سنغني للربيع - خضر سلامة

أشجار الربيع على عتبة القلب...أعرف شجرة زيتونٍ في غزة، قصفها الحقد بالحقد ولا زال زيتها العربي مضيئاً كقنديلٍ من الياسمين، شجرة زيتونٍ حفر جدٌّ لنا ممعنٌ في البارود قبل أن يطفأ الزمن يديه المتعبتين، حفر عليها ستون اسماً لمخيماتنا، وسقتها جدةٌ لنا عشرين كأساً من نبيذ العرب.. فغدت شهيّةً كثدي امرأةٍ تحت المطر، أعرف شجرة زيتونٍ، ما عادت تهدي من ثغرها الحمام أغصاناً لتطوب الطير رسولاً للسلام.. صارت الزيتونة مخزناً للسلاح في بلادي، ومعسكراً للثوار: زنّرت طيورها بأحزمةٍ من شوك، لتفقأ عين الصيادين.الزيتون في بلادي يتقن حبّ الحياة بسكب الموت قرباناً لها.. يعشق نكهة البرد في كف الجفرا الفلسطينية اذا ما حان القطاف.. ويدرك ما امتزاج العشق بالنزيف في عنق فلاحٍ طعنه يهوشع بالخراب فعانق الجذور وتجذّر في التراب تراباً، ويعرف زيتونُنا أيضاً كل أسماء شهدائنا، وأطفالنا، ونسائنا، ويعرف أسماء أسرانا في سجون اسرائيل.. وفي سجون العرب ربما.الزيتون وفيّ.. كوفاء الطفل لأمه المذبوحة ظلماً: سأقتل قاتلك.أشجار الربيع على عتبة القلب..وأعرف نخلةً زرعها الفرات قلادةً في جيد بغداد، والنخلة العراقية لمن لا يعرف نخيلنا، تولد في قصيدة، وتعيش في موّال.. وتموت مشنوقةً بتهمة الطرب.. بتهمة الموسيقى..أعرف نخلةً عراقية لم تقطعها الديمقراطية باسم الديمقراطية بعد، لا زالت تحمل جرةً كل صباح، وتملأها من دم المحتل، لتشبع بها شبق الأرض للحرية، نخلةً عراقيةً لم تتأمرك، لا زالت تتكلم اللغة العربية بطلاقة بلبلٍ يغنّي لمليون قبر، لمليون نبيٍّ عراقيٍ قتلهم القرن الواحد والعشرون بنيرانٍ "صديقة".موطني موطني الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك... في رباك..موطني، النخيل والقصيدة..لماذا لا يحضر العراق الى البال، إلا ويصطحب معه عوداً وقيثارة، وسعفة نخيلٍ وقلم؟أشجار الربيع على عتبة القلب..شجر الليمون على خد المتوسط لا زال ينبض برحيق أول حرفٍ صنعه قدموس، لا يخيفه هذا الانقسام البشع، ولا يأبه لخلافات أبنائه.. فكل الفقراء أخوة، وكل الجياع أصدقاء.. هم فقط لم يكتشفوا بعد كم يشبهون بعضهم.. أعطِ الصغار ملعباً وفوضى، فحين يتألمون قليلاً من طيشهم، سيدركون حينها ما قيمة النظام، وما عقاب من يجرح إصبع وطنه بخنجر مخضب بدم جاره.السنديان والصنوبر على الموعد، لا تخافوا، لم تستطع كل الحرائق التي افتعلها اللبناني بسذاجته، أن تمحي كل الأشجار، ولم تستطع كل سكاكين الصديق والعدو والشقيق أن تجفف حليب الصباح كل صباح، و "كول" ولو جائت بكل أخواتها، لن تستطيع ان تسرق البحر منا، وكل الميليشيات في الشارع وإن قتلت كل الشعراء، لن تستطيع أن تقتل ورقةً واحدة، ولا أن تخترع إكسيراً يصادر الكلمات من شعبٍ يخترع الأمل.الربيع على البابيحتاج إلى تذكرة عبور ليدخل القلوب المكسورة والمحبطة، يحتاج لنفسٍ طويل، أن نثق بأن الليل سيختنق بظلامه، وأن الفأس سينهكه الصدأ، وأن الجلاد سيسقط تحت أقدام القتيل ليستجدي واسطةً ليهرب من لعنة التأريخ والنار، لا بد من أمل، لا بد أن نصنع من اللون الأسود حبراً، ومن العتمة حافزاً للبحث عن المشعل... لا بد أنْ تسقط طيور السنونو يوماً طائرات اسرائيل بين أنياب بحر يافا.. لا بد أن يقتنع الأمريكي أن قناني الكوكا كولا تصبح في بلادي لعبةٍ تحت أقدام الفقراء في ملاعب الطفولة، ولن يحكم شعبنا الطيب إلا خرير النيل وشدو دجلة ورقص الفرات.. لا بد أن يغفو الليطاني في حضن بيروت ويقسم لها أن مياهه ماركة عربية مسجلة، لا بد أن يكف الموتى عن الموت، وأن يقتنع الأخوة ولو طال خصامهم، أن العيون السود لها ذات المذاق في المرآة..طال الوجع قليلاً، والمرارة في القلب قاسيةٌ كاحتراق روما بجنون نيرون.. لكن نيرون مات منذ قرون.. وروما لم تمت..كل ما في الأمر أن وطننا متعبٌ قليلاً.. خلوه يغفو، وامتشقوا الآمال والأحلام والبنادق والأقلام وألعاب الصغار.. وانتظروه على الشرفة.الربيع على الشرفة.. والشعب يحب الحياة.. والحياة لنا.. الحياة لنا..
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة