السفير: عينان: الأولى تحدّق على نحو متذمّر، بشبّان يرفعون أرغفة خبز ولافتات تشتم الحكومة. والعين الثانية ترى، من السيارة، شبانا يردّدون شعارات حانقة على الدولة، ويوزعون حبّات «السكاكر» بمناسبة عيد الأضحى. عندما يفتح المارّة حبّات «حلوى» العيد، سيجدون نتفا من الخبز ملفوفة بورقة تسأل «.. بأي حال عدت يا عيد؟».
الوجوه نفسها التي كانت تتجمهر بمحاذاة مجلس النواب، احتجاجاً على الغلاء المستشري وارتفاع سعر ربطة الخبز، انتقلت أمس للاعتصام، للمرة الثانية، تحت جسر «الكولا».
غير أن اعتصام الأمس جاء بمناسبة حلول العيد وسط غلاء الأسعار: القضية التي يصرّ «اتحاد الشباب الديموقراطي» على الاستمرار في إثارتها، من زاوية مختلفة في كل مرّة، ولو بمشاركة أعداد ضئيلة من المعتصمين.
لم يأتِ اختيار «الاتحاد» لمكان الاعتصام عن عبث، بل نتيجة تجربة عاشها، في خلال تظاهراته السابقة، في وسط البلد الذي يعدّ منطقة «برجوازية»، يصعب فيها مخاطبة سائقي السيارات والمارة، أو توزيع قصاصات الورق عليهم، أو الدردشة معهم، وهم الفئة المستهدفة. يختلف الأمر في منطقة الكولا المأهولة بالسكان والتي تعجّ دوما بالمارة.
عندما وصل المعتصمون إلى المنطقة الواقعة تحت الجسر الذي تدّلت منه لافتة عملاقة تقول «من بندورة الله يا محسنين»، بدأت عدد آليات الجيش اللبناني يرتفع من آلية صغيرة ليصل إلى ثماني آليات ترجل منها «العسكر»، فأضيفوا إلى لائحة المستهدفين في هتافات الشبان المعتصمين: «عسكر عسكر ليه.. إحنا بنسرق ولاّ إيه؟». كان صوت الشاب الهاتف يعلو ويقوى أكثر مع ترداد المعتصمين للعبارة.
بدا مشهد الأمس أكثر حيوية من تظاهرات «الاتحاد» السابقة، انسجاماً مع طبيعة المكان المكتظ بالسيارات والمارة، ما دفع المعتصمين إلى رفع السقف أكثر عبر محاولات متكررة، بين الدقيقة والأخرى، تركزت على قطع الطريق. غير أن المواجهة بدت حتمية: إصرار الجيش على لجم المحاولات، وارتفاع أصوات أبواق السيارات كتعبير عن غضب سائقيها.
تعكس لافتة «البندورة» المتدلية من أعلى الجسر إلى أسفله، انطباعاً كوميدياً بسبب العبارة التي أرفقت بها: «بحبك يا غالي». انطباع سرعان ما يتلاشى مع وجود شبان بثياب ممزقة، يرفعون لافتات تمثّل مطالبهم: «أيها العيد.. تنذكر وما تنعاد»، و«انهض وناضل»، و«إلى من لا يهمه الأمر. إلى غير المبالي. إلى من ليس معنا اليوم: قم وتحرّك».
يتلاشى المشهد الكوميدي أكثر، بعد الإنصات إلى الشعارات التي يرددها الشبان، بأصوات مدوية توجهت إلى سائقي السيارات: «انتبهوا انتبهوا يا حكّام.. بكرة الشعب بيتحرّك». كأنهم يقولون لهم، للشعب، انه سيتحرّك يوماً. يردد الشبان العبارة نفسها. تضعف قوة الصوت، بخجل، عند الوصول إلى الشطر الثاني من العبارة: «بكرة الشعب بيتحرّك»، ربما لأن شريحة من «الشعب» اتخذت على عاتقها الإجابة بطريقتها الخاصة: أبواق سيارات أقوى من صوت الشعار المنادي للتحرّك.
تركن سيارة رباعية الدفع، وفي داخلها أربع فتيات شقراوات. تستغرب الشابة الجالسة خلف المقود مشهد الشبان الذين وفدوا إلى الاعتصام بثياب ممزقة، تحاكي صورة أرادوا إرسالها: «هذه ثيابنا، نحن الفقراء. إنها ثياب عيدنا». يطلب أحد الشبان من زملائه أن يفسحوا الطريق بغية مرور السيارة، إلا أن الفتيات يرفضن المغادرة، ويشاركن بالاعتصام بما تيسّر لهنّ: مسجلة صوتية تصدح بصوت مارسيل خليفة.
يشق شاب، يحمل بإحدى يديه مكبّر الصوت، طريقه بين السيارات، وخلفه يسير المعتصمون. يقول الشاب، موجهاً الحديث إلى سائقي السيارات: «هل أنتم سعداء بالمشهد؟ هل تشفقون علينا، أم على أنفسكم؟ لماذا لا تشاركوننا؟ هل تنتظرون موعد الانتخابات؟ أنت، ماذا تنتظر؟ الانتحاب على الغلاء؟ هل تنتظر اليوم الذي لن تؤمن فيه أقساط أولادك المدرسية، أو لقمة عيشهم؟ هيا، ترجلّوا من سياراتكم... ماذا تنتظرون؟». لا جواب. أبواق سيارات فقط...
يستكمل المعتصمون اعتصامهم تحت أشعة الشمس الخريفية، ووسط شعاراتهم الخاصة، فيما ينتشر أربعة شبان حول الجسر، بثيابهم الممزقة، موزّعين، إلى جانب حبّات «السكاكر»، قصاصات من الورق عن «عيدهم»، بعنوان «.. يأي حال عدت يا عيد؟»، وهو السؤال نفسه الذي سيجده من حالفه الحظ بقبول حبّة «البونبون»، قبل أن يرميها من السيارة، باليد نفسها التي رمت الأوراق.
تقول قصاصة الورق: «ما هذا العيد الذي تتكلمون عنه؟ عيد الثياب البالية لأطفال يعملون في العيد؟ عيد الأنوار المعتمة لبيوت لم تعد تلحظ انقطاع الكهرباء؟ عيد الجوع الكافر، لناس لم تذق طعم العيد منذ سنين؟ أي عيد هذا الذي تتمنون أن ينعاد علينا؟ أيها العيد: تنذكر وما تنعاد».
عينان: الأولى تحبّ العيد كما هو، والثانية تتمنى أن لا يعود إليهم فقيراً.
جعفر العطار