أصدقاء جورج عبدالله يعتصمون في السوديكو: تحرك مفتوح في بيروت.. وأمام المصالح الفرنسية

لينا فخر الدين

عند مدخل شارع السوديكو في بيروت، تجري الحياة بشكل طبيعي. زحمة السير بشكلها المعهود، الطلاب متوجهون إلى جامعاتهم، القوى الأمنية المولجة حماية السفارة الفرنسية تقف في مكانها الاعتيادي.. كل شيء في واد، وهناك حيث يقف المئات من المعتصمين المنضوين في «اتحاد الشباب الديموقراطي»، واد آخر.

في منتصف شارع السوديكو، في هذه «الرقعة من العالم»، ثورة حقيقية. كان من المفترض أن يكون هؤلاء المعتصمون أمس في مطار بيروت، وكان من المفترض أن يكون جورج عبد الله قد وصل إلى لبنان، وكان من المفترض أن يكون «الملتحي الذي لا يعتذر» مجرداً من أية «أصفاد شكلية» بعد نحو 28 عاماً من الإعتقال. غير أن السلطات الفرنسية ممثلةً بوزير داخليتها مانويل فالس، قد أطاحت بـ«المفترض»، بعد أن رفض الأخير التوقيع على قرار اطلاق عبد الله وأرجأ النظر فيه إلى 28 كانون الثاني الجاري.

منذ الساعة الواحدة ظهراً، وبعد ساعات من صدور القرار الفرنسي، بدأ أعضاء في «الحزب الشيوعي» و«الحزب السوري القومي الإجتماعي» وبعض المتعاطفين مع قضية عبد الله، بالتوافد إلى أمام مقر السفارة الفرنسية، معتبرين أن «القرار سياسي كغيره من الأحكام التي صدرت بحق عبد الله انصياعاً للإملاءات الأميركية». لا شيء يجمع بين هؤلاء، لا أعمارهم، ولا طوائفهم، ولا جنسياتهم، ولا حتى لكنتهم، وحدها الصورة التي كتب في أسفلها «أنا جورج عبد الله» تشي كيف تجمّعت أوصال لبنان المقطّعة طائفياً، في هذا «الشارع الفرنسي»، في معالمه وتفاصيله.

لا مكان للتراجع عند المعتصمين، «كيف لنا أن نتراجع ونحن أحرار»، يردد احدهم، «فهو الذي عانى ظلم الزنازين السياسية المقفلة، أكد من دون مواربة: لن أندم، لن أساوم، لن اعتذر». كل شيء في «هذه الرقعة من السوديكو»، من أشخاص إلى أناشيد، كان يقول «أنا ثورة جورج عبد الله». وفي الثورة أيضاً معاناة وألم، ففي أحد الأركان وتحت الحائط الذي كتب عليه «جورج في غوانتانامو فرنسا»، تقف قريبات عبد الله يبكين «سنوات الظلم»، وكأنهنّ أخبرن للتوّ أن السلطات الفرنسية ألقت القبض على جورج.

في المقلب الآخر، يقف رجل يقود «الثورة». يتجمّع المعتصمون حوله، فهو ينظّم صفوفهم ويؤكد «تمسكنا بالقضية». يلتفت الرجل الخمسيني يميناً، تخاله لبرهة جورج عبد الله، لتعود وتتذكّر أن فرنسا ليست «دولة المفاجآت»، فهي لم تتقصّد الإعلان أن وزير الداخلية لم يوقّع على القرار لتعود وتفاجئ الجميع بأنه تمّ إطلاق سراحه سراً.. إذاً، إنه شقيقه، موريس عبد الله. ولا يتقاسم موريس وجورج فقط ملامح الوجه، بل إن «حطب الثورة» يشتعل أيضاً في داخله. يلتقط الرجل «الميكروفون»، ويبدأ بـ«إلقاء خطابه» الذي يردده المعتصمون، فهو ليس خطاباً عادياً، إنه «نشيد الحرية»، الذي يبدأ بالهجوم الكلامي على فرنسا التي تنصاع للإملاءات الأميركية والصهيونية، ولا ينتهي عند انتقاد رئيس الجمهورية والحكومة ومجلس النواب والسلك الديبلوماسي، فالدولة لم تحرّك ساكناً، يقولها موريس بالفم الملآن.

وبعد دقائق قليلة، يعيد موريس «خطاب الثورة»، ليفعل فعلته عند الشباب المعتصمين، الذين رموا بأجسادهم في الشارع الرئيسي، لتقفل الطريق بشكل نهائي أمام مقر السفارة الفرنسية، وتعمل القوى الأمنية إلى تحويل السير إلى المتحف.

لم ينته الإعتصام هنا، بل اقترب هؤلاء الذين كانوا يعتصمون عند ناصية الشارع، إلى أمام باب السفارة الفرنسية، لم يقصد هؤلاء اقتحامها، ليس فقط لأنهم لا يستطيعون «خلع» الباب الحديدي الكبير، الذي يقف بينهم وبين المسؤولين الفرنسيين في الداخل، وإنما لأن «الإقتحام لن يؤدي إلى إطلاق سراح جورج»، كما يردّد أحدهم.

اكتفى المعتصمون بادئ ذي بدء، برفع أصواتهم لرفضهم «القرارات التعسفية الفرنسية»، وليتطوّر الأمر إلى رشق مقر السفارة بالبيض، ومن ثم محاولة الإقتراب أكثر من الباب الحديدي، حيث جرى تدافع بين المعتصمين والقوى الأمنية، تحوّل إلى تدافع وتلاسن لدقائق معدودة، قبل أن يتدخّل أشقاء عبد الله ومنظمو الإعتصام للوقوف بينهم وبين القوى الأمنية. وبعد هدوء دام أقل من نصف ساعة، حاول أحد المعتصمين كتابة إسم جورج عبد الله على حائط السفارة، فنجح في ذلك غير أن ذلك أنتج تجدّد حالة التدافع بين المعتصمين والقوى الأمنية. وأفادت «الوكالة الوطنية للإعلام» عن إصابة عنصرين من قوى الأمن جراء التدافع، ونقلا إلى أحد مستشفيات المنطقة للمعالجة.

وبعدها، حاول شقيق جورج جوزف عبد الله، أن يهدئ المعتصمين ويبعدهم عن باب السفارة، وشدّد على أن «القوى الأمنية تحمينا، وهي معنا وليست ضدنا، ونحن لا نريد أن يظهر هذا الإعتصام غير سلمي فلا تدفعونا إلى ما لا نريد، أي أن نحمي السفارة الفرنسية، ونحن لا نريد ذلك البتة».

وكما ان كلّ شيء في الإعتصام كان عفوياً، قام أحد الشبان بمعاونة صديقه بنصب خيمة في الشارع الرئيسي أمام السفارة، فقال له صديقه: «ضعها مكانها، فماذا سيفعلون، في الحالة القصوى سيطلب منا منظمو الإعتصام وعائلة عبد الله، إبعادها إلى الرصيف».

وهكذا، وبمبادرة فردية تحوّلت الأنظار من أمام السفارة الفرنسية إلى «الخيمة العفوية» التي نصبت عند ناصية الشارع. وبعد الإنتهاء، اقترب جوزف عبد الله، وقال للمعتصمين: «أنا أتحدث الآن باسم اللجنة الدولية لمتابعة قضية الأسير عبد الله»، فالإعتصام يجب أن يكون سلمياً، ولا نريد استفزازات، وكذلك لا نريد أن نستفز الأوساط الشعبية من خلال إقفال الطرقات والتسبّب بإزعاجهم، لذلك علينا فتح الطريق أمام المارة، والإكتفاء بالخيمة عند الرصيف».

ثم عمد المعتصمون إلى إبعاد الخيمة عن نقطة الجيش، لتفتح الطريق بشكل جزئي بسبب كثافة أعداد المعتصمين. ما يعني الدخول في اعتصام مفتوح حتى اطلاق عبد الله وامكانية تنفيذ اعتصامات اخرى في المناطق «حيث توجد لفرنسا مصالح في لبنان».

أين المسؤولون؟

لم تتردّد هذه العبارة على لسان أحد، فالعتب الذي يكون بالعادة «على قد المحبة» لا وجود له في هذا الإعتصام، فهؤلاء فقدوا الأمل منذ عقود بالدولة اللبنانية التي «لم تطالب بإبنها»، بحسب شقيقة جورج.

واقتصر الحضور على الأمين العام لـ«الشيوعي» خالد حدادة، وعضو المكتب السياسي في «حزب الله» غالب ابو زينب وزعيم «رابطة الشغيلة» زاهر الخطيب. برغم ذلك، سيحضر موضوع عبد الله اليوم في زيارة للسفير الفرنسي ابتريس باولي الى وزارة الخارجية للقاء الوزير عدنان منصور.

اليوم، ستقوم السفارة الفرنسية، ربما، بتعليق نشاطاتها، وسيعمد السفير الى الخروج من الباب الخلفي، ولكن ذلك لن يمحو إسم جورج عبد الله، الذي سيبقى مكتوباً على جدران السفارة الحجري. سيبقى «طيف جورج» يلاحق الفرنسيين، فهو لم يعد سجيناً في «بلاد الإليزيه» التي تحاضر بالعدالة، بل أضحى رمزاً للحرية.

الأكثر قراءة