Ihsan Masri

Ihsan Masri

نجحت تظاهرة السبت الفائت في أن تُظهر تخبّط السلطة وأربابها في مواجهة الحراك الشعبي. عشرات الآلاف نزلوا الى الشارع من دون أي دعوة من أحزابهم أو زعماء طوائفهم. نزلوا ليطالبوا بحقوقهم وباسترجاع أملاكهم العامة وأموالهم المنهوبة، ونزلوا أيضاً بنيّة المواجهة مع السلطة. بدءاً من السبت، أُعطيت الحكومة مهلة 72 ساعة لتحقيق جزء من مطالب الحراك، وإلا فسيتجه المنظمون الى التصعيد، وهو ما ينتظره الشارع بلهفة

 

إيفا الشوفي - الاخبار

 

الاحتجاجات التي وقعت الأسبوع الفائت أعادت الحياة إلى وسط بيروت. طوال الأسبوع حاصر الناس وسط المدينة المهجور حيث شُيّدت بوابات حديدية، تشبه أسوار السجون، لمنعهم من الدخول الى «جزر الأغنياء». مارست السلطة عنفها بشتى الأشكال، من خراطيم المياه الى إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، وبدأت حملة اعتقالات عشوائية بلغت حصيلتها في ليلة واحدة أكثر من مئة متظاهر. حُدّد موعد التظاهرة الكبرى في 29 آب، أي أوّل من أمس، والناس تدفقوا بالآلاف، خالعين عنهم طوائفهم وأحزابهم. قبل أيام من المظاهرة صبّت السلطة جهودها نحو اختراق الحراك الشعبي، فحاول كل من الفريقين السياسيين، أي 8 و14 آذار، استخدام الحراك لتحقيق أهدافهما. انطلقت حملات روّجت أنّ الحراك يستهدف حزب الله، فيما روّج آخرون أنّ الحراك يحقق أهداف التيار الوطني الحر.

في الوقت نفسه، أطلّ وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق في مؤتمر صحافي حاول فيه جاهداً أن يستخدم «سلاح التخويف» من أجل حثّ الناس على عدم النزول الى ساحة الشهداء. المشهد في الشارع كان مختلفاً. الناس استعدّت «للتظاهرة الكبرى» بعناوين مختلفة. «شو، نازل السبت؟»، الجميع يسأل في شوارع بيروت ومقاهيها وسيارات الأجرة. لم يكن الناس خائفون من العنف، بل على العكس، اتضح أول من أمس أن الناس نزلوا ليواجهوا عنف السلطة، إلّا أنّ السلطة لم تقع هذه المرة في فخ الشارع.

ساحة الشهداء: 72 ساعة وإلّا...

منذ الساعة الرابعة ظهراً بدأ الناس بالوصول الى ساحة الشهداء من مختلف المناطق، فيما كان هناك تجمّعان أساسيان: التجمّع الأول انطلق عند الخامسة من أمام وزارة الداخلية وضمّ مجموعات «بدنا نحاسب»، «طلعت ريحتكم»، «حلوا عنا»، «شباب ضد النظام»، «عكار منا مزبلة»… شكّلت قوى الأمن الداخلي واجهة المظاهرة، إذ ساروا بصف واحد أمام المتظاهرين باتجاه ساحة الشهداء.

انفصل الناس عن زعمائهم من دون أن ينفصلوا عن مبادئهم الحزبية في الصفوف الأمامية لهذه المجموعات حضر رئيس التيار النقابي المستقل حنا غريب ووزير العمل السابق شربل نحاس، وآخرون شبكوا أياديهم وساروا بمجموعات مختلفة، كلّ لديه شعاراته وصوتياته الخاصة... أمّا الاتجاه فواحد: ساحة الشهداء. التجمّع الثاني كان في منطقة الجميزة وضمّ النوادي الطلابية، مثل النادي العلماني، نادي السنديانة الحمراء، الحركة الطلابية البديلة والحركة الطلابية الشعبية… في ساحة الشهداء كانت الأعداد كبيرة، وقد كان واضحاً أنّ المجموعات الداعية، التي تتكلم باسم الحراك، لم تكن هي التي تستقطب، بل كان الشارع هو الذي يستقطب فعلياً. عند السادسة وصل الجميع الى ساحة الشهداء التي امتلأت بأكثر من عشرين ألف متظاهر من مختلف الأعمار والمناطق وحتّى الأحزاب. الشعارات التي رفعها الناس عبّرت عن حجم المعاناة التي يعيشونها، وأكّدت أنّ الشارع هو من يقود التحركات وليس المنظمون. كثيرون لم يذكروا أزمة النفايات كسبب لمشاركتهم. نزلوا لأنهم يريدون فرص عمل، كهرباء، مياه، ضماناً اجتماعياً، استشفاءً مجانياً، سلسلة الرواتب، حدائق عامة، هواءً نظيفاً… نعم، الناس لم يعودوا يريدون أن «يتنفسوا باطوناً» كما كُتب على إحدى اللافتات، ويريدون «استرجاع الدالية» و»استعادة وسط بيروت»، وقد أدركوا أنّ «سوليدير دافعين حقها دم»، كما خطّ أحد المتظاهرين على الحائط. تذكّر الشارع في حراك النفايات أنّ حقوقه مسلوبة من قبل طبقة سياسية وصلت وقاحتها إلى أن تُغرقه في النفايات. وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق كان المستهدف الأول لدى المتظاهرين بسبب التعامل الهمجي لقوى الأمن واستخدام القوة المفرطة معهم خلال الأسبوع الفائت. انهالت الشتائم على المشنوق والمطالبات باستقالته. في هذه الأثناء كانت قوى الأمن ترفع لافتة كبيرة على أحد الأبنية في الساحة كُتب عليها «منكم، لكم، لحمايتكم. قوى الأمن الداخلي»، ما استفزّ الناس الذين هتفوا «شيلا»، ليرتفع خلال دقائق هتاف واحد: «دمك يا محمد قصير شعلة ثورة رح بصير»، في تذكيرٍ واضح لما ارتكبته القوى الأمنية بالشاب محمد قصير الذي لا يزال الى اليوم يرقد في المستشفى في حالة حرجة جداً.

تمكنت مظاهرة السبت من إثبات أنّ كلّ ما قيل عن هواجس من استخدامها لمصلحة فريق سياسي سقطت، فلا قوى 14 آذار ولا 8 آذار استطاعت أن تستخدم التظاهرة لتحقيق أهدافها، وهو ما ظهر من خلال الشعارات التي صوّبت على «الطبقة السياسية». جميع التحذيرات التي أُطلقت في الأيام السابقة، من استخدام صورة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله والهجوم الذي شُنّ على الحراك بشأن «تعميم الفساد»، نسفتها التظاهرة التي تمكنت من البقاء خارج عبث الصور، من دون أن تتخلّى عن موقفها بأنّ كل من يشارك في السلطة متورّط في الفساد ولا يمكن رفع المسؤولية عنه.

كذلك أثبت الحراك أنّ الذين نزلوا الى الشارع ليسوا «مستقلين» كما حاول بعض المنظمين أن يوحوا بهدف منع «تهمة السياسة» عن الحراك. بل على العكس، الإنجاز الحقيقي لهذا الحراك هو أنه تمكّن من استقطاب أناس موجودين في الأحزاب وتشجيعهم على الانتفاض ضد زعمائهم من أجل تحصيل حقوقهم. بقي أحمد، القادم من صور، حتى ساعات الليل في الساحة يتظاهر «ضد الجميع». يقول إنّ في صور «نواباً لحركة أمل وحزب الله لا نراهم سوى في مجالس العزاء»، وأصرّ على أن يوجه كلمة لرندة بري عبر التلفزيون «نحنا ولاد حركة أمل ونحنا ولاد المحرومين، المشاعات يلي أخدتيها مش نحنا أحق فيها لنعمّر بيوت ونعيش؟». يهتف أحدهم من الخلف «حركة أمل مبادئ مش أشخاص. أنا عم إتظاهر اليوم لشيلن من مراكزن كلّن، لإن السيد موسى الصدر أول من نادى ضد الظلم». لم يقتصر الحراك فقط على جذب مناصري الأحزاب، بل توسعت رقعته بحيث شارك حزبيون متخففون من العبء الحزبي من مختلف الانتماءات، مثل تيار المستقبل والتيار الوطني الحر. فقد كان لافتاً الحضور العوني ضمن التظاهرة، مثل زياد عبس وأنطوان نصرالله وآخرين من رموز التيار الذين شاركوا استنكاراً لطريقة تعامل التيار الوطني الحر مع الحراك. وعند سؤالهم عن سبب مشاركتهم كان الجواب «لأننا عونيون حقيقيون».إذاً، انفصل الناس عن زعمائهم من دون أن ينفصلوا عن مبادئهم الحزبية، وهذا أمر مشجّع يجب البناء عليه عوض دعوة الناس الى الابتعاد عن السياسة.

بيان حملة «طلعت ريحتكم» تبع الشارع الذي لم يعد همّه الأساسي أزمة النفايات، فحدّد أهدافاً عاجلة تتعلّق بأزمة النفايات وأهدافاً سياسية متمثلة في «تحقيق دولة مدنية»، معلناً «أن معركتنا ما زالت في أولها ومستمرة الى أن يصبح عندنا رئيس جمهورية وقضاء مستقل، وأن يبقى شبابنا هنا، وأن تسترجع البلديات أموالها، وأن يقف الهدر والاستدانة، وأن ترجع الأملاك العامة الى العموم، وألا نموت أمام المستشفيات، وأن تعيد الدولة المخطوفين». أمهلت الحملة مهلة 72 ساعة (تنتهي غداً) لتحقيق المطالب التالية قبل الإعلان عن خيارات تصعيدية: استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، محاسبة وزير الداخلية وكل من أصدر الاوامر بإطلاق النار، إجراء انتخابات نيابية جديدة، إيجاد حل بيئي مستدام لملف النفايات في لبنان يتضمن تحرير أموال البلديات من الصندوق البلدي المستقل وإصدار نتائج تحقيق المدعي العام المالي.

ساحة رياض الصلح: الرغبة في المواجهات

في الجهة الخلفية لساحة الشهداء، أبى البعض أن يغادر ساحة رياض الصلح نظراً إلى الرمزية التي اكتسبتها في هذا الحراك. يقولون «هنا اعتقلنا وهنا رمينا بالرصاص وهنا (أي السراي الحكومي) هدفنا». جلست مجموعة صغيرة في ساحة رياض الصلح فيما كانت الأعداد الكبرى لا تزال في ساحة الشهداء. فعلياً، منذ الساعة السادسة والنصف، كان الناس يتنقلون بين ساحة الشهداء وساحة رياض الصلح. عند الثامنة مساءً، أعلنت الحملة انتهاء التظاهرة، إلّا أن الناس لم يكونوا يريدون الخروج من الشارع، فانتقلوا الى «ساحتهم»، ساحة رياض الصلح، ولحقتهم المجموعات المنظمة للحراك، ما أكّد مرة أخرى أنّ الناس يقودون المنظمين. بعض منظّمي حملة «طلعت ريحتكم» حاولوا أن يقنعوا الناس بعدم البقاء في ساحة رياض الصلح عبر تحذيرهم من الاشتباكات التي قد تحصل، وعندما لم ينجحوا أصدروا بياناً أعلنوا فيه «عدم مسؤولية الحملة، أو أي من منظميها، عن تصرفات بعض الشبان في ساحة رياض الصلح».

هناك، كان الموجودون يهتفون بأنهم «مندسّون»، وقد أحضروا معهم كافة المعدات اللازمة لمواجهة عنف السلطة. مشهد الأسبوع الفائت الذي وسم الشغب بأولاد الأحياء الفقيرة، مثل الخندق الغميق، اختلف نهار السبت، إذ اتضح أنّ المندفعين للشغب هم آخرون. البعض منهم كان يرغب بصدق في المواجهات ويريد أن يشارك فيها، أما الجزء الثاني فأراد أن يرى ميدانياً عمليات الشغب. الناس في هذه الساحة كانوا يضعون أقنعة الغاز، ويرتدون أكياساً من النايلون من أجل خراطيم المياه، كذلك انتشر البصل في الحقائب للتصدي للقنابل المسيلة للدموع، عدا عن المفرقعات التي جرى رميها خلف الأسلاك الشائكة. في الواقع، العنف الذي مارسته السلطة خلال الاسبوع الفائت ساهم بشكل أساسي في استقطاب الناس عوض تخويفهم، ومن الواضح أن القوى الأمنية أدركت هذا الأمر، فخيّبت آمال المتظاهرين. اتخذت القوى الأمنية إجراءات من خلال توسيع نطاق الأسلاك الشائكة، بما يمنع أي إمكانية للمتظاهرين في سحبها والدخول الى السراي الحكومي، واختفى أي ظهور مباشر لعناصر مكافحة الشغب والقوى الأمنية والإطفائيات تفادياً لاستفزاز المتظاهرين ولعدم استدراج القوى الأمنية الى العنف. استمر المتظاهرون في رمي المفرقعات باتجاه السراي الحكومي، واقتحم عدد منهم أحد المباني في شارع المصارف بهدف تجاوز الأسلاك الشائكة. تمكنت مجموعة من المراهقين من تجاوز الخط الأول من الأسلاك، أمّا المتظاهرون في الساحة فكانوا يراقبون مداخل الساحة، منتظرين لحظة «هجوم» القوى الأمنية عليهم. عند الساعة العاشرة تقريباً وصل خبر عاجل إلى هواتف الموجودين في الساحة بضرورة إخلاء الساحة، لأن القوى الأمنية «ستعالج الأمر»، فغادر الكثيرون فيما هجمت القوى الأمنية واعتقلت 29 شخصاً على الأقل.

الاغتراب يتضامن

تضامن العديد من الجاليات اللبنانية في بلدان الاغتراب مع حملة طلعت ريحتكم، حيث نظمت عدة تجمعات واعتصامات. في الولايات المتحدة الأميركية، تظاهر مئات اللبنانيين في الساحة الكبرى في مدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس، قرب نصب الكاتب جبران خليل جبران. وحمل المشاركون الأعلام اللبنانية والشعارات الوطنية الداعية إلى إنهاء الفساد، مطلقين خطابات تدعو إلى التغيير في لبنان. وأكد المتظاهرون أنهم يساندون اعتصامات الشباب في لبنان الذين يدعون الى تغيير النظام السياسي، وتحسين فرص العيش منعاً لازدياد الهجرة اللبنانية التي رمت بنخبة شباب لبنان في الخارج. وتحتضن مدينة بوسطن أكبر وأقدم عدد من اللبنانيين المهاجرين في الولايات المتحدة. كذلك نظمت تجمعات في ولاية نيويورك أمام القنصلية اللبنانية في مانهاتن، وفي ولاية ديترويت. وفي فرنسا، تظاهر اللبنانيون في ساحة تروكاديرو في العاصمة باريس، حاملين الأعلام اللبنانية، هاتفين للبنان خال من الفساد والوساطات. كذلك نظمت تجمعات في العاصمة البلجيكية بروكسل، وفي العاصمة البريطانية لندن، وفي مدينة ميونيخ الألمانية، وفي مدينة مونتريال الكندية. ودفع الحراك الشبابي في لبنان مجموعة من الناشطين في سيدني في أوستراليا، إلى الدعوة لعقد لقاء تشاوري الأسبوع المقبل لتحديد آلية دعم الحراك. وجرى حوار حول وضع آلية عمل لتطوير اللقاء وتوسيعه ليشمل أكبر عدد من أبناء الجالية بعيداً عن المنطق الطائفي.

قاسيون «على خلفية موضوع النفايات وملف شركة سوكلين تحديداً، انفجرت باقي الملفات التي كانت حاضرة دائماً في الاحتجاجات المختلفة في السنوات الماضية، وتحول الخطاب من مطلبي متمحور حول النفايات، إلى خطابٍ سياسي مباشر، يحمِّل المسؤولية للسلطة، ويطالب باستقالة الحكومة»، بهذه الكلمات، عبَّر رئيس اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني، حسان زيتوني، عن أن الحراك «ليس محطةً مستقلة أو فجائية في سياق الحالة السياسية في لبنان».وحول تركيبة المشاركين في التحرك، ومشاربهم السياسية والاجتماعية، يؤكد زيتوني، أن طبيعة المشاركين تنقسم بين القوى المنظمة كاليسار، و«المجتمع المدني الذي يعمل على قضايا منفصلة، والمجموعات البيئية والحقوقية»، أما الحضور الأساس فهو «للفئات الشعبية غير المؤطرة سياسياً بشكلٍ مباشر»، والتي اجتذبها عنوان الحملة.ولدى سؤالنا له عن نسب القوى السياسية في مقابل تعداد المهمشين المشاركين في التحركات، أكد زيتوني أن «القوى السياسية السلطوية هي بالطبع خارج الحراك. والقوى البديلة موجودة، لكنها، حتى الآن، ليست القوى الوازنة بالحد الذي يسمح لها أن تعطي الحراك عمقه وبعده السياسي الأكثر نضجاً».في المقابل، يرى محمد المعوش، القيادي في الاتحاد أن عوامل عدة انعقدت لكي تطلق هذا الحراك الذي لم يكن في السابق متوقفاً أو منقطعاً عن الشارع، إنما توسع خلال الأيام الماضية «بسبب تعمق أزمة السلطة السياسية في لبنان، والتخبط الواقعة به مختلف القوى السياسية، وعجزها عن إدارة ملفات حيوية يومية، كالكهرباء والماء وآخرها النفايات، بوصفه ملفاً يلمس الحياة اليومية للناس بشكلٍ مباشر.. فكان السياسي والأمني والاقتصادي الاجتماعي مستويات مترابطة في النقمة الشعبية التي أطلت من خلال ملف النفايات، كجزء من سياق ممتد على مدى العشرين سنة الأخيرة»، ولهذا، يرجع معوش حالة «انفكاك مجموعات واسعة من الشباب عن وعيها التبعي لأحزاب السلطة منذ تعمق الأزمة السياسية ما بعد العام 2005».ويضيف معوش أن «الحراك انطلق على خلفية اعتراضية، لا تملك طرحاً متبلوراً ككتلة متجانسة، وهو ما أضعف الشكل السياسي المباشر له، بالرغم من السقف «المرتفع» لشعار إسقاط النظام، والذي يظهر أنه إعادة إحياء للشعار «العربي» حول إسقاط النظام دون آفاق واعية ومحددة»، إلا أنه لا ينسى الإشارة إلى «الدور الذي يلعبه اليسار في حضوره ضمن لجنة التنظيم، في تحويل الشعارات إلى أهداف سياسية واضحة وملموسة، حول طبيعة التغيير المنشود، وشكل بناء السلطة البديلة وطابعها الطبقي.. فالأرضية الناضجة موضوعياً يفترض ترجمتها الى حالة سياسية تسير بشكل متراكم، ومحورتها حول طرح مركزي يجري التحريض حوله، مرتبط بالأهداف السياسية التي تطرح التغيير الجذري للنظام، في ظل ترجمة نقمة الناس إلى عناوين وبرامج تؤسس وتدفع نحو تأطير الحالة الاعتراضية، وتوسيعها وإعطائها عمقها وبعدها السياسي والاجتماعي كمضمون تغييري للنظام».

ساندي الحايك - السفير

"أخيرا شهدت على مدينتي في تظاهرة دون طوائف" هكذا علق أحد الناشطين في تظاهرة اليوم السبت التي دعت إليها حملة "طلعت ريحتكم" مع مجموعة من الحملات الأخرى ("بدنا نحاسب"، "حلو عنا"، "طفح الكيل"، "عالشارع"). عادت الساحة التي احتكرتها الأحزاب السياسية والطائفية على مدى سنوات إلى أصحابها الأصليين. وبرهن الشعب اللبناني أنه لا يزال "حياً" وقادرا على الضغط والتغيير سلميا، متى أراد ذلك.

 

لم يقع المشاركون في التظاهرة في فخ المواجهات مع العناصر الأمنية، على الرغم من محاولة بعض الشبان، قبيل إنسحاب المعتصمين من ساحة رياض الصلح، جرهم إلى مواجهات كبيرة، عبر محاولات استفزاز القوى الأمنية. إذ قام بعضهم، وهم عراة الصدور وملثمو الوجوه، بسحب الأسلاك الشائكة من مكانها، ثم اجتيازها والتقدم نحو إحدى نقاط قوى الأمن الداخلي، حيث اقدموا على إضرام النيران، ورمي المفرقعات والحجارة بوجه عناصرها، بغية حرف مسار التظاهرة التي انطلقت في ظل انتشار أمني مكيف. إلا أنهم فشلوا، بينما نجحت التظاهرة في التزام ضبط النفس.إنطلقت التظاهرة بمسيرة حاشدة من أمام مبنى وزراة الداخلية في الحمرا وصولا إلى ساحة الشهداء، حيث توزع المعتصمون بين ساحة الشهداء ورياض الصلح. وقد استفاد المنظمون من أخطاء سابقة، حيث نسقوا بشكل مباشر مع القوى الأمنية لحفظ سلمية التحرك. وميزوا انفسهم عن باقي المتظاهرين من خلال ارتداء حلة خاصة بهم. بينما وزعت عناصر الأمن كاميرات مراقبة توزعت بين ساحتي الإعتصام. وعلى الرغم من تحليهم بدرجات عالية من ضبط النفس، وعدم محاولتهم الدخول الى السرايا أو مجلس النواب، أعلن المنظمون لجوءهم إلى التصعيد في حال لم تنفذ الحكومة مطالبهم بمهلة أقصاها 72 ساعة.

 

في بداية التظاهرةكان كل شيء منضبط. أغان وطنية وثورية بثت عبر مكبرات الصوت، وشعارات نقدية وتحفيزية رددها المتظاهرون من دون كلل. قبل أن يهبط الليل، وتجتاز مجموعة من الشباب الأسلاك الشائكة لافتعال عنف مقصود مع عناصر الأمن. لم ينجر معظم المتظاهرين إلى العنف، تسمروا في أماكنهم وهم يواصلون الهتاف "يسقط يسقط حكم المصرف"، "سوليدير وسخة وسخة والنواب عنها نسخة"، "يا عسكر ليش منرفز الحرامية بالمجلس". كما رفعوا لافتات عديدة، منها جريء ومنها مضحك، ومنها ما عكس حقيقة هواجس اللبنانيين. كتب على إحدى اللافتات "نحن فرقة مكافحة الفساد"، وتضمنت أخرى عبارة "شنقتونا"، وأخرى "سرقتوا الشط وبلطتو البحر، لا تسوية على الأملاك البحرية". في حين وضعت إحدى المتظاهرات كيسا من النفايات على رأسها، ورفعت بين يديها ورقة خط عليها "الزعيم على راسي". وبقميص أبيض فضفاض و"كاسكيت" سوداء، وسيجاراً فاخراً بين الإصبعين، يظهر وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق في صورة ضخمة رفعت في التظاهرة، وإلى جانبه إحدى الجميلات. الصورة مأخوذة من رحلة الأخير السياحية إلى جزيرة "ميكونوس". كتب رافع الصورة، بخط عريض في أسفلها "إنت مولعها هونيك ومولعها هون، الأفضل تقعد ببيتك". ذلك المشهد لا يغيب عن أذهان اللبنانيين. لا بل رُسخ في ذاكرتهم. عدد كبير من المتظاهرين جسدوه في لافتات وشعارات حملوها، جاءت بمضامينها المتعددة، لتؤكد أن الشعب اللبناني يعرف خصمه جيدا، ويدري إلى أين يوجه أصابع الاتهام.ثم عادت الحملة وكررت مطالبتها بـ"استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، محاسبة من أطلق النار على المتظاهرين، تحرير أموال البلديات من الصندوق البلدي المستقل، وضع خطة صحية ومستدامة لحل أزمة النفايات، بالإضافة إلى استعادة الشرعية واجراء انتخابات نيابية". ولفتت الانتباه إلى أن "كل الشعب اللبناني ليس من طالبي الحرب ولكننا لا نخشى المواجهة. لذا فإننا لن نكون جزءً من مشروع أحد، لأننا مؤمنون بمشروعنا ببناء دولة مدنية عادلة".وأعلنت الحملة أن يوم الثلاثاء المقبل سيكون موعدا مبدئيا للتظاهر.

نحو الساعة 11 من ليل أول من أمس، خرج عناصر مكافحة الشغب من خلف الأسلاك، ركضوا خلفهم من دون أي مبرر، رافعين العصي وصارخين بهمجية بابشع واقذع العبارات ومتوعدين: «بدنا نعمل ونسوّي فيكن ... يا اولاد ...»

 

إيفا الشوفي - الاخبار

 

ميدان رياض الصلح يراكم يومياً منذ الثاني والعشرين من آب، مشاهد القمع الوحشية التي تمارسها القوى الأمنية، والاستخدام المفرط للعنف في خرق فاضح للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، التي تحد من استخدام القوة ضمن أوضاع الضرورة القصوى. وتثبت روايات الجرحى والمعتقلين، ان القوى الامنية لم تمارس ضبط النفس، ولم تتصرف بالتناسب مع جسامة المخالفة والغاية المشروعة المراد تحقيقها، لا بل انها لاحقت المتظاهرين الى منازلهم، والى وسائل النقل العام التي استخدموها للفرار. لم يستخدم حراس السلطة القنابل المسيلة للدموع ولا خراطيم المياه، فالهدف كان واضحاً: اضربوهم واعتقلوهم واسحبوهم من الشوارع وهم ينزفون. قالها أحد العناصر بوقاحة لأحد المتظاهرين وهو يبرحه ضرباً: «هذه هي حقوقك».

المشهد في الساحة كان ميليشيوياً، فشبيحة النظام «فلتوا»، والضحايا لم يتمكنوا من الهرب. وهذه روايات خمسة من الضحايا: أيمن مروة، 32 عاماً، أحد منظمي حراك «بدنا نحاسب» كان هناك مناوشات صغيرة بين بعض المتظاهرين والقوى الأمنية فأقمنا حاجزاً بينهم وتراجعت القوى الأمنية الى الخلف بعد التنسيق مع أحد الضباط. فجأة ومن دون أن يكون هناك أي شيء هجموا. الناس ركضوا من دون أن يعرفوا ما الذي يحصل. كان صراخ إحدى الفتيات يُسمع في الساحة «اتركونا»! توجهت الى هناك وكان عدد هائل من أفراد القوى الأمنية يحاصر 4 أو 5 متظاهرين ويبرحونهم بالضرب حتى فقدت الفتاة (نور عزالدين) وعيها.

بقي أيمن ينزف من الساعة الحادية عشرة حتى الواحدة ليلاً نقلناها سريعا الى سيارة الإسعاف. سمعت صراخ أحد الشباب الذين تحلّق حوله عشرات العناصر، توجهت اليهم وقلت لهم انني من المنظمين، فطلبوا مني ان اتراجع وإلا فسألقى المصير نفسه. بعد المفاوضات سمحوا لي بإخراج الشاب من الساحة، ركض الشاب خوفاً وبقيت وحيداً، فهجم أحدهم وصفعني، وفجأة أصبح هناك أكثر من 30 عنصراً حولي. أوّل 5 ضربات بالعصي كانت على رأسي فسقطت على الأرض وبدأ الركل على رأسي وضهري. استمروا على هذه الحال لمدة 5 دقائق، الى حين حضر الضابط وطلب مني أن أرحل. طلبت منه ان يمشي معي كي لا يتعرضوا لي، لكنه رفض. حالما مشيت ركض 7 عناصر من مكافحة الشغب والدرك باتجاهي وبدأوا بضربي، فحضر الضابط مجددا وطلب مني أن ارحل ومشى معي حتى جامع الأمين. كانت الدماء تغطي وجهي، إلا انّ هذا لم يردع أحد العناصر عن أن يصرخ «لوين رايح، رح تضل معنا الليلة». وضع الأصفاد في يدي، وطلبوا مني أن أرجع وحيداً من جانب مسجد الأمين الى شارع المصارف. «ما في دركي ما خبّطني. يجو يضربوني بالعصي يخلعوني كفوف، ما حكيت شي». نُقل أيمن الى فصيلة طريق الشام وهو ينزف. لم تنفع طلباته بنقله الى المستشفى. بقي ينزف من الساعة الحادية عشرة حتى الواحدة ليلاً. قال لهم إنه يشعر بدوار ولم يعد بإمكانه أن يرى جيداً، لكنهم أصروا على التحقيق معه وأخذ إفادته. دخل الصليب الأحمر بعد ساعات لتضميد جراحه وأخبروا القوى الأمنية انه يجب نقله فوراً الى المستشفى خوفاً من نزيف داخلي في رأسه، لكنهم رفضوا قبل الانتهاء من التحقيق معه! تمزّقت عضلات أيمن نتيجة الضرب، وقُطّب رأسه وجُرحت عينه.

فيديل شقير، 21 عاماً، طالب إدارة أعمال، أحد منظمي حراك بدنا نحاسب

كان هناك فتاة تصرخ على الأرض في منتصف الساحة وأحد العناصر يضربها بالعصا على قدميها. حاولت أن أساعدها فما كان من العنصر إلّا أن أدار عصاه ووجه الضربة مباشرة على عيني فوقعت أرضاً على الفور. بعد ذلك لم أعد أعرف من أين تأتي الضربات على رأسي وظهري. عندما رأوا عيني تنزف تراجعوا ونقلني المتظاهرون إلى مستشفى الجامعة الأميركية. أُجريت عملية لعين فيديل وتطلّب الأمر 3 قطب داخلية له. يحتاج إبن الواحدة والعشرون عاما إلى عشرة أيام ليلتئم جرح عينه، وليتبيّن إذا كان نظره سيعود سليماً او لا، نتيجة عنف السلطة.

محمد غبريسي: 21 عاماً، طالب سينما

كان مشهداً مهولاً. حاصرنا نحو 30 عنصراً من مكافحة الشغب والدرك وانهالوا علينا بالضرب على الرأس والقدمين. قلنا لهم أنّ هناك جريحة بيننا لكنّ ذلك لم يردعهم على الإطلاق. نقلنا الجريحة الى سيارة الإسعاف وحاولنا أن نخرج من الساحة فلحقني 15 عنصراً وانهالوا عليّ بالضرب. تمكنت من الهروب منهم وطوال المسافة من ساحة رياض الصلح حتى السينما القديمة كان العناصر يضربونني بالعصي. هناك إصابات وجروح في وجهي، إضافة الى رضّات في كل أنحاء جسدي. مشاهدات مسعفة في

ساحة رياض الصلح

شعرنا بأننا في ساحة حرب! تجمّع كل 20 عنصراً على متظاهر ومتظاهرة وضربوهم على رؤوسهم. كان هناك شاب يرتدي قميصا أبيض، ركض باتجاه سيارة الإسعاف ليهرب منهم، لكنهم تمكنوا من الإحاطة به. إمتلاً وجهه بالدماء وهو يصرخ «انا بعبدكن بس تركوني»! لم يتوقفوا عن ضربه ومنعونا من التدخل. كان الضرب يرمي الى الحاق الأذى بالمتظاهرين لا إبعادهم، لأنهم كانوا يلحقون بالذين يهربون ويحاولون أن يعتقلوا الجميع ومنعهم من الوصول الى سيارات الإسعاف. ليل السبت كانوا يطلقون رصاصاً مطاطياً عن قرب باتجاه المتظاهرين، وعندما يقعون على الأرض «يضلن يقوصوا عليهن!!». كان هناك اشخاص تلقّوا 7 رصاصات في أجسادهم. تقول المسعفة «لم يعرف المتظاهرون إلى أين يهربون، كان المشهد مرعباً. البعض اختبأ في الحفرة التي فيها آثار في ساحة الشهداء، لكنهم لحقوا بهم الى هناك».

غسان ديبة - الاخبار

 

”إن القديم يموت والجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر العوارض الرهيبة“ أنطونيو غرامشي

 

عندما دخلت الدبابات الأميركية الى بغداد في نيسان 2003، ظن الكثيرون أن الآتي الى العراق هو عهد الديموقراطية الليبرالية وأن الولايات المتحدة الأميركية ستطبق ما طبقته في اليابان وألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أنشأت المؤسسات السياسية والدستورية للتحول الى الديموقراطية.

 

انخدع هؤلاء بادعاءات الولايات المتحدة بأنها دولة تضع الأخلاق السامية ونشر الديموقراطية كأهداف في حروبها العسكرية الإمبريالية منذ فييتنام الى العراق. أما البعض الآخر فظن أنه احتلال أميركي طويل الأمد للاستيلاء على النفط ولبناء قاعدة عسكرية متقدمة في الشرق الأوسط. خابت آمال أصحاب النظريتين، فالعراق الآن حر من الاحتلال والأميركيون لم يسرقوا النفط ولا هم أصلاً كانوا في وارد التحول الى قوة استعمارية على الطريقة القديمة.

لكن ما فعله الأميركيون كان أسوأ بكثير، فهم بدأوا منذ اللحظة الأولى في إرساء نظام يسعى الى الفيدرالية (وهو شكل لا بأس به من التنظيم السياسي للدول المتعددة الإثنيات والمذاهب)، إلا أنه رسخ الانقسامات الإثنية والمذهبية عبر إقامة نظام تحاصصي طائفي بعيد كل البعد عن الديموقراطية العلمانية الليبرالية. كل هذا حصل تحت الغطاء الأيديولوجي لمفهوم حرب الحضارات الذي تبناه المحافظون الجدد آنذاك كنظرة الى العالم. فنهاية التاريخ بالنسبة إلى الذين يؤججون الصراعات الإثنية والطائفية ليست واحدة كما نظر ماركس وفوكوياما، بل مختلفة لأنه إذا كانت الحرب أو الصراعات دينية وإثنية ومذهبية، فإن التنظيم السياسي يجب أن يأخذ نفس شكل هذه الحروب، وهذا ما أرساه الأميركيون في العراق. اليوم، ينتفض الشعب العراقي بقواه الحية والعلمانية بمشاركة قوية لليسار والحزب الشيوعي العراقي ليقول للنظام التحاصصي الفاسد إن الشعب في البلد الذي يحتوي على ثروات طبيعية هائلة وشباب متعلم وتاريخ من التطور الاقتصادي لن يقبل بأن يصبح فقيراً وضحية للصراعات المذهبية والإرهاب، بينما تتحكم قلة بالسلطة والثروة تحت غطاء التوزيع السياسي بين الطوائف والإثنيات. في لبنان، أقر اتفاق الطائف عام 1989 ليحول النظام السياسي من حكم المارونية السياسية التي انهارت في الحرب الأهلية الى حكم تحاصصي طائفي. وتزامن ذلك مع ترسيخ نظام اقتصادي يعتمد على استدانة الدولة من المصارف بدلاً من تمويل الحاجات الإعمارية والتوزيعية الطائفية من الضرائب المفروضة على الثروة والأرباح والمداخيل العالية كما يحصل دائماً في الدول بعد الحروب. انخدع اللبنانيون لفترة، وخصوصاً في التسعينيات، وظنوا أنهم دخلوا جنة العدل الطائفي وأن الراسمالية الجديدة التي نظّرت لها الماكينة السياسية والإعلامية الحريرية ستجعل الجميع يستفيدون من النمو الاقتصادي وأن اللبنانيين سيصبحون من أغنى شعوب المنطقة. بعد عقدين ونيف على الطائف، تكشفت الأكذوبة الكبرى. اليوم، النظام في أزمة كبرى. فالصراعات الطائفية التي عادت للتأجج شلّت الدولة وهي غير قادرة على إتمام أصغر المهمات من التعيينات، مروراً بالنفايات، وصولاً الى القضايا الكبرى مثل الإصلاح الدستوري وإجراء الانتخابات. والسبب في ذلك أن الطائف الذي وزع السلطة السياسية بين الطوائف ووضعها في مجلس الوزراء مجتمعاً أعطى حق «الفيتو» الفعلي وإن لم يكن القانوني للطوائف في كل شاردة وواردة في الحياة السياسية. وبسبب الترابط بين نظام الطائف واستعمال الدولة كآلة توزيع اقتصادي تحاصصي بين الطوائف، فقد تعمقت أزمة هذا النظام مع انتهاء فترة الفورة الاقتصادية في التسعينيات وتعمق الأزمة المالية للدولة، إذ فقدت الطوائف ولو جزئياً مالية الدولة التوزيعية. كما أدت عودة ممثلي المسيحيين الى الحكم عبر التيار الوطني الحر، الذي تحول من تيار يدعو الى الإصلاح والتغيير والعلمنة الى تيار شعبوي يميني يسعى الى مواقع في التحاصص الطائفي، الى صراعات أكبر داخل نظام الطائف وصلت الى حد التصارع حول الثروة النفطية المزعومة، قبل حتى أن يتم اكتشافها فعلياً. في الوقت نفسه، تجذرت الأزمة الاقتصادية واستفاق اللبنانيون ليكتشفوا بأن الرأسمالية اللبنانية ما هي إلا رأسمالية ريعية تخدم فئة قليلة من اللبنانيين. فبدلاً من أن يعيشوا في جنة اقتصادية كما وُعدوا في التسعينيات، فهم الآن يعيشون في خضم البطالة وضغط الدين العام للدولة والدين الخاص للمؤسسات والأفراد وهجرة الشباب المتعلم وعدم النمو الاقتصادي وسوء توزيع الدخل والثروة والضرائب التي تثقل كاهل الطبقات العاملة والمتوسطة ومعضلة السكن التي تطاول المستأجرين القدامى والجدد والمالكين الجدد بالدين وأسعار الخدمات العامة المرتفعة وانهيار البنى التحتية من مياه وكهرباء ومعالجة النفايات، فقرروا أن يقولوا كلّا مدوّية للواقعين الطائفي والاقتصادي اللذين تسيطر عليهما القلة التي أصبحت من الماضي، ولكن المستقبل وبشائره لم تتضح بعد. فنحن نعيش الآن مفصلاً تاريخياً كبيراً، فإما أن يتحول لبنان الى بلد الزومبي المافيوي تملأه الوحوش الطائفية الرهيبة أو أن يعمل الشعب على تغيير النظامين السياسي والاقتصادي لينتقل لبنان الى الجديد المتحرر من أشباح الرجعية والظلامية والطائفية.

تكتيكات القوى الأمنية في وصف قسم من المتظاهرين على أنه «مخرِّب» أو «مندسّ» لم ينجح بعد، ولا يبدو أنه سيردع المواطنين عن المشاركة في تحرك يوم السبت المقبل، الذي يتوقع أن يكون حاشداً، ويشارك فيه جميع المجموعات التي تنشط منذ 22 آب، ويبدو أن عنف السلطة سيكون محفّزاً للكثيرين ليكونوا جزءاً من الحراك الشعبي ضد السلطة السياسية

 

حسين مهدي - الاخبار

 

أكدت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، أمس، غير مرة «احترامها الكلّي لحق المواطنين في حرية التعبير والتظاهر السلمي». هذا الاحترام ترجمته اعتقالاً لأكثر من 80 متظاهراً في وقت متأخر من ليل أول أمس، توزعوا على مخافر قوى الأمن ومركز لمخابرات الجيش، إضافة إلى عشرات الجرحى، جراء الاعتداء الهمجي والممنهج ضدهم.

«النظام يخشى أي تحرك شعبي، يخاف نزول الفقراء الذين يعانون من كل هذا الفساد الذي تمارسه السلطة، يخشى منهم فيعمل على الاعتداء عليهم». الكلام لأيمن مروة، الناشط في حملة «بدنا نحاسب» الذي تعرض أمس للاعتداء الوحشي من قبل القوى الأمنية وعناصر مكافحة الشغب، واعتُقل ثم أُفرج عنه في الليلة نفسها. جريمته أنه كان يقف حاجزاً بين القوى الأمنية والمتظاهرين لتجنب أي صدام بين الطرفين. مروة قال إن «معركتنا ليست مع القوى الأمنية، بل مع السلطة التي لا تستطيع أن توفّر الحد الأدنى من حقوق للمواطنين بكل أطيافهم وفي كل المناطق. وإن أزمة النفايات وأزمة الكهرباء وكل الأزمات الحياتية والاجتماعية لا تتعلق بفئة معينة أو منطقة معينة أو طائفة معينة». ودعا مروة «كل مواطن إلى أي حزب أو طائفة انتمى، إلى المشاركة في هذه التظاهرات»، سائلاً: «كيف يمكن جماهير الأحزاب السياسية ألّا تنزل وتشارك بموقف واحد أو كلمة واحدة، وتطالب بحقوقها، وترضى العيش بكل هذا الذل؟».

كلام مروة جاء خلال مؤتمر صحفي عقدته حملة #بدنا_نحاسب في ساحة رياض الصلح، لشرح ما حدث أول أمس من اعتداء وحشي مقصود على المتظاهرين. فبعد أن توقف أول أمس البث المباشر من قبل محطات التلفزة، طوّق عناصر من الجيش اللبناني المداخل المؤدية إلى وسط المدينة، ثم باشرت القوى الأمنية وعناصر مكافحة الشغب بالاعتداء بشكل همجي على ما بقي من متظاهرين.

وتؤكد معلومات مسربة، أن الأوامر بالضرب التي أعطيت لقوى الامن الداخلي، لم تأت على خلفية عمليات تكسير وحرق قام بها «مخربون» بحسب ما حاولت أن تشيع، خاصة أنها كانت تكتفي بتصوير هذه الحوادث كما لو أنها تنتج فيلماً وثائقياً. تحاول القوى الأمنية أن تربط بين الهمجية التي مارستها على المتظاهرين وبين أعمال الشغب، وهذا ما يشير إليه الاستهداف المباشر لمنظمي الحراك الشعبي والصحفيين والمواطنين الذين يثابرون يومياً على الحضور إلى ساحة رياض الصلح، هذا وقد أجبرت القوى الأمنية المعتقلين على إجراء فحوصات مخدرات، في محاولة فاضحة لتشويه صورة الحراك ومنظميه. وتجدر الإشارة إلى أنه أُفرج عن قسم كبير من المعتقلين في مخافر الباشورة والروشة وميناء الحصن وفصيلة الشام، أما المعتقلون لدى مخابرات الجيش، فلا أحد يعرف شيئاً عن حالهم، ومن بينهم قاصرين، يخضعون حالياً للتحقيق من قبل مكتب مكافحة الشغب لدى فرع مخابرات الجيش. أما باقي المعتقلين، فيتوقع تحويلهم إلى المحاكمة أمام المحكمة العسكرية بعد ختم محاضر التحقيق معهم.

انتهاكات القوى الأمنية

حملة #بدنا_نحاسب أعلنت نيتها رفع دعاوى قضائية «على كل من تعرض لنا بالاعتداء من القوى الأمنية، لمحاسبتهم على قمع المتظاهرين»، خاصة أن الكاميرات الموجودة في المنطقة والفيديوهات التي نشرها عدد من المواطنين وثّقت هذه التجاوزات. وقد طلبت الحملة من جميع الذين تعرضوا للاعتداء توكيل المحامين الذين تطوعوا للقيام بهذه المهمة. المحامية رانيا غيث تشرح لـ»الأخبار» سلسلة من التجاوزات التي قامت بها القوى الأمنية، فتقول إن حدود تدخلها إن وجدت هناك إخلالاً أو تهديداً للنظام العام، وهذه أساساً ليست حال مساء أول أمس، لا يمكنه أن يصل إلى حد التعرض لحياة المواطنين، وهذا التجاوز الذي قامت به السلطة مقصود لترهيب الناس من جهة وجعلهم في مواجهة القوى الأمنية من جهة ثانية، وفق ما تقول غيث. التجاوزات لا تختصر بالاعتداء على المتظاهرين، بل في مرحلة اعتقالهم. فقد منع عدد من المعتقلين من التواصل مع ذويهم ومن التواصل مع أي محامٍ، كذلك جرى ابتزازهم من خلال إجراء فحص مخدرات على نفقة المعتقل نفسه، ومن رفض الخضوع لهذا الفحص، لأسباب مادية، هدد باتهامه بتعاطي المخدرات. وهناك انتهاك آخر يتمثل بتوجه القوى الأمنية إلى المستشفيات لأخذ أسماء الجرحى، والطلب من أحد الحرجى إجراء الفحص مباشرة من المستشفى، وإلا يُلقَ القبض عليه بتهمة تعاطي المخدرات. مخالفة أخرى تسجل على مخابرات الجيش اللبناني، التي ترفض التصريح عن المعتقلين لديها، كذلك يفترض بها بحسب القانون إحالة هؤلاء المعتقلين مباشرة إلى أقرب مخفر للمكان الذي جرت فيه عملية الاعتقال. تجاوز آخر للقوى الأمنية تمثّل بالاكتفاء بتصوير بعض أعمال الشغب، دون أي تدخل لردعها، ولا يعني ردع هذه الأعمال استخدام العنف كوسيلة، إلا أن القوى الأمنية أصرت على التفرج على ما يحصل، رغم أن مسؤوليتها الأساسية حماية المتظاهرين. وتتحدث رانيا عن أن في كل ما حصل من تجاوزات، هناك انتهاك خطير وجسيم للحريات العامة والحق في التظاهر. ويزور اليوم وفد من المحامين المدعي العام التمييزي، لسؤاله عن سبب التأخر والمماطلة في إصدار قرارات إخلاء السبيل، إضافة إلى توجيه رسالة للقضاء بأن التظاهر هو حق، واجب على السلطة القضائية حمايته، لا أن تكون شريكة في قمعه.

مسيرة تضامنية مع محمد قصير

نظمت أمس مسيرة عند الساعة السادسة مساءً من ساحة رياض الصلح إلى مستشفى الجامعة الأميركية للتضامن مع الجريح محمد قصير، تخللته كلمة ألقتها الناشطة وفاء العريضي لفتت فيها إلى أن «البلد مقسوم اليوم إلى قسمين: الشعب وتجار السياسة»، وقالت العريضي إن الحملة لا تؤمن بالفوضى، «لكننا لا نؤمن بأنّ هناك نظاماً في الأساس»، داعياً إلى المشاركة الكثيفة في التحركات الشعبية، وبالأخص تحرك نهار السبت. وكانت هناك كلمة لأحد أفراد عائلة قصير، شكرت فيها جميع المتضامين. والجدير ذكره أن حالة قصير الصحية «حرجة جداً» إلا أنها مستقرة، وفق ما يشير مصدر طبي. كذلك قامت حملة «طلعت ريحتكم» التي غابت عن تحركات اليومين الماضيين، بمبادرة إضاءة شموع في ساحة رياض الصلح مساءً تضامناً مع الجرحى القابعين في المستشفيات. وفيما لا يزال العديد من النشطاء يسعون إلى توحيد جهود مختلف الحملات والمجموعات التي تنشط بشكل مكثف منذ تظاهرة 22 آب، يبدو واضحاً أن هناك فصلاً تاماً بين تحركات الحملتين الأبرز «طلعت ريحتكم» و «بدنا نحاسب»، لكن مصادر متابعة للجهود التنسيقية أكدت أن الجميع سيكون حاضراً في التظاهرة التي ستقام عند السادسة من يوم السبت المقبل، والتي لا يزال مسارها غير معلن لأسباب أمنية ولوجستية.

السفير

أكد عضو حملة "بدنا نحاسب" أيمن مروّة، وهو أحد الشباب الّذين تعرضوا للاعتقال والضرب في تظاهرات يوم أمس في "رياض الصلح"، "أنني كنت أحاول أن أحمي المتظاهرين وأن أقف حاجزاً أمام كي لا تعتدي قوى الأمن على المواطنين"، مشيراً إلى "أنني كنت امسك السياج الشائك بين قوى الأمن والمتظاهرين وكنت أحاول رد المتظاهرين عنهم، كما كنت أحمل الميكروفون واطلب من الناس الابتعاد".وأشار، في مؤتمرٍ صحافي  في "رياض الصلح"، إلى "أنّ عدد الموقوفين وصل أمس إلى 90 شخصاً"، لافتاً الانتباه إلى "وجود عدد كبير من الأشخاص في عداد المفقودين حيث لا يعرف عن مكان تواجدهم"، ومطالباً بـ"الإفراج الفوري عنهم".وأكد مروّة أنه سيرفع "دعوى على كلّ الّذين اعتدوا علينا بالضرب"، مشيراً إلى "توثيق الكاميرات لكل الّذين اعتدوا"، وداعياً "كل الّذين تعرضوا للضرب إلى الإقدام على هذه الخطوة". كم دعا الى "التوجه الفوري إلى ثكنة الحلو للمطالبة بالإفراج عن الموقوفين". واعتبر أنّ "هذا النظام وضعنا أمام معادلتين، إما المطالب والحقوق، أو الاستقرار والأمن"، مؤكداً أنّ "معركتنا ليست مع قوى الأمن بل مع هذا النظام"، ومشدداً على أنّ "هذا النظام أثبت أنه يخشى أي حراك شعبي، سلمي أو تصعيدي". ووجه دعوة إلى أي شخص ينتمي إلى أي طائفة أو حزب بـ"الانسلاخ عن قيادتهم"، سائلاً إياهم "كيف لا تزالون صابرين على هذا الواقع"؟ورفض مروّة الحديث عن مندسين، معتبراً أنّ "هذا الكلام هو أذية للتظاهرة، وهو عن سابق إصرار وتصميم". وأكد "الاستمرار بهذا التحركات وعدم التوقف"، مشيراً إلى "أننا نحاول قدر الإمكان الحفاظ على الشكل والمضمون، ولكن لا نستطيع أن نضمن غضب الناس في الشارع". كما دعا إلى "تجمّع اليوم الساعة السادسة مساءً في رياض الصلح ثمّ تنظيم مسير إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث يمكث الشاب محمد قصير الّذي تعرض للإصابة منذ يومين خلال المظاهرة".إلى ذلك، تقدم مروّة بـ"اعتذارٍ كبيرٍ من أهالي العسكريين المخطوفين الّذين يعتصمون في رياض الصلح لما ضرر معنوي ومادي خلال تظاهرة الأحد"، متمنياً من "الشباب المتظاهر بالتعويض على الأهالي بحسب الإمكانيات المتاحة". بدوره، أكد حسين يوسف، والد أحد العسكريين المخطوفين، قبوله اعتذار المتظاهرين، متمنياً بأن "يطالب المتظاهرون بالعسكريين لأنهم الضمانة الوحيدة"

حسين مهدي - الاخبار

 

بعد أحداث اليومين الماضيين، لم تعد «طلعت ريحتكم» حملة، بل باتت حالة شعبية في أيدي الناس الذين لم يخرجوا من ساحة رياض الصلح منذ السبت. في المقابل، تسعى السلطة السياسية جاهدة لفض هذا الحراك الشعبي بأي ثمنٍ كان، واستغلت أمس غياب البث المباشر من قبل محطات التلفزة للاعتداء، بوحشية، على مواطنين وصحافيين، محاولة في الوقت عينه استغلال حسابها على موقع تويتر لتحويل نفسها الى ضحية «المخربين». تركت القوى الأمنية مساء أمس عدداً من الشبان يحرقون ويكسّرون عدداً من الممتلكات العامة والخاصة (تعود لشركة «سوليدير» التي استملكت وسط المدينة بطريقة غير شرعية) بالقرب من ساحة رياض الصلح. وعوض أن تبادر الى إيقاف ما يحصل مباشرة، وقفت متفرجة وكأنها تتفهم غضب هؤلاء الشبان. اكتفت بادئ الأمر بتصوير الحدث كأي وسيلة إعلامية أرسلت مصورها الصحافي. ولتكتمل المشهدية التي تريد قوى الأمن إظهارها للرأي العام، نشرت الصور على حساب قوى الامن الداخلي على موقع «تويتر»، مرفقة بجمل مثل «مشاهد محزنة من التخريب الذي افتعله المشاغبون في وسط بيروت»، معلنة اعتقال عدد من هؤلاء.

واللافت أن عدداً من المواقع الاخبارية، وبفعل غياب لافت ومستغرب لأي بث مباشر من قبل أي وسيلة إعلامية، تبنّت رواية قوى الأمن الداخلي، مستخدمةً مصطلح «المشاغبون» نفسه. وقد بقي حساب قوى الأمن ناشطاً يبث صور «التخريب» حتى ساعات ما بعد منتصف الليل، فما الذي كان يحصل خلال نشر هذه الصور؟ هرب الشبان الذين قاموا ببعض أعمال الشغب وتواروا عن الأنظار، بفعل تساهل القوى الامنية في التعامل معهم، ليقوم بعد ذلك العناصر الأمنيون بفض ساحة رياض الصلح من المعتصمين بطريقة «مرعبة»، حيث لاحقوا الناس العزل في الشوارع وأبرحوهم ضرباً، على ما يفيد شهود العيان، علماً بأن الشبان والشابات الذين تعرضوا للضرب هم من منظمي الحراك ممن كانوا يسعون لتهدئة الأوضاع طوال الوقت منعاً لأي اشتباك، ومن الصحافيين الذين كان وجودهم في المكان مزعجاً للعناصر الأمنيين الذين وصفوهم بـ»الخنازير». وسقط ما لا يقل عن 7 جرحى في صفوف المعتصمين، نقلوا الى المستشفيات المجاورة. الاعتقال شمل كل من أيمن مروة وسامي موسی، الناشطين في اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني، علماً بأن مروة كان من الشبان الذين شكّلوا منذ صباح أمس حاجزاً بشرياً بين المعتصمين وقوى الأمن لتهدئة الشبان الغاضبين لكي لا تتطور الأمور بشكل دراماتيكي، على غرار ما حصل نهار الأحد. وقد وثّق أكثر من فيديو مصوّر اعتداء القوى الأمنية على مواطنين عزل. ويظهر في أحد هذه الفيديوات استفراد 20 عنصراً من مكافحة الشغب بمواطن!

الاعتقال شمل أيمن مروة وسامي موسی الناشطين في اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني وكتبت إحدى الصحافيات تجربتها على صفحتها على «فايسبوك»، فقالت «القوى الامنية فضّت ساحة رياض الصلح بطريقة مرعبة بعنفها. بنات أكلت خبيط ليوم الخبيط. تصرخ تقول صحافة متل إجرن. أكتر من عنصر هني وهاجمين بيصرخوا: وين المتظاهرين المنايك يا لواط. انته خرج تتظاهروا انته خرج....». أحد الصحافيين قال لهم: «أنا صحافي»، ردّو عليه: «صحافة خنازير». ما قامت به القوى الامنية لم يأت وليد اللحظة، فعند بدء توافد المواطنين بشكل كثيف ابتداءً من الساعة السادسة مساءً، لم يحتمل عناصر مكافحة الشغب اقتراب عدد من الشبان المتحمسين من المدخل المؤدي الى حديقة السراي الحكومي (من جهة شارع المصارف) حتى بادروا الى الركض ناحية المتظاهرين وضربهم بالهراوات بشكل همجي وعشوائي، وفي نفس الوقت الذي كانت فيه القوى الأمنية تلعب دور الضحية عبر حسابها على «تويتر»، بالإشارة الى تعرضها للاعتداء من قبل المتظاهرين! أكثر من ذلك، اتهمت القوى الأمنية أيضاً وسائل الاعلام بتحريض المواطنين على الاعتداء عليها. ممارسات القوى الأمنية أدّت الى حال من التوتر في ساحة رياض الصلح، تخللها بعض عمليات الكر والفر بسبب إقدام عدد من الشبان على رمي عبوات ماء بلاستيكية فارغة أو «فرقيع» يصدر القليل من الصوت على عناصر مكافحة الشغب والقوى الأمنية التي يبدو أنها لا تستطيع «ضبط أعصابها»، وأزعجها هذا الفعل الذي لا يرقى الى أعمال الشغب. لكن هذا العنف المفرط في الرد على «عبوة بلاستيكية» لم يدفع المتظاهرين إلى الخروج من الشارع في وقت مبكر وفق ما يتمنى العناصر الأمنيون. بدا الناس مصرون أمس على البقاء في الساحة أكثر وقت ممكن، مقتنعين تماماً بأن ما يحصل تسبّبه القوى الأمنية نفسها بأوامر من القوى السياسية التي تحاول تشويه صورة الحراك، وإلا لمً استهدفت القوى الامنية منظمي الحراك واعتدت عليهم.

سقط جدار العار

جدار الفصل الذي بنته السلطة السياسية خوفاً من شعبها، تحوّل بعد ساعات قليلة من وضعه الى لوحة مليئة برسوم وشعارات «إسقاط النظام» و»الثورة» وغيرها من الشعارات والشتائم بحق النواب والوزراء ووزير الداخلية وغيرهم. السلطة السياسية مرتبكة وفي حال من التخبّط. يأمر وزير الداخلية بوضع سور إسمنتي محاذي للسراي الحكومي، ثم يطلب رئيس الحكومة إزالته في اليوم التالي. وزير البيئة يعلن نتيجة فضّ عروض المناقصات، لتعود الحكومة وتلغيها. كل ذلك يحصل في ظل إصرار القوى الأمنية وعناصر مكافحة الشغب على استخدام القوة المفرطة مع المواطنين لليوم الثالث على التوالي. والجدير ذكره أن مناطق لبنانية عدة، مثل النبطية وبعلبك وضهر العين (البقاع الغربي) وعكار، قد شهدت تحركات احتجاجية عند الساعة السادسة، بدعوة من مجموعة #بدنا_نحاسب.

عماد الزغبي -السفير

غاب الصخب الذي شهدته ساحة رياض الصلح في اليومين الماضيين، وحلت العقلانية والواقعية والحراك السلمي. غابت المفرقعات النارية، وقذف زجاجات المياه الفارغة، والغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه، وأستبدلت بهتافات مطالبة بإسقاط الطبقة السياسية، وإزالة «جدار السرايا الحكومية». غاب مثيرو الشغب، ونزلت منظمات المجتمع المدني للتعبير عن وجع وألم الشعب اللبناني.اكتفى المعتصمون بإطلاق الصوت عالياً للمطالبة بمحاسبة المسؤولين، وإجراء تحقيق سريع بما حصل في اليومين الماضيين مع المتظاهرين، نافضين أيديهم من المندسين ومثيري الشغب الذين أشعلوا ساحة رياض الصلح ومحيطها، ليحل محلها، إضاءة الشموع تكريماَ للجرحى الذين سقطوا، والدعاء بالشفاء للجريح محمد قصير الراقد في المستشفى.من أمام «قصر العدل»، نُفذ اعتصام عند السادسة مساء أمس، بدعوة من «اتحاد الشباب الديموقراطي» في إطار حملة «بدنا نحاسب» للمطالبة بمحاسبة المسؤولين الأمنيين والسياسيين، «بعد القمع الوحشي للمتظاهرين من قبل القوى الأمنية وبعد إصابة العشرات من المتظاهرين»، وللتأكيد أن التحرك مستمر من أجل «إسقاط الطبقة الفاسدة في كل الساحات والمناطق».صدحت الحناجر، والتهافات «يلا يلا ع الشارع تنجيب الحق الضايع» و «إلى الأمام بدنا نحاسب النظام». وعبَّر المعتصمون عن رفضهم لما حصل من تجاوزات، وتعطيل وهج التحرك الشعبي داعين إلى محاسبة «من فرَّق بين القوى الأمنية والشعب».لم ينس المعتصمون محمد قصير، فرفعوا صورته وهو مضرج بالدماء «كل قطرة دم سقطت من محمد قصير، سوف تكون زيت قناديل للحرية».يؤكد أمين عام «اتحاد الشباب الديموقراطي عمر ديب لـ «السفير» أن «التحرك السريع» جاء «بعدما لمسنا تراجعاً في محاسبة المسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين، وتأجيل المدعي العام سمير حمود جلسة الاستماع للشهود (بدأت التحقيقات ليل أمس)».يشدد ديب على أن تحرك «بدنا نحاسب» جمع مكونات شبابية عدة، من دون التوافق مع حملة «طلعت ريحتكم». يقول: «لم نستطع التوافق مع الحملة للمشاركة في الاعتصام، لأنهم خافوا من أي حراك معاكس»، مرجحاً أن يكون «الحراك الكبير يوم السبت المقبل، وأن تكون مسيرة أكثر من تجمع».وألقت عضو حملة «بدنا نحاسب» حلا سليمان، بياناً طالبت فيه «بمحاسبة من أعطى الأوامر بإطلاق النار على المعتصمين وبإطلاق سراح جميع المعتقلين والتعهد بعدم ملاحقتهم لاحقاً، وبإحالة الملفات المتعلقة بالفساد والرشى التي ذكرها رئيس الحكومة تمام سلام في مؤتمره الصحافي أمس الأول، على النيابة العامة المالية، وإطلاق جميع المعتقلين، وعدم ملاحقتهم قانونياً».وأوضح الناشط في حملة «بدنا نحاسب» جورج عازار عن «استمرار الحراك في الشارع انطلاقاً من إيماننا بحقنا في ممارسة أشكال التعبير عن مظلوميتنا»، مشدداً على دور القوى الأمنية في حماية المتظاهرين سلمياً، وليس حماية السرايا الحكومية، مستغرباً كيف أن القوى الأمنية لم تردع أصحاب السيارات والدراجات النارية من المرور وسط المعتصمين في رياض الصلح.وقال متحدث باسم «شباب بيروت» المشارك في الاعتصام وجيه دامرجي: «لا نريد إسقاط الحكومة ولا مجلس النواب بل نريد انتخاب رئيس للبلاد». ورأى ان «على الطبقة السياسية أن تتعظ مما حصل من تجاوزات وأعمال تخريب»، لكنه شدد على «ضرورة الحفاظ على هيبة الدولة ومؤسساتها». مطالباً وزارة الداخلية «بإجراء تحقيق سريع بما حصل أمس الأول مع المتظاهرين السلميين».بعد اكتمال التجمع أمام «قصر العدل»، قرر المنظمون الانطلاق في مسيرة، في ظل تساهل وتسهيل من قبل القوى الأمنية للمسيرة، وسط إجراءات أمنية مشددة نفذتها وحدات من الجيش اللبناني عند مداخل العاصمة من جهة رأس النبع وصولاً إلى ساحة الشهداء والجسر المؤدي إلى برج الغزال، نزولاً في اتجاه ساحة رياض الصلح، التي وصلوها بعد مسيرة ساعة، وكان في انتظارهم، ناشطون من المجتمع المدني، واعتصام لـ «اتحاد المقعدين» الذي دعا للوقوف دقيقة صمت تضامناً مع الجريح محمد قصير.وقامت حملة «طلعت ريحتكم» بإضاءة الشموع، احتجاجاً على سقوط جرحى أمس الأول، وشارك الامين العام لـ«الحزب الشيوعي اللبناني» خالد حدادة، وعدد من الوجوه النقابية، إضافة إلى حشد من هيئات المجتمع المدني في الاعتصام، أمام «جدار السرايا»، وهتفوا رفضاً لـ «جدار العار» مؤكدين رفضهم له، وفي الوقت ذاته رفضهم إزالته، في حين عبَّر عدد من الشباب عن سخطهم من الجدار.واستمر الاعتصام حتى ساعة متأخرة من الليل، ثم شهد شارع المصارف عمليات شغب تخللها رشق القوى الأمنية بالحجارة، من دون تسجيل إصابات، فيما تم التأكيد على سلمية التظاهرة التي ستنطلق في ساحة رياض الصلح اليوم.

 

توقيفات.. والتحقيقات مستمرةأوضحت مصادر أمنية لـ «السفير» أن «عدد الموقوفين كان حتى قبل ظهر أمس نحو 32 شخصاً، تم تُرك معظمهم بعد استماع مفوض الحكومة القاضي داني الزعني إلى أقوالهم، وبقي نحو 12 شخصاً فقط قيد التوقيف، وننتظر قرار القاضي الزعني لتحديد إذا كان سيفرج عنهم أولاً»، مشيرة إلى أن «شعبة المعلومات» والشرطة القضائية تتابعان «التحقيق في الصوَر الملتقطة للأشخاص الذين قاموا بعمليات تخريب لملاحقتهم وتوقيفهم».وكان وزير الداخلية نهاد المشنوق قد أوضح أن المفتش العام لقوى الأمن الداخلي يقوم بإجراء «تحقيق مسلكي كامل لكل ما حصل منذ اللحظة الأولى، وهو موثق بالصوت والصورة وبشهادات العسكريين والمدنيين، وخلال 72 ساعة سيكون التقرير جاهزاً ويحدد المسؤوليات بشكل مباشر وسيتم عرضه أمام كل وسائل الإعلام، ولا أريد أن افترض مسبقاً أي نتيجة قبل صدور التحقيق».ورداً على سؤال عما إذا كان قد تمّ توقيف مثيري الشغب من خلال الصور التي التقطت لهم، قال المشنوق: «تم توقيف البعض منهم، ونحن ندقق في الصور لإلقاء القبض على الباقين، إنما هذه مسألة تتعلق أيضاً بيننا وبين القضاء ونسعى معه لإتمام القبض عليهم للتحقيق معهم».وفي السياق ذاته، أكد النائب العام التمييزي القاضي سمير حمود أنّ التحقيقات في شأن تظاهرة رياض الصلح، أمس الأوّل، ما زالت مستمرّة «ويتمّ تحليل الأشرطة بانتظار تقرير المفتش العام، والانتهاء من الاستماع لعدد من الأشخاص الذين جرى توقيفهم بغية تكوين صورة واضحة لما جرى».وأكد حمود لـ «السفير» إطلاق سراح «عدد من الموقوفين الذين تم الاستماع إلى إفاداتهم، وتبيّن أنّ لا علاقة لهم بالموضوع، فيما ما يزال عدد من الأشخاص قيد التوقيف لتورطهم». ونفى «وجود عناصر أمنيّة قيد الاحتجاز»، مشيراً إلى أنّ «جميع الإصابات التي وقعت خلال التظاهرة ناتجة عن رصاص مطاطي وليس رصاصاً حياً».

 

99 جريحاًأعلنت شعبة العلاقات العامة في قوى الأمن الداخلي، في بيان صدر أمس، أن «أعمال الشغب التي وقعت ليل الأحد في وسط بيروت أدت إلى سقوط 99 جريحاً من قوى الأمن الداخلي وإصابة عدد من المتظاهرين، وتضرر عدد كبير من المحال والمطاعم والمباني والمنشآت الطرقية وآليات عسكرية، وتوقيف 32 شخصاً من مثيري الشغب».أضاف البيان: «إن قوى الامن الداخلي تأسف للأحداث التي رافقت التحرك في بيروت، وتؤكد أن مهمتها هي حماية حق التظاهر السلمي للمواطنين الذين لا يلجأون الى استعمال العنف ولا يعتدون على الأملاك العامة والخاصة».

الأكثر قراءة