى سياراتهم الفارهة ذات الزجاج الأسود الداكن، سينتقل وزراء الحكومة اليوم، ليصلوا إلى السرايا الحكومية لعقد جلستهم الوزارية. في أثناء توافدهم إلى القاعة، سيراً على الأقدام، سيلوحون بأيديهم لممثلي الوسائل الإعلامية، مع ابتسامات خفيفة، وبعض القبلات في الهواء. ثمة 49 بنداً وزارياً على جدول الأعمال، بين قضايا إدارية ومالية، سيناقش الوزراء منها ما تيسر وكيفما اتفق - ربما. سيتحلقون حول الطاولة، ليتخاصموا على تمويل المحكمة، فيما رئيس الجمهورية يحلق على متن طائرته، في أرجاء الكون، ليسافر بعده رئيس مجلس النواب، فرئيس الحكومة. هناك من يقول إن معظم أسفار الرؤساء تندرج في سياق السياحة، وخصوصاً حفلات الأعراس، بيد أنهم يفلحون في التمويه. يبرعون. من منازلهم الفقيرة، وبعضها متوسط الحال، إلى سيارات الأجرة أو سياراتهم العادية، ستصل مجموعات شبابية لتحتشد في ساحة رياض الصلح، بمحاذاة السرايا الحكومية، اليوم، تزامناً مع موعد انعقاد جلسة مجلس الوزراء الخامسة عصراً. سيرفعون شعارات كثيرة تندد بـ«جريمتنا.. اننا فقراء». سيلوحون بآيادٍ تحمل لافتات تقول: «أعيدوا لنا رغيفنا». أعضاء «اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني»، عكفوا على التحضير لاعتصام اليوم، ليطالبوا مجلس الوزراء بالضغط على قرار وزارة الاقتصاد الذي رفع سعر ربطة الخبز، السبت الفائت، عبر خفض وزنها بنسبة عشرة في المئة. كانوا يعملون على حشد أكبر عدد ممكن من «المهتمين». المهتمون بأن رغيفهم سرق منهم، في مشهد احتيالي بارع، عندما أصدرت وزراة الاقتصاد قرارها، بطريقة مموهة. سبق التظاهرة، التي تنفذ اليوم، اعتصام رمزي الأسبوع الفائت، سرعان ما تحول إلى إعلان عن تظاهرة اليوم. في ذاك النهار القائظ، قال المشرفون على الاعتصام إنهم وزعوا، كعادتهم، قصاصات من الورق على الناس، تشرح قرار الوزارة. وقالوا، من بين ما قالوا، إنهم توقعوا ان يكون العدد قليلاً، لكن ليس إلى ذاك الحد: كانوا ثمانية شبان، تحلّق من حولهم ممثلو أكثر من عشر وسائل إعلامية. ثمانية شبان، لا أكثر. نزلوا ليرفعوا قبضاتهم عالياً، من دون أن يبايعوا زعيماً، ومن دون أن يشتموا خصم زعيم. رفعوا القبضات، ليقولوا إن هناك فئة معنية لم تصب بالخدر بعد، ولن تصاب به يوماً. رفعوا القبضات، بزهو فتيّ، وحماسة شباب متمرد، ليقولوا إنه في ظل حروب الساسة، ثمة من لا يقبل بأن يكون «شاهد زور». ثمانية شبان، لا أكثر. كانوا يتصلون بأصدقائهم الذين تأخروا، وعندما يصل أحدهم، متأخراً، كانوا يبتسمون في وجهه، كأنهم يقولون إن اليأس ممنوع. في ذاك اليوم، أكدّ المعنيون في «الاتحاد» للصحافيين أنهم لن يتراجعوا عن قرار تظاهرة اليوم. وقالوا، خفية، إن العدد اليوم سيكون أكبر، و«منظم بطريقة شاملة». ثمانية شبان، لا أكثر. كان الخوف بادياً على وجوههم. خافوا من أن تنتقل عدوى اليأس إلى أقرانهم في «القضية» إن هم رأوا «المشهد الفقير». توجسوا من الأرقام، «اللعبة» التي ابتدعها ساسة البلد في الأعوام الأخيرة الماضية. لكن «اللعبة» يجب ألا تؤثر على شبان يعرفون أسباب انقسام أبناء وطنهم، ويعرفون أيضاً ان هوية «الاتحاد» الفكرية، ما زالت ضائعة ومشوشة عند الناس، في ظل تراجع دور اليسار في البلاد. تلك قصة أخرى. غير ان صفحات تلك القصة، لا تصح قراءتها من زاوية الصعوبات التي يواجهها «الاتحاد» لإعادة صياغة هويته الحزبية فحسب، بل إنها قصة البلد المزمنة، والتي تُعتبر تجربة «الاتحاد» مرآة صافية، نقية، في إبرازها: خدر منتشر بين الناس الذين لا يرفعون صوتهم إلا بإشارة من يد «الزعيم»، وهي غالباً ما تكون لمواجهة الزعيم المنازع. خدر يحتم على الناس أن يرفضوا أي حركة احتجاجية من «الغرباء» عن الطوائف، والذين سرعان ما يتحولون إلى «خوارج». أن ينزل الناس إلى الشوارع والساحات، بحنق، وغضب، ويرفعون قبضاتهم ضد الجوع، والفقر، والحرمان، والغلاء المستشري، هو ضرب من الخيال والجنون. قضايا أضحت المناداة لنصرتها تشبه مساعي «دون كيشوت» في محاربة طواحين الهواء، وتندرج في خانة الصراخ في غرفة فولاذية، معزولة، لن يسمع صداها أحد. هي الغرفة نفسها التي سيصرخ فيها شباب الاتحاد اليوم. شعارات كثيرة سيرددونها، بصراخ، وأنين، لن يسمعه أحد. لكن الشبان، سيندهشون من وجود بعض آلات التصوير التلفزيونية، التي ستنقل صوتهم فقط للهجوم على فريق الوزير، وليس للهجوم على سياسة الفقر العامة. ستقول تلك الشاشات إن وزير الاقتصاد تلاعب بسعر الرغيف، متجاهلة سياسات وزرائها. حشود اليوم، وإن تخطت المئة، سترفع صوتها في الغرفة الفولاذية، فيما الوزراء سيتناولون بند اتفاق وزارة الاقتصاد مع المطاحن - في حال توصلوا إلى مناقشته على حساب «القضايا الهامة» - في مشهد لا يهدف إلا للضغط على الوزير، بغض النظر عن القضية المثارة. لن يتحدثوا عن الرغيف المسروق، ولن يسألوا الوزير عن معادلته: كيف وفق بين مصلحة ثالوث المطاحن والأفران والوزارة من جهة، وبين مصلحة الشعب من جهة ثانية؟ من الغرفة الفولاذية، إلى سيارات الأجرة أو سياراتهم العادية، سيعود الشبان، بعد صراخ أليم، أبكم، إلى حيث ما كانوا، ومعهم الصوت المبحوح الذي سيصدح في كل يوم، من دون كلل أو ملل، ومن دون خجل. هم لن يخجلوا بعددهم، إن كان صغيرا أو كبيراً، حاشداً، بل سيفكرون كيف يخرجون الناس من جلابيب ساساتهم وملوك طوائفهم، ولو كان تفكيراً خيالياً يقال إنه قبس من «روح الشباب»، في ظل الانقسام الحالي. الروح التي يُراد لها ان تُزهق إلى غير رجعة. اليوم، سيشع قبس خفيف، لحلم كبير. واليوم، سيرتفع صوت بعض الذين لا صوت لهم: لن ترتفع أصوات كل الفقراء والضعفاء الذين تنازلوا عن المطالبة برغيف الخبز، بل سترتفع أصوات الذين لا صوت لهم.. أصلاً.

جعفر العطّار

آخر تعديل على Wednesday, 08 February 2012 08:53

الأكثر قراءة