بين الممانعة والمقاومة

لم يقترن تعثّر المشروع الأميركي في العراق وفي المنطقة بما كان مفترضاً في حالات مماثلة، من النتائج الإيجابية كمّاً ونوعاً. السبب في ذلك يعود أساساً، إلى عدم جهوزية القوى التي عارضت الغزو الأميركي للعراق أو اعترضت عليه أو دخلت معه في نزاع أو صراع، للاستفادة من تعثّر هذا المشروع. فهذه القوى لا تمتلك مشروعاً مضاداً بالمعنى الحقيقي للكلمة. وحسناً فعلت أو فعل الناطقون باسمها حين أطلقوا على هذه القوى تسمية «قوى الممانعة». إنّ ذلك يعكس بشكل من الأشكال واقع أنّ هذه القوى تعترض إذ هي تُستهدف، وليس أكثر من ذلك. إنّها في حالة دفاعية صرف. والحالة الدفاعية هذه هي أيضاً في حدودها الدنيا. والدفاع هنا يتوسّل لنفسه، وخصوصاً في الحالات العادية، أولوية البقاء. والبقاء يعني، دون أيّ التباس، بقاء هذا النظام أو ذاك، صامداً في السلطة (!) وفي التفرّد بها، وفي قمع الخصوم، وفي المساومة لإطالة أمد البقاء... وتدير ما بقي من «أنظمة الممانعة» (كم عددها حالياً!) سياسة متواضعة حيال قضايا الصراع ومصالح البلدان المستهدفة في حقوقها وأراضيها وثرواتها... لكنّها سياسة من النوع الذي لا يمكن أن يجنّد طاقات الوطن (القطر) أو الأمة، للدفاع عن حقوقها واستعادة أراضيها، ولتنمية اقتصادها وتوفير الحقوق والضمانات الاجتماعية والحريات السياسية لمواطنيها. إنّها سياسة محدّدة الهدف ومحدودة التأثير كما ذكرنا، وهي دفاعية أساساً تنقصها المبادرة والقدرة على خلق الوقائع الجديدة، ولا يعوزها، بالمقابل، التردّد والمساومة والمراوحة! هذا جزء من الواقع الذي طالعنا بعد تعثّر المشروع الأميركي في العراق وفي المنطقة وفي العالم! وكان يمكن قوى أسهمت في إسقاط هذا المشروع، لو كانت تملك البديل القادر على التعبئة والاستقطاب أن تحوّل مشروع «الشرق أوسط الكبير» الأميركي، إلى مشروع نهوض عربي في هذا المدى نفسه، أي تقريباً على المدى الجغرافي والسياسي الذي يمتدّ من موريتانيا إلى باكستان. في ضوء هذا الواقع يمكن قراءة نتائج القمة العربية التي عُقدت في مدينة «سرت» في «الجماهيرية الليبية» يومي 27 و28 من الشهر المنصرم. ففي هذه القمة واصل حلفاء الولايات المتحدة الأميركية (وخصوصاً حلفاء الإدارة الأميركية السابقة) سياسة كسب الوقت أو شرائه بأثمان بخسة من نوع المصالحات الثنائية أو وقف المقاطعة لهذا النظام أو ذاك، أو وقف الحملات الإعلامية. كان ينبغي أن تدفع دول «محور الاعتدال العربي» الذي أقامه الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ورعاه، ثمناً باهظاً بسبب ارتباطها بسياسة الغزو الأميركية، وبسبب فشل هذه السياسة كما أسلفنا. لكنّ قوى محور الممانعة كانت أضعف من أن تفرض عليها ذلك. ولهذا الأمر فقد مرّت القمة دون أيّ أثر يُذكر. حتى رغبات العقيد معمّر القذافي (الذي استعدّ للقمة بالكثير من الأزياء الوطنية الليبية المزركشة والغريبة) لم يتحقق منها شيء، لجهة أن يتحوّل، ولو في الشكل، وكرئيس دوري للقمة إلى رئيس يمارس بعض الصلاحيات التي ترضي شهوته المتأجّجة أبداً للزعامة والرئاسة والقيادة...

يمكن بالمقابل، ملاحظة أنّ القوى الحليفة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، قد بدأت، نسبياً، استعادة شيء من زمام المبادرة. يتصل ذلك على المستوى الأميركي بالمراهنة على امتصاص ما بقي من شعارات «التغيير» ورغباته التي رفع لواءها الرئيس الأميركي الحالي، وخصوصاً أثناء حملته الانتخابية. ويستفيد هذا الفريق من التصلّب والتصعيد اللذين تمارسهما حكومة نتنياهو الصهيونية المتطرّفة. ففيما كان يُتوقع أن ينتفض العرب في قمّتهم لاستهداف مدينة القدس بالاستيطان وبتهديم المقدّسات فيها وإزالتها منها، لم يستطع هؤلاء أن يستروا تواطؤهم متصرّفين، كالعادة، وفق قول «المتنبي»: «ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ». وللتدليل على ذلك، فإنّ الملك السعودي لم يكلّف نفسه حتى عناء الحضور إلى «سرت»، والمشاركة في أعمال القمة. لعلّ البعض يجد في ما أعلنه رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان من مواقف، دليلاً على النجاح العربي في إحداث تحوّل مؤثّر في المنطقة لغير مصلحة إسرائيل. والواقع أنّ التحوّل التركي مهم، لكنّ الفضل فيه ليس للحكام العرب الذين رفضوا، في القمة نفسها، مجرّد فتح حوار مع السلطات الإيرانية!! وهكذا في امتداد بعض ما ذكرنا من معطيات ووقائع، ستستمرّ معاناة الشعب العراقي. فهذا الشعب الذي كابد الأهوال من الاحتلال الأميركي، لن يجد في الموقفين العربي والإقليمي، ما يساعده على تجاوز محنته. ويشير حجم الانقسام العراقي وطبيعة التدخل الخارجي في الشؤون العراقية (فضلاً طبعاً عن النيّات والخطط الأميركية)، إلى أنّ الشعب العراقي لن يستطيع أن يراهن، ولو في الحدّ الأدنى، على الشقيق العربي ليمدّ له يد العون من أجل مساعدته على الخروج من محنته وانقساماته. أما الشعب الفلسطيني، فلا يسعه بعد القمة، إلا أن يشعر بأعظم الخيبات. لقد تعامل الحكام العرب مع «القدس» كأنّها لا تحتاج إلا إلى بعض القروش لمواجهة الهجمة الصهيونية البربرية عليها... ولن نضيف إلى ذلك عدم الإتيان على ذكر أزمات السودان والصومال واليمن... ربما هو الوعد بالقمة الاستثنائية في أيلول القادم من أجل الحلول الناجزة والجذرية والشاملة!! ويتداعى هذا الوضع في لبنان، تصعيداً للتوتر الداخلي. ما ذكره السيّد حسن نصر الله في لقائه أوّل من أمس مع تلفزيون «المنار»، يبعث على قلق كبير. ولعلّ المحكمة الدولية، تكون في هذا السياق، أداةً سيحاول البعض استخدامها لبعث عناصر الانقسام والتفرقة وتأجيجها بين اللبنانيين. يحصل ذلك أيضاً، فيما «حكومة الوحدة الوطنية» تعجز عن التعامل مع الاستحقاق البلدي، حتى لجهة تمكين المواطن من أن يحلّ «حزورة» حصول الانتخابات من عدمه، هذا فضلاً عن القانون والتعديلات... سيقول البعض إنّ «قمة دمشق» الثلاثية سبق أن قدّمت الجواب. إنّ هذا بالذات ما كنا نقصده بالقول إنّ «الممانعة» المقرونة بكلام عالي اللهجة من جانب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لم تعد تكفي للتعامل مع مواضيع من مثل استعادة حقوق الأمة من أيدي الغاصبين والمحتلين والطامعين. إنّ عملاً تحرّرياً كبيراً يجب أن يبدأ. وهو عمل يجب أن يكون طابعه الشعبي هو الراجح. ولعلّنا نجد الجواب الصحيح في تجربة المقاومة بكلّ تلاوينها ضدّ العدو الصهيوني. إنّها نموذج سياسي قبل أن تكون إنجازاً عسكرياً. هكذا على الأقل يجب أن يُنظر إليها إذا أردنا استعادة المبادرة في صراعنا التاريخي مع أعدائنا.

 

سعدالله مزرعاني

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة