كان المتجمعون أمام قصر العدل في صيدا بانتظار صدور الحكم في قضية خطف محيي الدين حشيشو، أقل من واحد وثلاثين، أي عدد السنوات التي مرت على اختطافه من منزله في عبرا على أيدي عناصر من القوات اللبنانية في مثل هذا الشهر. التوقيت الذي يكون فيه الناشطون والناشطات في أعمالهم أو جامعاتهم ومدارسهم، أثّر على نسبة تلبية دعوة المنظمات الشبابية اليسارية إلى الاعتصام أمام القصر، بالتزامن مع موعد النطق بالحكم. ظنّ الجيش والقوى الأمنية أن المعتصمين آتون لتنفيذ جرم أكثر قذارة من جريمة إخفاء حشيشو. فانتشر العناصر في محيط الاعتصام وتأهبوا بسلاحهم وآلياتهم على المداخل المؤدية إلى القصر، المقفل في الأساس بالعوائق الاسمنتية والحديدية.ضاعت أجساد المعتصمين داخل الطوق الأمني، لكن صور حشيشو اخترقته. طال الانتظار تحت حر الشمس الذي أصبح أثقل بعد قرار الرئيسة الأولى القاضية رولا جدايل منع الدخول حتى إلى حرم قصر العدل لغير المعنيين مباشرة بالقضية من أهل وموكلين، لأسباب أمنية.انتظار نجاة النقوزي، زوجة حشيشو، طال داخل قاعة الجلسات وهي تترقب نطق جدايل بحكم العدالة. بين الحين والآخر، خرجت نجاة لتحية المتضامنين معها، برفقة مريم السعيدي والدة المفقود في الفترة ذاتها ماهر قصير وسوسن شقيقة المفقود أحمد الهرباوي. نظرت في وجوههم بحسرة، فيما انهالت دموعها، وناشدتهم أن يغادروا خوفاً عليهم من أشعة الشمس ولـ«خبرتها بالنطرة الطويلة». خطر لها أن تسألهم عن أعمارهم لتكتشف أن معظمهم ولدوا بعد الخامس عشر من أيلول عام 1982. أخبرتهم أن كلاً من أولادها الأربعة شعر بثقل السنوات الـ 31. فإذا أحصينا عمر معاناتنا، فإنها فاقت 150 عاماً. الأرقام عالية في ذهن نجاة، عدد الحزن والوحدة والجلسات التي حضرتها حتى النهاية. أرقام عالية بخلاف من سار معها في صيدا على درب الجلجلة.إلى جانبها أمس، كان مسؤول الحزب الديموقراطي الشعبي في صيدا غسان عبدو، والمسؤول في الحزب الشيوعي اللبناني فياض النميري، وصلاح السكافي ممثلاً التنظيم الشعبي الناصري. في هذا الوقت، صودف خروج رئيس جمعية تجار صيدا، الكادر في تيار المستقبل، علي الشريف من قصر العدل حيث كان يقوم بمراجعة خاصة به. مر بسيارته بين المتجمّعين قبل أن يقرر لاحقاً الترجل والتوجه إليهم. قال «وأنا أيضاً أريد أن أقف معكم». وقفة لم تدم ثواني حتى عاد إلى سيارته. حينها استوقفته نجاة لتعاتبه على عدم مساهمة تيار المستقبل في دعم قضيتها. أخذ الشريف يبرر لها ويؤكد تضامن تياره مع قضيتها.الحزب الديموقراطي الشعبي سارع الى إدانة حكم جدايل بتبرئة المتهمين بخطف حشيشو، واعتبره ضربة قاضية للعدالة المرتجاة وطعنة في صدر الحقيقة. وقال إن القضاء اللبناني الذي أطلق سراح العملاء المدانين بالعمالة، ليس غريباً عليه أن يبرّئ خاطفي كبار المناضلين الوطنيين.هكذا، وجّه رفاق حشيشو جام غضبهم على جدايل. لكن، هل كانت هذه القاضية هي أول من عفا عن خاطفي حشيشو؟ قبل 31 عاماً، خُطف المناضل من أمام منزله، واتهمت القوات اللبنانية بارتكاب هذه الجريمة. إلا أن فاعليات صيداوية عدّة لم تنتظر حتى حكم القضاء، بل بادرت في السنوات الماضية الى فتح الباب واسعاً أمام حضور القوات اللبنانية السياسي في المدينة ومنطقتها، بما فيها قرى شرقي صيدا التي تُتهم القوات اللبنانية بأنها السبب وراء تهجير أهلها في شباط عام 1985. قبل عام ونصف، عادت القوات إلى عبرا من بوابة أحمد الأسير، جمعته معها لقاءات ودية وتنسيقية. وقبل مدّة، تم الكشف عن اجتماعات دورية تعقد بين كوادر في القوات ومنسقية تيار المستقبل في صيدا والجنوب، وصار نائبا صيدا بهية الحريري وفؤاد السنيورة يوزّعان أخبار استقبالهما على قياديين قوّاتيين في مجدليون.أهل محيي الدين حشيشو ورفاقه لا يريدون من المحكمة إلا العدالة، أن تعلن هوية المجرم ومصير المخطوف. لا يريدون أن تنتصر وجهة النظر الأخرى، تلك التي سبق للنائبة الحريري أن عبّرت عنها، عندما عبّرت عن استيائها من «إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وفتح صفحات الحرب البغيضة ... فالماضي عبرة نتّعظ منها وليس شماعة نعود إليها لنكء الجراح كلما دعت الحاجة» ... العدالة ليست شمّاعة، والحقيقة ليست سكيناً، هذا ما أراد المعتصمون قوله أمس.