كما في كل سنة، ينتظرون حلول ذكرى خروجهم قسراً، من أرضهم فلسطين. يتذكرون مفاتيح البيوت التي تدلّت، ذات يوم، من أعناقهم، يوم ظنّوا أن العودة قريبة، والمفتاح ينتظر دخول الأبواب الموصدة. ينتظرون ذكرى النكبة قبل حلولها، كأنها عرسٌ يذكرهم بما لا يُنسى، هم القاطنون في مخيمات سكنوها، ذات يوم، على أنها ممرّ موقت، فغدت المسكن المحتّم، بلا أي حقوق تنصف عيشهم، وغدهم.
ولمّا خُضّبت نكبتهم بالدماء، في العام الماضي، أضيف إلى الذكرى مأتم آخر، حملهم من نكبة إلى نكبة. وقد أحيت المخيمات الفلسطينية في لبنان، والمنظمات المدنية الذكرى الرابعة والستين للنكبة، بمسيرات واعتصامات ونشاطات، عبرت عن توق فلسطينيي الشتات للعودة إلى تراب الوطن.
في مارون الراس
تسند أم عبد الرحمن، وهي والدة الشهيد عبد الرحمن صبحا، علم فلسطين على كتفها، وتسير على الدرب إلى حدود فلسطين، حيث ارتفع ولدها شهيدا منذ عام ويوم. تسير كأنها تائهة عما يدور حولها من هتافات وتكبيرات. يرتفع أمام عينيها الدامعتين ذلك الشريط الشائك، الذي مزق ثياب ابنها، قبل أن تمزق رصاصات العدو جسده. تسير إلى أن يوقفها الجيش اللبناني، على بعد أمتار من الحدود. تتوه للحظات بين الذكريات، وتطير فوق تلك الحدود، قبل أن تستدير نحو صورة ابنها، التي علقت على مجسم خارطة فلسطين في ذكرى شهداء العودة، الذين سقطوا قبل عام ويوم، في أثناء إحيائهم يوم النكبة في مارون الراس. كان من المفروض أن تكون أم عبد الرحمن، أمس، وحيدة هي وذكرياتها أمام صورة ولدها، لكنها منعت من الزيارة، فخالفت موعدها الذي قطعته بيوم واحد، وجاءت إلى هنا.
أمس، أحيت عوائل الشهداء، وفصائل ولجان وروابط فلسطينية، ذكرى شهداء العودة من المكان الذين استشهدوا فوقه، ووضعوا اكاليل من الورد والقوا كلمات وهتفوا، وعادوا. وكانوا قبل ذلك قد عرّجوا على «حديقة إيران» في مارون الراس (علي الصغير)، فألقوا نظرة على فلسطين، قبل انتقالهم إلى المكان الذي أقاموا عليه مراسمهم بكل هدوء، تحت أنظار وانتشار كثيف للجيش اللبناني، منعا لحصول أي حماسة غير محسوبة من قبل المحتفلين. وكذلك كانت الصورة على المقلب الآخر من الحدود، فقد انتشر جيش العدوّ الإسرائيلي، إلى جانب تمركز عدد من الصحافيين الإسرائيليين، على احدى التلال المطلة على مكان الذكرى.
مرت الذكرى بهدوء وفق الحسابات وما هو مخطط له، وعادت عوائل الشهداء إلى مخيماتها بانتظار ذكرى جديدة.
المخيمات
أحيا أبناء «مخيم الجليل» في بعلبك (عبد الرحيم شلحة)، الذكرى أمس، بسلسلة من النشاطات التي تؤكد الالتزام بحق العودة وتحرير القدس. فقد نظمت «جمعية النجدة الفلسطينية» حملة رسوم في المخيم، قام بها الأطفال والفتية للتعبير عن مدى الالتزام بالقضية. كما نظمت الفصائل الفلسطينية مسيرة شعبية، تقدمتها أعلام فلسطين وقيادات الفصائل واللجان الشعبية. وألقى أمين السر لـ«حركة فتح» في البقاع فراس الحاج، كلمة في نهاية المسيرة، ربط فيها التزامن بين ذكرى النكبة وانتفاضة الأسرى في سجون العدو الصهيوني، داعياً إلى أوسع حملة تضامن مع الأسرى وقضيتهم . وأكد أهمية حق العودة ورفض التوطين والتمسك بالهوية الوطنية والثوابت الفلسطينية، التي أرساها الرئيس الراحل ياسر عرفات، معلناً استعداد «حركة فتح» الدائم لإتمام المصالحة الفلسطينية، بموجب اتفاقية القاهرة والدوحة، مع التأكيد على الشراكة السياسية والديموقراطية مع كافة الفصائل الفلسطينية.
وفي عين الحلوة (محمد صالح)، خرجت صرخة من أفواه «الشبيبة الفلسطينية» في مخيم عين الحلوة، معلنةً «اننّا نعاهد شهداءنا الأبرار، وأسرانا البواسل، أننا لن نفرط بذرة تراب من أرض فلسطين مهما كان ألم النكبة قاسياً، ولن نتنازل لآلة البطش الصهيونيّة مهما كلف الأمر، فستستمر قوافل الجيل الفلسطيني الجديد، الذي ولد معه حلم القدس والعودة في متابعة درب المقاومة، حتى تحرير جميع الأسرى والمعتقلين، واسترجاع كامل التراب الفلسطيني». جاء ذلك في الاعتصام الذي نظّمته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» و«منظمة الشبيبة الفلسطينية» في المخيم، أمس، والذي تجسد بنصب خيمة عند مدخل المخيم، لمناسبة إحياء ذكرى النّكبة، وتضامناً مع الأسرى المعتقلين داخل السجون الصهيونية. وتحدث مسؤول الجبهة في صيدا والجنوب عبد الله الدنان، عن «الجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، وتزايد الاستيطان بصورة غير مسبوقة في الضفة والقدس، ومحاولات التهويد وطمس الطابع العربي الإسلامي للقدس». وألقى كلمة «الشبيبة الفلسطينية» محمد حريز، مؤكداً «ضرورة العودة إلى الثوابت الفلسطينية، حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني، وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس». ولم تختلف ذكرى النكبة في المخيم عن سابقاتها، فقد نفذ اللاجئون مسيرات ولقاءات ومهرجانات، شارك فيها حتى الأطفال.
كما نظمت «حركة الجهاد الإسلامي»، مهرجان العودة في مخيم الرشيدية في صور (حسين سعد). وألقى عضو المكتب السياسي في الحركة الشيخ نافذ عزام، كلمة عبر الهاتف، أكدا فيها ان «النكبة في العام 1948 كانت كالزلزال، الذي هز المنطقة وغيّر خارطتها». وأكد عزام أن «الشعب الفلسطيني، بعد مرور 64 عاماً، لا يزال يحلم بالعودة. ونؤكد لإخواننا في الشتات أن معاناتهم التي يعيشونها في المخيمات، تزيدنا إصراراً على التمسك بحق العودة، ولن نساوم عليكم». من جهتها، اعتبرت «رابطة العروبة والتقدّم»، في بيان أصدرته أمس، أن «ذكرى نكبة فلسطين مرّت أمس، أمام مواجهة العرب لها بصمت مريب. لم يخرج لإحياء ذكراها إلا الشعب الفلسطيني البطل، الذي لا يزال مستمراً في القتال والمواجهة بكل الأشكال، حتى اليوم، رغـــم كل الـــصعاب ورغم تخلّي الأنظمة العربية عنها».
شمالاً، رفع الأهالي الأعلام الفلسطينية والرايات السوداء فوق أسطح المنازل والمحال التجارية والسيارات. كما انطلقت مسيرة في مخيم نهر البارد شاركت فيها فصائل المقاومة واللجان الشعبية وفاعليات ووجهاء المخيم والمؤسسات الثقافية والتربوية والفرق الكشفية وحشد جماهيري، وتم وضع أكاليل من الزهور على أضرحة الشهداء وقراءة الفاتحة على أرواحهم. وألقى كلمة فصائل المقاومة واللجان الشعبية في الشمال جمال الشهابي ممثل حركة حماس في الشمال اعتبر فيها أن «سياسة التهويد والتهجير والمؤامرة، ما زالت فصولها منذ وعد بلفور وأن الحقوق لا تستجدى وإنما تنتزع انتزاعا». كما احتشد اهالي مخيم البداوي في تجمع جماهيري، ألقى فيه حسين زيد كلمة المؤسسات ولجنة مهرجان حق العودة في الشمال ناشد فيها الحكومة اللبنانية والاونروا «الإسراع لإعادة إعمار نهر البارد وعودة أهلنا الى بيوتهم على أمل العودة بعدها الى أرضنا فلسطين». أما كلمة فصائل المقاومة واللجان الشعبية في الشمال فألقاها أبو خالد غنيم عضو قيادة حركة فتح في الشمال، مطالبا الحكومة اللبنانية «باتخاذ قرار سياسي لإنهاء الحال العسكرية وإلغاء التصاريح وتسليم حي جنين والعقار 39 وأراضي منظمة التحرير التي تقع على العقار 36 لتحويل جزء منها الى مقبرة وإعادة إعمار حي المهجرين والجزء الجديد من المخيم والتعويض على العائلات والتجار وإعادة إعمار المباني المهدمة وتوفير الأموال لإعادة إعمار المخيم القديم والجديد».
لبنانيون يتذكرون..
وللمناسبة ذاتها، نفذ كل من «اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني»، و«التجمع الديموقراطي العلماني»، و«مجلة الآداب» و«المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين»، و«مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب»، و«المنتدى الاشتراكي»، و«نسوية»، اضافة الى ناشطين وناشطات مستقلين، اعتصاماً أمام المتحف الوطني في بيروت أمس. وأعلن المعتصمون عن تضامنهم مع «جميع معتقلي الرأي في سجون الأنظمة والاستبداد العربي، ومع جميع الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي». وقالوا إن «فلسطين تعلّمنا كيف نثابر، منذ ٦٤ عاماً، وكيف نجعل من الانتفاضة والمقاومة خبزنا اليومي. علّمتنا أن لا نثق بحكامنا، وعلمتنا أن الحرية لا تنتجها سوى الشعوب، وعلمتنا قبل أن نعلم، كيف نقول: الشعب يريد».