الشراكة مرّة أخرى

خالد صاغيةفي العقدين الأخيرين من القرن الماضي، كانت الحرب على العمّال وذوي الدخل المحدود قد آتت ثمارها. بات بإمكان الشركات العالميّة دفع رواتب أقلّ، وتحقيق أرباح أعلى. فقد قامت السلطة في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، ثمّ في أماكن أخرى من العالم، بضرب النقابات وتقليص فرص العمل لتركيع الطبقة العاملة ودفعها إلى القبول بمعدّلات استغلال مرتفعة، مخافة الالتحاق بجيش العاطلين من العمل الآخذ بالتوسّع.لكنّ هذه الشركات نفسها التي باتت تحتاج إلى ساعات إضافيّة كي تحصي أرباحها، وقعت في فخ النظام الرأسمالي نفسه. فحين تعصر العامل في مرحلة الإنتاج، ستواجه مشكلة في مرحلة الاستهلاك، لأنّ العامل الذي لا يجني ما يكفي من الأموال، لن يتمكّن من شراء السلع المعروضة في السوق. هكذا، قد تتبخّر الأرباح التي حقّقتها الشركات بالاستغلال المفرط للعمّال.كان لا بدّ من مخرج لهذا التناقض، وخصوصاً أنّ رأس المال لن يفوّت تلك الفرصة الثمينة التي جاءته على طبق من فضّة: أجور منخفضة، وأموال تتكدّس في البنوك، ضاعف من حجمها تدفّق عائدات الفورة النفطيّة بعد حرب أكتوبر. طبعاً، ابتُدعت مخارج عديدة. لكنّ أحدهم لمعت في رأسه فكرة جهنّميّة: ما دام عامّة الناس فقدوا القدرة على استهلاك السلع التي تنتجها المراكز الكبرى، فليتّجه رأس المال نحو إنتاج الأساسيات التي لا يمكن المواطن الاستغناء عنها: وسائل النقل، الكهرباء، الماء، الاتصالات... عقبة واحدة واجهت هذا الاقتراح: كلّ هذه القطاعات تقود الدولة عجلة الإنتاج فيها. لذا، كان لا بدّ من اختراع آلهة جديدة: الخصخصة.وبدأت تظهر فجأةً أطنان من الدراسات التي تقبّح وجه الدولة، وتصوّرها منتجاً غير فعّال مقارنة بالقطاع الخاص الحيويّ والعصريّ. ورغم أنّ الفكرة بحدّ ذاتها شديدة السذاجة، لكون العالم عرف عدداً لا يحصى من الشركات العامّة الشديدة الفاعليّة والشركات الخاصة القليلة الفاعلية، والعكس صحيح، فإنّ متطلّبات رأس المال اقتضت الترويج العلميّ لأمر اليوم: خصخصة.بعد ثلاثة عقود، خفت «شعاع» الخصخصة. إنقاذ رأس المال بات هذه المرّة يتطلّب تأميماً، كما جرى غداة الأزمة الماليّة الأخيرة. أمّا في لبنان، فيُشغَل مجلس الوزراء بمناقشة «الخصخصة المقنّعة» تحت ستار «الشراكة مع القطاع الخاص». ثمّ يرجئ المجلس النقاش إلى جلسة أخرى. وينتظر انعقاد اجتماعات بين ما يسمّى «المجلس الأعلى للخصخصة» والوزراء المعنيّين. وما زالت الألسُن تسبّح باسم الخصخصة...ليس هذا من باب التأخّر في ملاقاة العصر، بل نتيجة وضع اقتصادي شبيه بما عرفته دول أخرى بداية الثمانينيات: رواتب منخفضة لدى العامّة، فائض في السيولة لدى المصارف، وشهوة للربح المضمون. الوصفة لتحقيق هذه الشهوة في هذه الظروف باتت معروفة. المؤسف حقاً أنّ نتائجها باتت معروفة سلفاً أيضاً. لكن ثمّة من يصرّ على السير في العتمة بعيون مغمضة، واضعاً على صدره بطاقة: خبير.
آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة