نفّذت وزيرة المال ريّا الحسن تهديداتها لمديرة المحاسبة العامّة بالتكليف، رجاء الشريف، فأصدرت مذكّرة أمس قضت بإعفائها من منصبها وتعيين أحد الموظفين المحسوبين على النائب أحمد فتفت محلّها، هو زياد الشيخ تأتي خطوة الحسن رداً مباشراً على البيان الذي أصدره ديوان المحاسبة أول من أمس، وتضمّن معطيات مثيرة تنبئ بحصول عمليات تزوير جارية في الحسابات المالية للدولة عن السنوات الماضية، والتي كان للشريف، على ما يبدو، دور مهم في الكشف عنها عبر مراسلات إلى رئيسها المباشر والأجهزة المعنية، ومنها ديوان المحاسبة نفسه. وكانت الشريف قد كُلّفت بمهماتها على رأس مديرية المحاسبة العامّة في وزارة المال في أيار الماضي، بعد شغور هذا المنصب، وجاء تكليفها بناءً على التراتبيّة الوظيفيّة، باعتبارها الأعلى رتبة بين زملائها والأقدم والأكفأ... إلا أن الشريف رفضت كل الإغراءات التي قدّمت لها من أجل الخضوع للفريق المهيمن على الوزارة، وأصرّت على الالتزام بواجباتها وعدم مخالفة القوانين وأنظمة العمل، فتعرّضت لمضايقات جمّة موثّقة في مراسلاتها المذكورة، ومنها تهديد مباشر من مستشار الوزيرة الحسن، نبيل يموت، وهو وزير المال الفعلي، الذي قال لها مرّة: «اشتغلي معنا، وإلّا رح طيّرك من شغلك».
لم تأبه الشريف لهذا التهديد، فالأستاذة الجامعية الحاصلة على إجازة في الحقوق، أدركت منذ البداية أن قبولها بإدارة المحاسبة العامّة يفرض عليها التحلّي بالجرأة، في الظرف الحالي على الأقل، فعملت منذ البداية على تطوير إمكانات هذه المديرية، ولا سيما في مجال زيادة عدد العاملين في مجال التدقيق المحاسبي، وعمدت الى تكرار طلباتها من المديريات الأخرى المعنية لإعداد حسابات المهمّة العالقة منذ عام 2001، والتي تُعتبر ضرورية لإجراء المطابقة بينها وبين قطع الحساب لكل سنة، وبالتالي كشف أي تزوير أو تلاعب بنظام المعلوماتية، الذي أنشأه يموت نفسه عندما كان مستشاراً لوزير المال فؤاد السنيورة... وهذا ما أحدث إزعاجا كبيراً للفريق المسيطر على الوزارة، والساعي الى استمرار حال الفلتان والفوضى فيها، تحقيقاً لأهداف سياسية ومصالح شخصية وخاصة تندرج في إطار السطو على المال العام وقبول الرشى ومحاباة المكلّفين بالضرائب لقاء عمولات وأتاوات شتى.إلا أن الإزعاج الأكبر، الذي أحدثته الشريف، كان بإقدامها على إرسال قطع حساب سنتي 2006 و2007 إلى ديوان المحاسبة، في الوقت الذي كانت فيه الوزيرة الحسن تدّعي أن وزارة المال عاجزة عن إنجاز هذا الموجب الدستوري لتبرير مشروع قانون إحالته على مجلس الوزراء يطلب إعفاءها من ذلك، كما عمدت الى إعادة إرسال قطع حساب سنة 2005 مرفقاً بلائحة طويلة من التحفّظات والملاحظات الجدّية، ولا سيما لجهة وجود فروق في الحسابات المذكورة ناتجة من عمليات تلاعب وتزوير هدفها إخفاء حجم الإنفاق العام ووجهته، وقد فضحت طبيعة نظام المعلوماتية الذي صممه يموت، بما يتيح الدخول إليه وإجراء التعديلات والتغييرات في أي وقت خلافاً لمعايير مسك الحسابات، وينطبق ذلك بوضوح على قطح حساب سنة 2008، إذ إن الفروق الواضحة بين أرقام مديرية الصرفيات وأرقام مديرية الخزينة حالت حتى الآن دون تقديمه إلى ديوان المحاسبة وهو ما دفع بالديوان الى إصدار بيانه أول من أمس، إذ كشف فيه عن فضيحة مفادها أن الوزيرة الحسن طلبت شفهياً من الديوان استرداد قطع حسابات السنوات 2005 و2006 و2007، «بغية إعادة صياغتها مجدداً»، ولما طلب الديوان منها تقديم كتاب خطي بالاسترداد، لم تفعل، لكنها لجأت الى «إرسال قطع حساب سنة 2005 مرة ثانية الى ديوان المحاسبة، مغاير للأول!». وقد طالب ديوان المحاسبة وزارة المال في بيانه المذكور بإيداعه قطع حسابات الموازنة عن السنوات الماضية، بما فيها قطع حساب سنة 2008، بالإضافة الى حسابات المهمة العائدة الى السنوات من 2001 إلى 2008، وذلك بعد التدقيق فيها من مديرية المحاسبة العامة لدى الوزارة عملاً بأحكام المرسوم رقم 3373 تاريخ 11/12/1965 (تحديد أصول تنظيم الحسابات المالية ومهلها)، لأنه يستحيل على ديوان المحاسبة، من الناحيتين الحسابية والعملية، أن يدرس قطع حساب سنة معينة ويدقق فيه بمعزل عن حساب المهمة العائد الى السنة عينها. وقال البيان «إن عدم إرسال وزارة المال حسابات المهمة الى ديوان المحاسبة منذ سنة 2001، حال عملياً دون تمكّن الديوان من تدقيق قطع حسابات الموازنة وفقاً للأصول». ويقول مصدر مطّلع في ديوان المحاسبة لـ«الأخبار» إن بيان الديوان واضح بدعمه الشريف، التي كان لها الدور البارز في تنبيه الديوان الى المخالفات الجارية في وزارة المال، وبدلاً من مساندتها لإنجاز واجباتها من أجل تحقيق معالجة قانونية ونظامية لمشكلة حسابات السنوات الماضية، عمدت وزيرة المال الى معاقبتها، وتعيين لجنة خاصّة لتغطية المخالفات التي كشفت عنها، وهذه اللجنة مكوّنة من مديرة الخزينة، موني خوري، والصرفيّات، عليا عبّاس، والموازنة، جوزيان سعد، وزياد الشيخ نفسه، الذي كُلّف برئاسة هذه اللجنة على الرغم من أنه موظف من الفئة الثالثة بينما الأعضاء الآخرون من موظفي الفئة الثانية... واللافت أن اثنين من أعضاء هذه اللجنة، على الأقل، هما موني خوري وعليا عبّاس، هما من المديرين المسؤولين عن المخالفات المرتكبة، وقد أشار الديوان الى مسؤوليتهما بطريقة غير مباشرة، ولا سيما مديرة الخزينة التي قال الديوان إنها لم تقم بواجباتها المفروضة عليها قانوناً، والتي تقضي بإيداعه حسابات المهمّة منذ عام 2001. ورغم ذلك، جرى دعم مديرة الخزينة، فيما أعفيت مديرة المحاسبة العامّة من مهمّاتها، لانها كانت تطلب من خوري باستمرار أداء عملها وتقديم حسابات المهمّة المتأخّرة ليتسنّى لها مطابقتها مع قطع الحساب. الجدير بالإشارة أن إعفاء الشريف من منصبها استبق تحقيقاً يفترض أن يكون التفتيش المركزي قد بدأه أمس في وزارة المال، وذلك على خلفية إلغاء الوزيرة الحسن تدابير عقابية بحقّ مديرة الخزينة ومدير مركز المعلوماتية جورج ضاهر بسبب عدم إنجاز حساب المهمة وقطع الحساب والدخول الى نظام المعلوماتية للتلاعب بالحسابات وأوامر الدفع وبيانات القبض بهدف إخفاء المعلومات التي تدين مسؤولين كباراً حاليين وسابقين. فهل سيجري التغاضي عمّا يحصل في وزارة المال كالعادة؟ أم أن إزاحة الشخص الذي يتولّى التدقيق والتصديق على الحسابات ستحرّك من يدّعي الحرص على كشف الحقيقة، كل الحقيقة؟ وما هو موقف المشاركين في الحكومة ومجلس النوّاب من إحكام «عصابة» سيطرتها على المديريات الرئيسة في وزارة المال؟ (الأخبار)
عدد الخميس ٧ تشرين الأول ٢٠١٠