الأخبار: كشف وزير العمل أنّه أرسل مشروعاً جديداً لتصحيح الأجور إلى مجلس شورى الدولة مرفقاً بمطالعة قانونيّة؛ إذا كان رأي المجلس إيجابياً يحطّ المرسوم على طاولة مجلس الوزراء. معركة تحصين الأجور مستمرة إذاً من جانب شربل نحاس
حسن شقراني
أرسل وزير العمل، شربل نحاس، مشروعاً جديداً لتصحيح الأجور إلى مجلس شورى الدولة، وطلب رأيه «مسبقاً»، وفق الأصول، قبل إحالته إلى مجلس الوزراء، مرفقاً بالرأي المذكور.
وبحسب المعلومات المتوافرة لـ«الأخبار»، فإنّ صيغة المشروع الجديد لا تشير بأي حال من الأحوال إلى بدل النقل، وتتعامل معه كأنّه غير موجود، إلّا أنّها تهدف إلى المحافظة على حقوق الأجراء والموظّفين بقيمة هذا البدل ضمن أجورهم، إضافةً إلى تصحيح الأجور بنسب معينة.
ووفقاً للمعلومات نفسها، فإنّ الصيغة المقترحة تعتمد عام 1995 كأساس، أي منطلقاً لاحتساب نسب ارتفاع الأسعار التي بلغت 100% منذ ذلك التاريخ، على أن يتم تنزيل قيمة الزيادة المقطوعة المقررة في عام 2008 بقيمة 200 ألف ليرة بوصفها سلفة. وتقضي هذه الصيغة بتصحيح الأجور بنسبة 100% على الشطر الأول وبنسبة 25% على الشطر الثاني، على أن يتم رفع الحد الأدنى للأجور الى 800 ألف ليرة.
تأتي هذه الصيغة بعد ثلاثة مشاريع مراسيم متتالية، رفض مجلس الشورى الموافقة عليها، لذلك تم إعداد مشروع المرسوم الجديد بالاستناد الى رأي مجلس الشورى الذي اعتبر أن المراسيم الصادرة منذ عام 1996 غير واقعة في موقعها القانوني.
وأعلن نحّاس أمس أنه لن يوقّع على أي مرسوم يخالف الدستور والقوانين ولا يراعي الحاجة إلى تحصين الأجور وتصحيحها معاً، واضعاً بإعلانه خطّاً فاصلاً بين ما يجب فعله للحفاظ على حقوق العمّال والمستخدمين في القطاعين الخاص والعام وبين ما يجري تداوله من صفقات وتسويات تحت مسمّيات مختلفة، منها «الاتفاق الرضائي» بين قيادة الاتحاد العمالي وبعض هيئات أصحاب العمل.
وقال نحّاس، في لقاء حواري مع الشباب في الأونيسكو أمس بدعوة من «اتحاد الشباب الديموقراطي اللبناني»، إن هذا الاتفاق ــ الرضائي ــ لا يلبي المصلحة العليا وينطوي على مخالفات سبق لمجلس شورى الدولة أن أشار اليها في الآراء الاستشارية الثلاثة السابقة.
ما هي الخيارات إذاً؟ شدّد نحّاس في حديث مع «الأخبار» على هامش اللقاء على أنّه لم يعد أحد يستطيع أن يتجاوز وقائع جديدة طرأت على النقاش، أهمها اتجاه مجلس شورى الدولة لإبطال مراسيم بدل النقل والمنحة التعليمية، ولذلك لم يعد هناك خيار أسرع وأفضل من العودة إلى عام 1995 سنة أساس وتصحيح الأجور بنسبة ارتفاع الأسعار منذ ذاك الحين، وذلك بما يضمن للأجراء المحافظة على أجورهم بعد بطلان بدل النقل وتصحيحها بمعدّلات قابلة للتطبيق ولا تتسبب بأي ضرر فعلي.
وفي خطوة تنفيذية لهذا التوجّه، أرسل نحاس إلى مجلس شورى الدولة صباح أمس، مشروع مرسوم لتصحيح الأجور مرفقاً بمطالعة قانونية لدراستها. وبحسب المعلومات المتوفّرة فإنّ المشروع أرسل إلى مجلس شورى الدولة لأخذ رأيه مسبقاً، فإذا كان إيجابياً ــ استناداً إلى المطالعة القانونية ــ يُرسل المشروع إلى مجلس الوزراء لإقراره.
ويقوم المشروع على إجراء تصحيح للأجور استناداً إلى نسبة غلاء معيشة تبلغ 100% تطاول الشطر الأوّل ونسبة أقلّ تطاول الشطر الثاني.
ويأتي موقف وكلام وزير العمل رداً على معلومات متداولة تفيد بأن هناك مساعي للتوفيق بين مشروعه والاتفاق الرضائي المذكور. فهو ينفي علمه بهذا الأمر ويقول: كيف يمكن التوفيق ما لم يكن هناك حلّ لمسألة بدل النقل واعتباره عنصراً في الأجر؟ فالخلاف الفعلي يكمن في هذه المسألة تحديداً، وبالتالي فإن أي فكرة تضمن عدم تعريض الأجراء لمخاطر خفض أجورهم سيكون مرحباً بها.
لكن هل لا يزال شربل نحاس يشعر بالثقة تجاه مجلس شورى الدولة بعد ما حصل أخيراً؟ سؤال يتبادر إلى ذهن الكثيرين ــ وعملياً في ذهن الجميع، إذ إنّ الجميع يرغب بمعرفة إلى ما ستؤول إليه معركة تصحيح الأجور فعلياً. يُجيب وزير العمل: ستبقى ثقتي بمجلس الشورى كما ثقتي بالدولة وبالشباب؛ لا نقدر على الاستغناء عن الدولة القوية، ونحن في أمسّ الحاجة إليها.
يضع شربل نحاس عنوان «إعادة الاعتبار إلى الدولة» ركناً أساسياً في تحقيق أي مشروع إصلاحي «لكسر النمط والاحتكام إلى القانون الذي يجب أن يحمي الضعفاء». ومعركة الأجور تندرج تماماً في هذا الإطار.
ففي ثمانينيات القرن الماضي، أوضح نحاس في شرحه، تراجعت القيمة الفعلية (القدرة الشرائية) للحد الأدنى للأجور في لبنان بنسبة 85%. «عندما يحدث تراجع كهذا لا نكون امام عارض بسيط بل أمام بلد يتغيّر كلياً».
ومع بداية التسعينيّات، وعوضاً عن تمتين الإنجازات الاجتماعية التي تحقّقت في بداية الستينيات، أُسقطت تدريجاً مفاهيم الرعاية الاجتماعيّة ووجدت البلاد نفسها أمام مزحة سمجة جديدة: عدد اللبنانيين الذين هاجروا خلال حقبة التسعينيات كان أكبر من المسجّل في حقبة الثمانيّنيات السوداء؛ ليظهر في الواقع أنّ الحقبة الأولى كانت أكثر سواداً.
استمرّ السواد مسيطراً، وعلى صعيد السياسات الخاصّة بالأجور تمظهر «توليفة» في عام 1995 بدعم الأجور عبر ابتكار بدل النقل إلى حين تطوير النقل العام. والجميع يعرف تتمّة الرواية: حتّى الآن لا يزال النقل العام غائباً، ولكن مع احتمال أن يغيب بدل النقل أيضاً!
فأطراف الإنتاج ــ التجار، الصناعيون والمصارف ــ الذين وقّعوا الاتفاق الرضائي مع الاتحاد العمالي العام يتضمّن الحفاظ على بدل النقل حالياً عند 8 آلاف ليرة لليوم الواحد، كانوا قد تقدّموا في عام 2002 بطعن لدى مجلس شورى الدولة لإلغاء بدل النقل نفسه! «بقي الطعن نائماً حتّى الأمس القريب، حين قرّر مجلس شورى الدولة الأخذ به» تابع الوزير. وهكذا رفض مجلس الشورى مشروع نحاس دمج بدل النقل في أساس الأجر ــ بهدف تحصينه وليس فقط تصحيحه.
كذلك فإنّ ابتكار «المنح المدرسية» كان مزحة سمجة ظهرت عندما تقرّر في تلك الحقبة «تعديل قانون الضمان في عام 1992، بحيث أصبح اسم صندوق التعويضات العائلية: صندوق التعويضات العائلية والمنح المدرسية»؛ والآن تلك المنح معرضة للتبخر.
أمام هذه التشوّهات يعود شربل نحاس إلى التاريخ ليؤكّد أنّ الحماية الاجتماعية هي ما أبقت المجتمعات ملتصقة، حتّى في أغرب الأوضاع: فعندما توحدت ألمانيا على يد بسمارك، كان أوّل إجراء اتخذه هذا الزعيم في إنشاء الضمان الاجتماعي. كان بسمارك يمينياً وجانحاً في نواح كثيرة، غير أنّه علم تماماً أنّ إجراءه هذا ضروري لكبح هجرة أبناء بلده إلى الولايات المتّحدة. ومعركته لم تكن هينة: كانت ألمانيا حينها مقسمة إلى نحو 20 كياناً إذا صح التعبير، وكان اشتراكيو البلاد يعارضون توجّهات موحّدها!