أعلن الأمين العام للأمم المتحدة في 13 أيار 2005 تعيين المدعي العام لمدينة برلين، ديتليف ميليس، رئيساً للجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. رحّبت قوى سياسية لبنانية يومها بذلك، وأشادت بمضمون التقريرين اللذين وضعهما، واللذين أشارا إلى ضلوع سوريا وحلفائها في لبنان في جريمة اغتيال الحريري. لكن ميليس كان قد اتهم سوريا وإيران بالضلوع بالإرهاب قبل نحو أربع سنوات من ذاك التاريخ (تشرين الأول 2001)، إثر مرافعته أمام محكمة ألمانية في قضية تفجير وقع في برلين عام 1986.ولدى مراجعة أعمال التحقيق التي قام بها، يتبين أن المنحى السياسي يطغى على الأسلوب الجنائي المحترف. وبدا ذلك واضحاً في التحقيق في جريمة تفجير برلين، ومن خلال تراجعه عن طلب توقيف محمد ع. الذي أقرّ محاميه بأنه عميل للموساد الإسرائيلي.بدأت القضية ليل الخامس من نيسان 1986 حين انفجرت عبوة ناسفة في لابيل ديسكو (Labelle Disco) في برلين. أودى الانفجار بحياة عنصرين من القوات المسلّحة الأميركية المتمركزة في ألمانيا الغربية وامرأة تركية، إضافة إلى مئات الجرحى.عشرة أيام بعد الانفجار، وفي مطلع التحقيق القضائي لتحديد المسؤولين عن الجريمة، أغار الطيران الحربي الأميركي، طبقاً لأوامر الرئيس الأميركي رونالد ريغان، على مدينتي طرابلس الغرب وبنغازي في ليبيا، ردّاً على تفجير برلين. أدّى القصف الأميركي إلى استشهاد ثلاثين شخصاً، بينهم أطفال.انطلق التحقيق الألماني، لكن لم تتمكّن السلطات القضائية من جمع الأدلّة وإدانة المتّهمين إلا بعد 15 سنة من التحقيقات المتواصلة. وشملت التحقيقات أشخاصاً مقيمين في لبنان. وتوصّل ميليس عام 2001، إلى النتيجة نفسها التي توصّل إليها الرئيس رونالد ريغان بعشرة أيام عام 1986. لكن لسوء حظّ ميليس في 2001، قرّر جورج بوش تخطي مرحلة اعتبار ليبيا دولة راعية للإرهاب وعدم احتسابها من بين دول «محور الشرّ» (إيران والعراق وكوريا الشمالية) أو الدول المتهمة بدعم الإرهاب (سوريا والسودان)، ما يفسّر عدم تعاون الأجهزة الاميركية تعاوناً كاملاً مع المحقّقين الألمان في قضية تفجير لابيل ديسكو. والدليل على ذلك إعلان القاضي الألماني بيتر مارهوفر لجريدة «يو أس إيه توداي» الأميركية (13 تشرين الثاني 2001) أن «المحكمة فشلت في إثبات أن القذافي كان وراء العملية؛ لأن أجهزة الاستخبارات الألمانية والأميركية رفضت تقديم الأدلّة الكافية لإدانته». لكن المحكمة الألمانية أدانت الفلسطيني ياسر الشريدي والليبي مصباح العتر واللبناني علي شنّع وزوجته السابقة الألمانية فيرينا، وعدّتهم جميعاً ضالعين بالجريمة. وصرّح ميليس يومها: «من نافل القول أن السلطات الليبية هي التي رتّبت الهجوم»، وهو تصريح يتطابق مع ما أدلى به الرئيس ريغان بعد ساعتين من بدء القصف على ليبيا، حيث قال في خطاب مباشر عبر شاشات التلفزيون إن لديه أدلّة «مباشرة ودقيقة وأكيدة» على تورّط ليبيا بعملية التفجير في برلين.قبل عرض التساؤلات عن عمل ميليس في قضية تفجير برلين، نتطرق إلى واقعتين كان قد كشف عنهما بعد سقوط حائط برلين عام 1989 من أرشيف ووثائق سلطات ألمانيا الشرقية المنحلّة:
غيرهارد ليمان رفض تقديم معلومات عن مصادره إلى المحكمة الألمانيةأولاً، تكشف ملفات وزارة خارجية ألمانيا الشرقية أن الإدارة الأميركية أبرقت إلى سلطات ألمانيا الشرقية قبل أيام قليلة من وقوع الانفجار محذرة من «مؤامرة» ليبية يُعَدّ لها. وكان الضابط المسؤول عن القوات المسلّحة الأميركية في برلين قد نبّه جنوده قبل ليلة الانفجار إلى اتخاذ الحيطة، وطلب منهم عدم التردّد إلى الأماكن التي يذهبون إليها عادة.ثانياً، تكشف سجلات الاستخبارات الروسية (ك. ج. ب.) أن العميل محمود أ.ج. ومعاونه محمد ع. هما من بين المخطّطين لعملية تفجير لابيل ديسكو.في أيار عام 1996، طلب ميليس توقيف ياسر الشريدي المقيم في لبنان، ونقله إلى ألمانيا للتحقيق معه على أساس أن الادعاء الألماني يمتلك معلومات كافية عن ضلوعه في عملية التفجير. وكان الشريدي يعمل سائقاً في السفارة الليبية في برلين الشرقية عام 1986.اعتقلت السلطات اللبنانية الشريدي وسلّمته إلى الألمان. وقال المدعي العام اللبناني آنذاك، القاضي منيف عويدات، لمجلّة «فرونتال» الألمانية إن «الأميركيين كانوا وراء طلب توقيف الشريدي». وأضاف مراد عازوري، بحسب المجلّة نفسها، أن القضاء اللبناني لم يحصل يومئذ على أدلّة تثبت تورّط الشريدي في الهجوم الإرهابي، ويقول إن المعلومات التي قدّمها الألمان كانت ترتكز على إشارات، لا على أدلّة واضحة.أُحضر الشريدي إلى ألمانيا وقدّم ميليس محاضرَ التحقيق إلى المحكمة للمباشرة بمحاكمته. لكن القاضي لم يجد الأدلّة كافية وأعرب عن نيّته إطلاق سراح الشريدي في حال عدم تقديم الادعاء مزيداً من الأدلّة خلال فترة زمنية لا تتعدّى ثلاثة أسابيع.في التاسع من أيلول عام 1996، رُتّب اجتماع عاجل في جزيرة مالطا حضره ميليس والمحقّق في الشرطة الألمانية أوفيه فيلهلمس وضابط من الاستخبارات الألمانية يدعى فينترشتاين ومصباح العتر الذي كان موظّفاًً في السفارة الليبية في برلين الشرقية عام 1986. وافق العتر بعد الاجتماع على إدانة الشريدي أمام المحكمة الألمانية بتهمة الضلوع في عملية التفجير مقابل العفو عنه في القضية. وسافر العتر إلى ألمانيا وقدّم إفادته أمام المحكمة قبل أن ينتقل إلى روما حيث اعتقل عام 2000 بعدما قرّرت المحكمة الألمانية توقيفه بتهمة الضلوع بعملية التفجير لعدم اعترافها بنتائج الاجتماع الذي عقد مع ميليس في مالطا عام 1996. اعتقلت الشرطة الإيطالية العتر وسلّمته إلى الألمان. وشرحت المتحدّثة باسم القضاء الألماني ميكاييلا بلومي يومها أن أسباب عدم اعتقال العتر مباشرةً بعد تقديم إفادته أمام المحكمة «ليست واضحة».بعد مرور أشهر قليلة على اعتقال مصباح العتر عام 2001، حكمت المحكمة الألمانية عليه وعلى الشريدي وشنّع وزوجته السابقة فيرينا بجريمة تفجير لابيل ديسكو عام 1986 وأقفلت القضية. وصرّح ميليس أمام المحكمة الألمانية في الرابع من تشرين الأول 2001 بأن الاستخبارات ووزارة الخارجية الليبية هما الجهتان المسؤولتان عن التفجير. وفي التصريح نفسه، شبّه ميليس ذلك التفجير الليبي في برلين بتفجيرات أخرى حصلت في الثمانينيات في أوروبا، واتهم سوريا وإيران بالضلوع فيها. كذلك اتهم ميليس ليبيا وسوريا وإيران بالضلوع في «إرهاب الدولة».لكن المفارقة أن الحكومة الألمانية كانت قد منعت مايكل شتاينر، معاون المستشار الألماني غيرهارد شرودر للسياسة الخارجية، والسفير الألماني السابق في واشنطن جرغن شتروبوك، من الإدلاء بإفادتيهما أمام المحكمة في قضية تفجير لابيل ديسكو. وكان شتروبوك قد كتب في برقية دبلوماسية (البرقية رقم 596 تاريخ 31 آذار 2001) أن شتاينر سبق أن أطلع الرئيس بوش ومسؤولين أميركيين في آذار 2001 على اعتراف معمّر القذافي بتفجير لابيل ديسكو.وكان غيرهارد ليمان، وهو ضابط تحقيق في مكتب التحقيق الفدرالي الألماني وعمل لاحقاً مساعداً لميليس في لجنة التحقيق الدولية في لبنان، قد صرّح أمام المحكمة في الاول من آذار 2001 بأن لدى مكتب التحقيق الفدرالي معلومات عن تورّط القذافي وأجهزة ليبية في عملية تفجير لابيل ديسكو. وعندما طلب منه تقديم تفاصيل عن تلك المعلومات وعن مصدرها الأساسي، رفض مدّعياً أنه ليس مخوّلاً إعطاء المزيد من المعلومات.لكن أبرز ما يدعو إلى التشكك بميليس جاء في 13 آذار 2001 حين طلب إحضار محمد ع. إلى المحكمة للاستماع إلى إفادته، وتقدّم محامي الدفاع عن الشريدي بالطلب نفسه في 10 نيسان 2001. لكن محمد ع. لم يوقف ويُحضر إلى المحكمة كما كان الحال مع الشريدي. وكان الرجل قد غادر ألمانيا عام 1990 إلى مدينة بيرغين النروجية. وعندما سأله صحافيون ألمان زاروه في النروج عن جهاز الاستخبارات الذي يعمل لمصلحته، رفض الإجابة. لكن المحامي المكلّف الدفاع عنه، أود دريفلاند، أعلن أن موكّله «رجل موساد». أما ميليس، فتراجع عن طلب إحضار محمد ع. إلى المحكمة!