باريس – نضال حمادة
الانتقاد
"القضاء (الفرنسي) يخضع للضغوط ويتعامل بالمكيالين ازاء "محكومين بالارهاب". فالمنتمون لمجموعة "العمل المباشر" خرجوا جميعهم من السجن، كما أن الاسرائيليين الذي تسببوا بقتل مدنيين وروّعوا الأوروبيين صوّرهم فيلم "ميونيخ" للمخرج سبيلبرغ كأبطال"هكذا تقيّم الدكتورة فيوليت داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الانسان تعاطي القضاء الفرنسي مع قضية المناضل جورج إبراهيم عبد الله الذي حكمت عليه محكمة فرنسية قبل أيام بالسجن ثلاثة أشهر إضافية بعد أن حكم ظلماً بالسجن مدى الحياة، دون أي بارقة أمل في الإفراج عنه قريباً نتيجة الضغوط الأميركية الكبيرة التي يتعرض لها الفرنسيون.: تناهى لعلمنا انك قمتِ قبل عدة أيام بزيارة لجورج عبد الله في سجنه، ماذا عنه وما هي الجريمة التي حكم بها كي يبقى بالسجن حتى اليوم؟ ـ بدأ جورج ابراهيم عبد الله حياته السياسية بالنضال في صفوف الحركة الوطنية قبل أن يلتحق بالمقاومة الفلسطينية. وكان واحداً من اولئك الذين لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في 1978، ثم العدوان على لبنان ودخول بيروت في 1982. وقد ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه في مدينة ليون الفرنسية في 24-10-1984 بعد أن استطاع عناصر من الموساد اقتفاء اثره. تم تبرير اعتقاله بوجود أوراق ثبوتية غير صحيحة معه، وحكم في 10-7-1986 بالسجن أربع سنوات على أساس حيازته أسلحة ومتفجرات بطريقة غير مشروعة. وحيث أنه كان يحمل جواز سفر جزائريا شرعيا، وعدت السلطات الفرنسية الحكومة الجزائرية بالإفراج عنه ومبادلته بابن الكاتب المعروف جيل بيرول الذي كان مختطفاً في لبنان آنذاك. لكن في حين اطلق سراح هذا الأخير، تراجعت السلطات الفرنسية عن تعهداتها. لا بل اعادت محاكمته في 1-3-1987 بحجة ملفقة وهي انها وجدت (بعد مرور سنتين) ما يؤكد تورطه في الاشتراك في استهداف المسؤولين الأمريكي والاسرائيلي، واصدرت حكمها عليه بالسجن المؤبد بتهمة التواطؤ في أعمال "إرهابية". من أبرز التهم لمؤسس "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" التخطيط لعمليات اغتيال ومحاولات اغتيال مسؤولين امريكيين وإسرائيليين في فرنسا خلال 1984. لا بد من الاشارة في هذا الصدد الى أن ضغوطاً كبيرة مورست من ادارة ريغان في ذلك الوقت على الفرنسيين لمناهضة اطلاق سراحه. وأن السلطات الفرنسية عزت التفجيرات التي حدثت في باريس بين العامي 1986 و1987 لجماعة جورج عبد الله، ليتبين فيما بعد انها كانت مجرد تلفيقات بعدما اعتقلت المجموعة التي قامت بها. وبالنتيجة، بقي جورج عبد الله قابعاً بين جدران السجن ليمر عليه حتى اليوم أكثر من ربع قرن.هناك ملابسات غامضة وحوادث اعترضت عدة مرات على ما يبدو عملية اطلاق سراح جورج عبد الله، ماذا تعرفين عنها؟
ـ عندما نتصفح الموقع المخصص لجورج عبد الله من طرف اصدقائه والمتعاطفين مع قضيته نجد أنه كان يفترض أن يطلق سراحه في 1999. أي حسب القانون الفرنسي الذي حكم عليه بموجبه، كان ذلك يجب أن يتم بعد انتهاء عامه الخامس عشر في السجن. وبرغم استيفائه شروط الإفراج عنه، فتحت السلطات القضائية الفرنسية ملفه مرات متتالية. كانت المرة الأولى في سياق "لجنة إعادة النظر بالأحكام" و"محكمة الإفراج المشروط"، ففي 19-11-2003 اتخذت هذه المحكمة، في مدينة "بو" (Pau) الفرنسية، قراراً بإطلاق سراحه على أن يتم تنفيذ القرار بتاريخ 15-12- 2003، لكن ما جرى هو أن النيابة العامة الفرنسية أوقفت قرار المحكمة بعدما تقدمت باستئناف فوري بناءً على طلب وزير العدل بربن Perben. أعيد النظر في الأمر مرة جديدة في "المحكمة الوطنية للإفراج المشروط" في 16-1-2004. لكن من جديد كان لهذه المحكمة أن تخضع بدورها لضغط أمريكي وإسرائيلي عبر وزير العدل، ويأتي القرار برفض الإفراج عن جورج عبد الله. ومن اللافت للنظر أنه قبل ذلك كانت السلطات الفرنسية قد ارسلت ملف جورج للحكومة اللبنانية لمعرفة رأيها بالإفراج عنه، طالبة منها إرسال جواز سفر له، ما يعني أن التوجه حينها كان بالإفراج عنه. في 6-2-2007 تقدم جورج بطلب "الإفراج المشروط" السابع. لكن تأجل النظر به لأكثر من خمسة أشهر "لأسباب تقنية"، ثم رحّل ثانية إلى 13-9-2007. وكان أن تدخلت المخابرات الفرنسية، "ديه إس تيه" DST، مباشرة في المحاكمة باخطار القضاة أن الإفراج عن جورج عبد الله سيشكل حدثاً هاماً في لبنان، وبالتالي أوعزت بعدم الافراج عنه. لكنه طلب استئناف القرار، ليؤجل النظر فيه على نفس المنوال عدة مرات. والسبب هو "قانون داتي" الذي صدر في شباط/ فبراير 2008 والقاضي بمثول جميع المحكومين المتقدمين بطلب الإفراج المشروط أمام "المركز الوطني للمراقبة" Centre National d'Observation للحصول على رأي "لجنة متعددة الاختصاصات" commission pluridisciplinaire بمدى خطورة المعتقل الجرمية.هذا القانون مخصص للمجرمين الخطرين (وليس للمعتقلين السياسيين كما في حالة جورج)، كمجرمي الاغتصاب المتكرر للأطفال والنساء ومدمني المخدرات والذين تستلزم حالتهم وضعهم في مصحات خاصة. كانت بدايات هذا القانون في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001 بعد احداث أيلول/ سبتمبر، ثم توسع في 2005 ليشمل مخالفات جديدة (اتفق القاضي مع جورج داخل المحكمة على السياق ولكن ليس على التواريخ). وقد جوبه باستنكار ورفض نقابات القضاة والمحامين و"المرصد الدولي للسجون" وجمعيات حقوق الإنسان. ذلك كونه ينتهك الحريات العامة الأساسية، ويقضي بالاعتقال دون توافر واقعة جرمية بل لمجرد الظن بإمكان الإقدام على ارتكاب جرم ما، كما ويقضي بتمديد فترة الاعتقال حتى لو توافرت شروط الإفراج عن السجين. وبناء عليه نقل جورج عبد الله في العاشر من آب/ أغسطس 2008 من سجن لانيميزان Lannemezan إلى سجن فرين Fresnes، ليخضع خلال مدة شهر في "المركز الوطني للمراقبة" لاختبارات تبيان خطورته الجرمية. وبدل أن ينتظر فقط شهرين كما هو مفترض ليتبلغ رأي اللجنة هذه، تأخر الأمر حتى بدايات 2009. وعوضاً عن البت بالإفراج المشروط خلال سنة واحدة، حسب القوانين الفرنسية، تجاوز التأخير السنتين. ما يشكل مرة أخرى مخالفة صريحة لهذه القوانين.
حضرت واحدة من هذه الجلسات في مدينة بو قبل أيام، ما ملابساتها وموضوعها؟ ـ لقد حضرت جلسة الاستئناف على حكم محكمة الجنح التي جرت في مدينة تارب Tarbes في 2 كانون الأول/ ديسمبر من السنة الماضية، وقضت بعقوبة السجن لثلاثة أشهر على جورج إبراهيم عبد الله. السبب رفضه السماح بفحص حمضه النووي DNA مرة ثانية، كونه يقول انه سبق له أن خضع لهذا الفحص في 2003. وكان حينها قد تشاور مع رفاق السجن الذين نصحوه بالتجاوب مع الاجراء. إذاً جرت جلسة الاستئناف في مدينة بو في 18 شباط/ فبراير 2010 وقد حضرتها مع بضع عشرات من أصدقاء الأسير الفرنسيين وبعض العرب الذين قطع الكثير منهم مئات الكيلومترات للتضامن معه وللمطالبة بالإفراج عنه.ألحظ هنا أن المحاكمة جرت وسط إجراءات أمنية أقل تشدداً من المرة السابقة، حيث كان هناك حشد أقل لقوى الأمن الفرنسية، كما أكد جورج لي في اليوم التالي. كذلك حضر من دون تكبيل يديه ورجليه (بقيت أرجله مكبلة بالسلاسل في المرة السابقة داخل المحكمة). حاول التحدث بهدوء واتزان، والدفاع عن نفسه بالقول انه لم ير مدعاة لاستدعاء محاميه جاك فرجيس للترافع عنه. كما أنه ندم على إعطائه الاذن بإجراء فحص لحمضه النووي، خاصة أن ذلك لم يغير في الأمر شيئاً حيث لم يستفد من اطلاق السراح المشروط لرفض وزير العدل. لذا لم يجد مبرراً لتكرار العملية في 2008. أما نتيجة الفحص فيفترض ان تكون بحوزة السلطات الفرنسية، وأيضاً "الموساد" والـ(CIA) كما أضاف. لكن ازاء اصرار القاضي على نفي وجود أي أثر للنتيجة لديهم، أجاب جورج بأن ذلك مستغرب. وتساءل إن كان ذلك يعني أن ميليشيات ما دخلت الى السجن تحت ستار الأمن الفرنسي لتحصل على حمضه النووي. ثم أضاف أنه ليس هو من يفترض به ان يثبت خضوعه لهذا الاجراء، والسجين ليس غنيمة حرب، وهذا القانون منافٍ للحريات، الخ. وبعد مرور حوالى العشرين دقيقة لوجوده في قاعة المحكمة وبعد اعلامه بتبليغه القرار النهائي في الأول من نيسان/ أبريل، (لم يضف القاضي أشهراً أخرى للحكم السابق)، التفت جورج للحاضرين وحياهم وخرج محاطاً بأفراد الشرطة.
إنه وضع سريالي لا يمكن إلا أن يستوقف الغيورين على حقوق الإنسان؟ـ بالتأكيد، لكن ليس فقط، وإنما كل الديمقراطيين وأحرار العالم والمؤمنين بحقوق الشعوب في استقلالها والدفاع عن سيادتها. أوضاع السجن ليست سهلة لكائن من كان، خاصة عندما تتعرض للظلم باسم تحقيق العدالة، وعندما يتولد لديك شعور مبني على وقائع بأن القضاء يخضع للضغوط ويتعامل بالمكيالين ازاء "محكومين بالارهاب". فالمنتمون لمجموعة "العمل المباشر" خرجوا جميعهم من السجن، كما أن الاسرائيليين الذي تسببوا بقتل مدنيين وروعوا الأوروبيين صورهم فيلم "ميونيخ" للمخرج سبيلبرغ كأبطال، كما علق أحد الحاضرين في جلسة المحكمة. بينما جورج ما زال يقبع في السجن دون وجه حق. وما زالت الصحافة الفرنسية تنعته بالارهابي، حسبما عنونت جريدة "الفيغارو" الصادرة في 19 شباط/فبراير 2010 في زاوية صغيرة خصصتها "للارهابي الذي يرفض اعطاء حمضه النووي".
فيوليت داغر من مواليد تنورين في لبنان مختصة في علم النفس الاجتماعي والباتولوجي ودرّسته. قامت بمهمات صعبة في عدد من قضايا السجناء السياسيين والسجون في مصر وإسبانيا والمغرب ورومانيا وفرنسا. وصدر لها هذا الشهر كتاب بالفرنسية بعنوان "الهجرة: إشكاليات وتحديات". كل ما اعترى ملف جورج طوال هذه السنوات يؤثر على استقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية ويعطّل العدالة ويؤثر على قيامها بواجبها بالدفاع عن حقوق السجين، لا سيما في بلد تُعتبر الديمقراطية من أركانه الأساسية. كذلك تشعر بالمقابل بالغبن أن بلده الأم قد غيبه من ذاكرته ولم يقم بما يفترض به من متابعة واهتمام ومطالبة به وضغط لاطلاق سراحه، خصوصاً بعدما تجاوز المدة العقابية المحددة. فمن المفترض بكائن من كان قام بالدفاع عن بلد وقع تحت الاحتلال أن يُحترم لمواقفه، وأن يُدافع عنه بالنظر لما قدمه من تضحيات تصب في النهاية في خدمة الصالح العام وليس المصالح الفردية. وهو لهذا السبب بالتحديد ما زال يدفع الثمن بالبقاء رهن الاعتقال. فالأسئلة التي طرحت عليه من طرف السلطات القضائية لمعرفة موقفه من المقاومة اللبنانية أبانت بأن قناعاته لم تتغير بتقديمه الجواب أن كل شعب تحتل أرضه سيقاوم الاحتلال. وأن سنوات السجن لم تبدل ايمانه بصواب مواقفه في الدفاع عن مبادئه وكرامته وقيمه، بمواجهة سلطات خاضعة للضغوط الأمريكية والصهيونية. وبالتالي، محكمة الإفراج المشروط التي جرت بتاريخ 15 آذار 2002 في قصر العدل في باريس قررت، على خلفية الإجابات التي قدمها جورج، رفض الإفراج عنه بحجة أن أجوبته غير مقنعة. وأن عودته إلى لبنان ليست سبباً كافياً للحؤول دون تكرار أفعاله. كما أنه لم يمارس جهوداً جدية كفيلة بإعادة تكيفه الاجتماعي، وكأن السجين السياسي يعاني بالضرورة من مرض نفسي.لذا، بالنظر لكل الملابسات التي رافقت ملف جورج طوال 26 سنة، هناك ما يدعو كل صاحب ضمير وقضية ومؤمن بتحرر الشعوب من الهيمنة والامبريالية أن يهب لنجدته من براثن من أرادوا أن يجعلوا منه كبش محرقة ويضحوا به على معبد مصالحهم. وما يجعله هو يقابل بالسخرية والاحتقار هذه الأحكام والمحاكمات المهزلة لبلد يرى كيف تخضع سلطاته القضائية لسلطته التنفيذية وللضغوط الخارجية كما لو أننا في واحد من بلدان العالم الثالث. لا سيما أن هذه الملهاة التي انعكست بقسوة على حياته لجأت لحجج واهية وذرائع مختلفة ضمن جو من الارهاب المعولم بحجة الحرب على الارهاب وتبرير انتصارات مزيفة. وجورج ليس بالنتيجة بالنسبة لهم سوى واحد من 66 ألف معتقل في فرنسا، منهم 20% يقبعون مثله في سجون مركزية. وفي بلد صورة سجونه تضعه في مستوى متدنّ على سلّم التصنيفات الدولية.
كيف بدا لك جورج عبد الله عندما التقيته، وما هي انطباعاتك بالنظر لملابسات القضية؟
ـ للحقيقة، لم يبدو لي جورج عند التقائي به، وهي المرة الأولى التي كنت أراه فيها، أن معاناته بادية على محياه برغم اقترابه من سن الستين. وبرغم أن اللقاء كان ودياً وعفوياً وصريحاً، لم استشف في أقواله وتعبيره عن مواقفه سوى صلابته واصراره على قناعاته الراسخة بصواب دفاعه عن سيادة بلده وضرورة مقاومة ما تعرض له من اجتياح واعتداءات اسرائيلية استهدفت أرضه وشعبه وأمنه. لا بل أكد لي أن السلطات السياسية والقضائية الفرنسية هي التي تعاني من المأزق. وذلك بابقائه حتى الساعة في سجنه، وتلفيق القضايا الكاذبة، وخاصة الخلط العمد باعتبار الاستخبارات الفرنسية له أنه اسلامي وقد اعتنق الاسلام برغم علمها أنه شيوعي. والهدف هو الاستفادة من الموجة المعادية للاسلام التي تزداد استعاراً في فرنسا. تقول هذه الاجهزة (نقلاً عن مرافعة محاميه جاك فرجيس): "لعل هذه العلاقات مع المجموعة المعتقلة من أصل مغربي، و/أو تطور وأسلمة الصراع المعادي للإمبريالية والصهيونية شكلت أسباباً دفعت بالمعتقل، المسيحي الماركسي السابق، إلى اعتناق الإسلام".كذلك دفع جورج ثمن التفجيرات التي قامت بها أطراف إيرانية على الأراضي الفرنسية، ولم يكن له علاقة بها لكنه لم يُدنها. فهل كان يفترض حينها أن تقوم مجموعة عسكرية بالتحرك للتأثير على المواقف السياسية وفرض اطلاق سراحه كما جرى في حالات أخرى معروفة؟ لقد طالت فترة اعتقال جورج بسبب تدخل السلطات الأميركية الفظ والمرفوض في القضاء الفرنسي، واهانة هذا القضاء بفرض شروطها بالاقتصاص من عبد الله بالمؤبد. خاصة بعد خروج اعترافات وتصريحات تكشف كذب وتلفيقات السلطات الأمريكية الرافضة لاطلاق سراحه. ينقل السيد فرجيس في مرافعته: يقول السيد مارسو MARSAUD من مكافحة الإرهاب، في كتاب مذكرات بعنوان "قبل أن ننسى كل شيء": "لقد تمت إدانة عبد الله أساساً على ما لم يقم به لأننا حصلنا، بعد فترة وجيزة، على أدلة وضعتنا على الطريق الصحيح واستطعنا تحديد هوية المسؤولين عن اعتداءات 1986". ويضيف فرجيس: "إن الفرنسيين والأميركيين مخطئون، الأُول لتنازلهم عن سيادتهم، والآخرون لفرط استغلالهم لامتيازات خارج بلادهم..".
ماذا فعلتم أنتم له في اللجنة العربية لحقوق الإنسان للدفاع عن جورج عبد الله؟ـ نحن دخلنا على الخط متأخرين، حيث قبل عدة أشهر تكلمت معي سيدة من المقربين من جمعيتنا عن حالة جورج عبد الله. ودون أن تطالب بموقف تضامني معه، كونها خبرت كيف نفض الكثيرون أيديهم منه، وضعت نفسها بتصرف اللجنة العربية بحال قررنا الاهتمام بملفه. منذ تلك اللحظة أخذت على عاتقي أن أتابع بنفسي ملف جورج. كما وشعرت بأني سألوم نفسي كثيراً فيما لو لم أحرز تقدماً في هذا المضمار في أجل قريب. بادرت حينها فوراً بالاتصال بمدير مكتب فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، السفير ناجي ابي عاصي الذي كنت أعرفه منذ كان سفيراً للبنان بباريس، وحضرت إلى مكتبه في بيروت لأتحدث معه بشأن جورج عبد الله وأطلب منه التحرك بما من شأنه أن يؤدي لحمل السلطات الفرنسية على اطلاق سراحه. فوعدني بدراسة الملف ومتابعة القضية. كذلك أجرينا في اللجنة العربية لحقوق الإنسان اتصالات بأطراف سياسية وإعلامية لبنانية وعربية لتكثيف الاهتمام بموضوع جورج والتحسيس بقضيته ورفع وتيرة التحركات المطالبة بالافراج عنه. كما وطلبت إذناً من إدارة سجن لانمزان لزيارته. فأفهموني أنه عليّ التقدم بطلب رسمي للسلطات الأمنية التي ستقرر بعد اجراء تحقيق حولي إن كانت تمنحني هذا الحق. وبالفعل استدعيت بعد ذلك للتحقيق في مكاتب البوليس في مكان اقامتي وانتظرت القرار الذي أتاني بالإيجاب بعد ثلاثة أشهر ونيف من إيداع الطلب. كذلك كان هناك سعي للاتصال بمقدم برنامج حواري على فضائية ذائعة الصيت يخصص حلقة لقضية جورج لتسليط الضوء عليها. أيضاً كانت لدي أفكار أخرى، لكن لم اشأ الخوض بها قبل أن أحصل على موافقة أو على الأقل عدم ممانعة من طرف جورج. وكنت حريصة أن لا يُفهم أي تحرك من طرفنا لفائدة جورج وكأنه على حساب تحركات الآخرين الذين سبقونا لسنوات في تضامنهم معه. وهناك أخيراً تحركات نفضل عدم الافصاح عنها حالياً.
هل ترين بصيص نور في المستقبل المنظور بخصوص هذه القضية؟ ـ بصيص النور أراه يقترب ويكبر لتضافر عوامل عديدة. لنقل على الأقل ان هناك بعض مؤشرات على ذلك يستشعرها جورج ونرجو أن تفضي لنتيجة ايجابية وتترجم بالشكل الصحيح. فرنسا تبدو في وضع حرج بإطالة أمد اعتقاله والمماطلة والتلكؤ باطلاق سراحه وعودته لبلده. جورج عبد الله ما زال يقبع في السجن، في حين أن الاجراءات التي ستفضي به للخروج باتت منذ وقت طويل إدارية وليست قضائية. وهذه اللجان والمحاكمات ليست سوى ذر رماد في العيون يكلف الدولة غالياً وتكلفته على جورج أكبر بكثير، برغم أن من شرب من البحر لا تهمه الساقية. بكل الأحوال، نحن طوال سنوات تحركاتنا في مجال حقوق الإنسان كانت قناعاتنا دوماً بأن لا شيء يقدم من السلطات الحاكمة وتجمعات المصالح على طبق من فضة، وأن مصير أي ملف هو رهن بالتحركات النضالية، وأن اي معركة يجب أن تخاض مهما كانت شائكة ومعقدة. صحيح أننا نأتي في وقت متأخر، ولكن أن تنخرط متأخراً خير من أن لا تفعل شيئاً أبداً وتكتفي بموقف المتفرج. على العموم، على كل طرف ان يقوم بما يستطيع من دون انتظار المعجزات فوراً. لكن التحركات الجدية ضمن عملية تراكمية لا بد أن تفضي في نهاية المطاف لتسريع السيرورة والوصول للنتيجة المبتغاة. فجورج هو اليوم، وبكل المعاني الحقوقية، معتقل لأسباب غير قضائية، أي تعسفية. وبالمعنى اللبناني هو مواطن من واجب دولته الدفاع عنه والمطالبة الحازمة به من دون الرضوخ للضغوط الأمريكية والفرنسية وللحسابات السياسية الداخلية. ومن واجب كل الأطراف اللبنانية، خصوصاً التي تحمل لواء المقاومة والتحرر من الاستعباد الخارجي، والتي نعوّل عليها كثيراً، أن تمد اليد له بهمة وقناعة تامة بأن ذلك يصب في مصلحتها أيضاً، إن لم يكن لمواقف مبدئية تفرض التحرك. جورج يمكن أن يخرج سريعاً حراً طليقاً، إذا ما تضافر الجهد الحقوقي مع الجهد السياسي اللبناني الوطني.لا بد من وضع حد لهذه المظلمة التي باتت مهزلة وطال أمدها كثيراً. فرنسا طالبت بمواطنين لها وأخرجتهم من سجون بلدان أخرى برغم تورطهم بعمليات جرمية. أوليس من المخزي بحق لبنان أن يقول لي مدير المخابرات الفرنسية السابق ـ الذي كلفه حينها الرئيس فرنسوا ميتيران بمتابعة ملف جورج والتوسط للافراج عنه مع السلطات الجزائرية ـ أن بقاء جورج عبد الله في السجن حتى الساعة شيء مشين، وأنه مستعد للمساعدة بالتوجه لبيروت ومقابلة من نراه مناسباً من المسؤولين اللبنانيين لاقناعهم بأنه آن الأوان لتقديم طلب للسلطات الفرنسية من أجل تسليم جورج عبد الله؟
26-02-2010