الشعب ضد التحاصص الطائفي

الشعب ضد التحاصص الطائفي
27 Aug
2015

غسان ديبة - الاخبار

 

”إن القديم يموت والجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر العوارض الرهيبة“ أنطونيو غرامشي

 

عندما دخلت الدبابات الأميركية الى بغداد في نيسان 2003، ظن الكثيرون أن الآتي الى العراق هو عهد الديموقراطية الليبرالية وأن الولايات المتحدة الأميركية ستطبق ما طبقته في اليابان وألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أنشأت المؤسسات السياسية والدستورية للتحول الى الديموقراطية.

 

انخدع هؤلاء بادعاءات الولايات المتحدة بأنها دولة تضع الأخلاق السامية ونشر الديموقراطية كأهداف في حروبها العسكرية الإمبريالية منذ فييتنام الى العراق. أما البعض الآخر فظن أنه احتلال أميركي طويل الأمد للاستيلاء على النفط ولبناء قاعدة عسكرية متقدمة في الشرق الأوسط. خابت آمال أصحاب النظريتين، فالعراق الآن حر من الاحتلال والأميركيون لم يسرقوا النفط ولا هم أصلاً كانوا في وارد التحول الى قوة استعمارية على الطريقة القديمة.

لكن ما فعله الأميركيون كان أسوأ بكثير، فهم بدأوا منذ اللحظة الأولى في إرساء نظام يسعى الى الفيدرالية (وهو شكل لا بأس به من التنظيم السياسي للدول المتعددة الإثنيات والمذاهب)، إلا أنه رسخ الانقسامات الإثنية والمذهبية عبر إقامة نظام تحاصصي طائفي بعيد كل البعد عن الديموقراطية العلمانية الليبرالية. كل هذا حصل تحت الغطاء الأيديولوجي لمفهوم حرب الحضارات الذي تبناه المحافظون الجدد آنذاك كنظرة الى العالم. فنهاية التاريخ بالنسبة إلى الذين يؤججون الصراعات الإثنية والطائفية ليست واحدة كما نظر ماركس وفوكوياما، بل مختلفة لأنه إذا كانت الحرب أو الصراعات دينية وإثنية ومذهبية، فإن التنظيم السياسي يجب أن يأخذ نفس شكل هذه الحروب، وهذا ما أرساه الأميركيون في العراق. اليوم، ينتفض الشعب العراقي بقواه الحية والعلمانية بمشاركة قوية لليسار والحزب الشيوعي العراقي ليقول للنظام التحاصصي الفاسد إن الشعب في البلد الذي يحتوي على ثروات طبيعية هائلة وشباب متعلم وتاريخ من التطور الاقتصادي لن يقبل بأن يصبح فقيراً وضحية للصراعات المذهبية والإرهاب، بينما تتحكم قلة بالسلطة والثروة تحت غطاء التوزيع السياسي بين الطوائف والإثنيات. في لبنان، أقر اتفاق الطائف عام 1989 ليحول النظام السياسي من حكم المارونية السياسية التي انهارت في الحرب الأهلية الى حكم تحاصصي طائفي. وتزامن ذلك مع ترسيخ نظام اقتصادي يعتمد على استدانة الدولة من المصارف بدلاً من تمويل الحاجات الإعمارية والتوزيعية الطائفية من الضرائب المفروضة على الثروة والأرباح والمداخيل العالية كما يحصل دائماً في الدول بعد الحروب. انخدع اللبنانيون لفترة، وخصوصاً في التسعينيات، وظنوا أنهم دخلوا جنة العدل الطائفي وأن الراسمالية الجديدة التي نظّرت لها الماكينة السياسية والإعلامية الحريرية ستجعل الجميع يستفيدون من النمو الاقتصادي وأن اللبنانيين سيصبحون من أغنى شعوب المنطقة. بعد عقدين ونيف على الطائف، تكشفت الأكذوبة الكبرى. اليوم، النظام في أزمة كبرى. فالصراعات الطائفية التي عادت للتأجج شلّت الدولة وهي غير قادرة على إتمام أصغر المهمات من التعيينات، مروراً بالنفايات، وصولاً الى القضايا الكبرى مثل الإصلاح الدستوري وإجراء الانتخابات. والسبب في ذلك أن الطائف الذي وزع السلطة السياسية بين الطوائف ووضعها في مجلس الوزراء مجتمعاً أعطى حق «الفيتو» الفعلي وإن لم يكن القانوني للطوائف في كل شاردة وواردة في الحياة السياسية. وبسبب الترابط بين نظام الطائف واستعمال الدولة كآلة توزيع اقتصادي تحاصصي بين الطوائف، فقد تعمقت أزمة هذا النظام مع انتهاء فترة الفورة الاقتصادية في التسعينيات وتعمق الأزمة المالية للدولة، إذ فقدت الطوائف ولو جزئياً مالية الدولة التوزيعية. كما أدت عودة ممثلي المسيحيين الى الحكم عبر التيار الوطني الحر، الذي تحول من تيار يدعو الى الإصلاح والتغيير والعلمنة الى تيار شعبوي يميني يسعى الى مواقع في التحاصص الطائفي، الى صراعات أكبر داخل نظام الطائف وصلت الى حد التصارع حول الثروة النفطية المزعومة، قبل حتى أن يتم اكتشافها فعلياً. في الوقت نفسه، تجذرت الأزمة الاقتصادية واستفاق اللبنانيون ليكتشفوا بأن الرأسمالية اللبنانية ما هي إلا رأسمالية ريعية تخدم فئة قليلة من اللبنانيين. فبدلاً من أن يعيشوا في جنة اقتصادية كما وُعدوا في التسعينيات، فهم الآن يعيشون في خضم البطالة وضغط الدين العام للدولة والدين الخاص للمؤسسات والأفراد وهجرة الشباب المتعلم وعدم النمو الاقتصادي وسوء توزيع الدخل والثروة والضرائب التي تثقل كاهل الطبقات العاملة والمتوسطة ومعضلة السكن التي تطاول المستأجرين القدامى والجدد والمالكين الجدد بالدين وأسعار الخدمات العامة المرتفعة وانهيار البنى التحتية من مياه وكهرباء ومعالجة النفايات، فقرروا أن يقولوا كلّا مدوّية للواقعين الطائفي والاقتصادي اللذين تسيطر عليهما القلة التي أصبحت من الماضي، ولكن المستقبل وبشائره لم تتضح بعد. فنحن نعيش الآن مفصلاً تاريخياً كبيراً، فإما أن يتحول لبنان الى بلد الزومبي المافيوي تملأه الوحوش الطائفية الرهيبة أو أن يعمل الشعب على تغيير النظامين السياسي والاقتصادي لينتقل لبنان الى الجديد المتحرر من أشباح الرجعية والظلامية والطائفية.

الأكثر قراءة