أوروبا ـ لبنان: جريمة الدين العام ووهم الحصانة

جدوى الاتحاد الأوروبي على المحك. شبه انهيار في اليونان، وانهيارات جرى تفاديها في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال وإيرلندا. للمرّة الأولى منذ ولادة اليورو، يدور بحث بشأن إمكان طرد بعض الدول نتيجة فوضاها المالية. فإذا كانت الدول تنقذ المصارف من أزماتها، فمَن ينقذ الدول؟

حسن خليل الأزمة المالية العالمية التي بدأت في الولايات المتحدة وتغرق فيها أوروبا اليوم، أيقظت العملاقين على وهم الـBING BANG، أي الانفجار الكبير الذي تبنّاه ريغان وتاتشر أواخر الثمانينيات. إطلاق العنان لطمع المصرفيّين والأرباح أدى إلى فساد مالي غير مسبوق، فارتفعت مديونيات الدول بنسب غير منطقية حتّى وصل بعضها إلى حالة إفلاسية. ساد اعتقاد سنة 2008/ 2009 بأن الدولار سينخفض نتيجة عجز الموازنة وتضخّم المديونية، لنكتشف بعدها أنّ دول العملات الثلاث الرئيسية الأخرى (أوروبا واليابان وبريطانيا) ليست أفضل حالاً. اليوم، وفي ظل الأزمة الأوروبية، أصبح الدولار كما الين والفرنك السويسري عملات الأمان. انكشفت أوروبا بكل عيوب الاتحاد النقدي غير المتجانس مالياً وسياسياً. هنا مقارنة بين السيناريو الأوروبي ووهم الحصانة اللبنانية وأكذوبة نبوغ المسؤولين في تجنيب لبنان تجربة مماثلة لما حصل في أوروبا، وقبلها في الولايات المتحدة. الرقم ليس هواية، والأرقام والنسب كافية لفضح الجريمة الكبرى في لبنان، التي بات الجميع يتهرّبون منها ويرمون المسؤولية على «الآخرين»... الأزمة الماليّة في قلب أوروبا للمرّة الأولى منذ إنشاء الاتحاد الأوروبي واعتماد 16 دولة عملة اليورو، ينخفض تصنيف إحدى دوله (اليونان) إلى «نسبة الهلاك» (جونك)، فيما وضعت دول أخرى تحت المجهر لمراقبة أدائها المالي (إسبانيا، البرتغال، إيرلندا وإيطاليا). هذه التطورات السريعة وغير المفاجئة ما هي إلا نتيجة لسوء الإدارة المالية في الدول والمصارف، ممّا ولّد مجتمعاً عالمياً قائماً على الاقتراض المسرف يخرج عن قدرة المقترِض لخدمة دينه، بدءاً من دولة ما إلى مواطن عادي أينما كان. وللمرّة الأولى، باتت نسب المخاطرة في دول ناشئة كالصين والهند والبرازيل وروسيا ودول الخليج أقل من تلك التي تُعدّ قلب العالم الرأسمالي كأوروبا وأميركا. اليونان هي أول دولة تقع في سلسلة متلاحقة لا يعرف الخبراء حتى الآن كيفية تفاقم الأمور فيها، وإلى أية حدود. أسئلة عديدة بدأت تطرح نفسها نتيجة الأزمة الحالية: 1ـــــ إلى أي حد يمكن منطقتي اليورو والاتحاد أن تتماسكا في وجه أوّل أزمة حادة تعصف بهما؟ 2ـــــ هل اليونان هي الوحيدة التي خالفت معاهدة ماستريخت للوحدة النقدية، والتي حدّدت عجز الموازنة السنوي بـ3% من الناتج، وحجم الدين بـ60%؟ أم أن العديد من الدول الأعضاء هي كذلك؟ 3ـــــ هل يمكن الاستمرار في وحدة نقدية من دون وحدة مالية مشتركة؟ وهل باتت الوحدة السياسية مطلوبة لتثبيت أوروبا كقوّة؟ 4ـــــ كيف يمكن الاستمرار الوحدوي في ضوء ظهور تفاوت في مستوى الدخل والبطالة وحجم الاقتصاد والدين بين دولة وأخرى؟ الأزمة البنيوية في ماليات دول جنوب أوروبا ظهرت أكثر وضوحاً بعد فشل خطة التريليون دولار (750 مليار يورو) في تطمين المستثمرين إلى التزام الدول القوية بالعملة الموحّدة ودعم الدول المرهَقة. لم يدم الاطمئنان سوى ساعات قليلة، عادت بعدها الأسواق إلى الانهيار، بما فيها فرنسا وألمانيا، العمودان الرئيسيان، نتيجة الخوف من نسبة تعرّض مصارف الدولتين لمديونية جنوب أوروبا. أما السبب الرئيسي لعدم الثقة بالخطة الإنقاذية المالية، فهو ربطها بشروط من الصعب تطبيقها بالسرعة المطلوبة. ففي الوقت الذي دخل فيه العالم في ركود اقتصادي، وانخفضت العائدات من ضرائب ورسوم، وارتفعت النفقات الحكومية، تفرض الخطة شرط خفض نسبة العجز على الناتج وتقليص النفقات لخفض حجم الدين. وبالفعل، بدأت بعض الدول كإسبانيا والبرتغال تطبيق إجراءات أحادية الجانب، منها خفض الرواتب الحكومية 5% ورفع ضريبة الـTVA إلى 21%، والدخل إلى 50%. لكن هذه الإجراءات لم تفِ بالغرض، نتيجة التخوّف من مجموع الدين العام. فالأزمة بدأت مع اليونان التي تعاني عبء 320 مليار يورو ديناً، بينما لدى كل من إسبانيا وإيطاليا حوالى 1.2 تريليون يورو ديوناً، مما رفع إجمالي الدين العام لمجموعة الـ27 إلى 11.8 تريليوناً، وبنسبة 73.6% من الناتج المجمّع. في المحصّلة، يؤكّد بول فولكر محافظ الاحتياط الفدرالي السابق ومستشار الرئيس أوباما الحالي، وجون سنو وزير الخزانة الأميركي السابق، ومارفين كينغ محافظ البنك المركزي البريطاني الحالي، أن العالم ما زال في طور الخروج جزئياً من الأزمة، ولم يخرج منها بعد، وأن الاتحاد الأوروبي لا يمكنه الاستمرار من دون تقليص المديونية وعجز الموازنات، بينما يجزم فولكر بأنّ الاتحاد غير قابل للاستمرار من دون مالية وخزينة مشتركة وأرضية سياسية في الحد الأدنى، وإلّا فستنضم دول أوروبية كبرى إلى نظرية شوفينية «أنا أوّلاً»، وتنقسم أوروبا إلى ثلاث مجموعات: شمال وغرب تضم ألمانيا وفرنسا وبعض الدول الاسكندينافية، وجنوب فيها اليونان والبرتغال، وشرق تضم الدول الخارجة من شيوعية القرن العشرين. سوء الإدارة المالية مستشرٍ في العديد من دول العالم بما فيها الاتحاد الأوروبي، وهذا ما دفع البعض في ألمانيا إلى معارضة مساعدة اليونان، لكونها بلداً لم يصل بعد إلى معايير الشفافية والمحاسبة والأخلاقية الألمانية، حيث هناك رشى وتهرّب من الضرائب وسوء إدارة إنفاق حكومية... كذلك الحال في إسبانيا والبرتغال وإيطاليا ودول أوروبا الشرقية الحديثة العضوية في الاتحاد. ولذلك يريد البعض تحميل مَن يسيء إدارة المال التبعات والعواقب. وقد نصل إلى يوم غير بعيد لا تكون فيه أوروبا كما حلم بها البعض، ونعود إلى العملات المحلية. الحالة اللبنانيّة بدأ النموّ الفعلي التصاعدي للدين اللبناني بعد عملية التلاعب بتثبيت سعر الفوائد، التي وصلت في حدها الأقصى إلى 43%، وبقيت حوالى سنتين تنخفض إلى ما بين 20 و35% بحجة تثبيت سعر الصرف، ممّا كلّف حتى الآن حوالى 35 مليار دولار فوائد. ووصل الدين إلى 65 مليار دولار، يضاف إليها أو يحسم منها حوالى 15 ملياراً، حسب الجهة التي تحتسب. البعض يحتسب 75 مليار دولار، بينما تفترض الجهات الرسمية أنّ الدين الصافي بعد حسمها ودائع القطاع العام، يبلغ حوالى 48 مليار دولار. مهما يكن الرقم، فإنه في نظر القيّمين ما زال تحت السيطرة ما دامت الودائع تزداد، بغضّ النظر عن «كلفة الثقة»، حتى أصبحت اليوم تنفق ما يفوق مليار دولار سنوياً فقط لامتصاص السيولة الفائضة التي لا يحتاج إليها السوق، والتي تؤدي في الظروف العادية إلى خفض الفوائد على الودائع بنظرية العرض والطلب. أما في لبنان، فالبنك المركزي ووزارة المال يتناوبان على امتصاص السيولة بدفع فوائد على سندات ليسا بحاجة إلى إصدارها، ولكنها تساعدهما على ضخ الدم في شريان حياة مصدر تمويل الدين العام. توافرت ظروف للبنان وحظوظ لم تتوافر لبلد آخر في الأسواق الناشئة. فمع كل الأجواء السلبية فيه وواقعه الجيوبوليتيكي وموقعه الجغرافي على خطوط تماس متواصل، وطغيان المذهبية والقبلية، وبسبب السرية المصرفية التي لا يعلم أحد ما تخفي وراءها، ارتفعت ودائعه بوتيرة غير مسبوقة، مما سهّل لأصحاب الشأن تسويق أنهم مَن أنجز ذلك من خلال «حِرفيّة» المصارف، و«نباهة» البنك المركزي ووزارة المال. صحيح أن المصارف اللبنانية بممارساتها «التقليدية» جنّبت نفسها كوارث الجشع التي ألمّت بالمصارف العالمية، ولكنها وقعت في «كرم» الخزينة اللبنانية التي عوّضتها عن المضاربات في الأسواق العالمية، ممّا أدى إلى مضاعفة رأسمالها المجمّع 30 ضعفاً. بعدها جعل هذا الزواج «العرفي الماروني» الخزينة والمصارف أسيرتين إحداهما للأخرى كالتوأم السيامي. أكذوبة أخرى ابتدعها المعنيون وصدّقوها عن أنهم هم مَن حافظوا على الذهب، الذي استطاع البنك المركزي بارتفاع أسعاره التعويض عن عملية امتصاص السيولة وتكبير حجم الكتلة النقدية على مدى الـ15 سنة الماضية، ومحو جزء من الدين العام. ولكن الحقيقة أن عدم الثقة بين ملوك لبنان السابقين والحاليين هو ما حفظ الذهب.

المنطق المالي غالباً ما يفترض أن نسبة نمو الإنفاق أسرع من ارتفاع الودائع، وبالتالي تصل المالية إلى حائط مسدود إذا ما تسارعت الوتيرة. في لبنان، وقعت حرب التحرير واغتيال الرئيس رفيق الحريري وحرب تموز 2006 ونهر البارد واعتصام وسط بيروت و7 أيار، ومع ذلك ارتفعت الودائع من 30 إلى 108 مليارات دولار. لم يشهد الخبراء في مديونية الدول ظاهرة مماثلة. لكن بدلاً من الاستفادة من ظاهرة استثنائية، تحوّل تركيز الطبقة السياسية في لبنان على استنفاد أموال الديون كما استنفدوا قبلها موارد الدولة. يمكن تلخيص خلفيات النتائج التي أوصلت الحال المالية إلى دين الـ65 مليار دولار في نهاية 2010 (الرقم الرسمي المتوقع نهاية 2010 هو 56 مليار دولار)، فضلاً عن الأرقام المخفية، إلى 3 أنواع من الممارسة والطبائع التي تحكم المشهد السياسي في لبنان: 1ـــــ الجهل: شريحة كبرى من السياسيين والجمهور تجهل حتى التفاصيل البسيطة في الأمور المالية. 2ـــــ الجشع والفجور: بغضّ النظر عن جهل الجاهلين وعلم العالمين، يشترك معظمهم في عدم لجم نزعة تقاسم مغانم الدولة ضمن نظام النفوذ السياسي الموزّع على الأقطاب الرئيسيين. والمؤسف أن الشريحة التي عاصرت التغييرات الخارجية، والتي كانت قادرة على تغيير جذري في البلاد، ساومت مع «الجاهلين الطامعين»، وشاركتهم في الإفساد وسرقة المال العام، تقودهم جميعاً الأنانية والشوفينية وتثبيت «كانتونات النبلاء» في المناطق. 3ـــــ الحقد: قد يستغرب البعض أن جزءاً كبيراً من الخلل المالي، كما السياسي، ناتج من عدم الإنجاز في العمل الحكومي الإنمائي، مما سبّب عدم إصلاح الكهرباء والمياه مثلاً، بسبب عرقلة طرف لطرف آخر حتى لا يأخذ الأخير رصيد الإنجاز.

باباندريو والحريري: حوار مفترض

يزور رئيس الوزراء اليوناني جورج باباندريو لبنان، الأسبوع المقبل. صعبٌ التكهُّن بما يمكن المسؤول اليوناني بحثه في لبنان بعد أن وصلت بلاده إلى حافة إعلان الإفلاس. هل سيأتي لينبّه سعد الحريري إلى عدم الارتياح لأنّ الأرقام الماليّة في اليونان ليست بسوء الأرقام اللبنانية، ومع ذلك اضطرّت اليونان إلى أن تكون جاثمة على ركبتيها أمام شركائها للإنقاذ؟ سيأتي ربما قلقاً لأنه يعرف أن نسبة الدين إلى الناتج في لبنان 220% وعجز موازنته 15%، وقريباً ستتخطى كلفة خدمة ديونه مجموع إيرادات الدولة؟ هل سيشرح لسعد الحريري أن اليونان تندم لأنها أخطأت في عدم ضبط ماليتها وتغاضت عن التهرّب من الضرائب ومارس بعض مسؤوليها الفساد ما أدى إلى ارتفاع الدين إلى الناتج إلى 115% وعجز الموازنة 13.6%، ولذلك حلّت بها الكارثة؟ هل سينبّهه إلى أن الأوضاع المالية في لبنان أسوأ أضعافاً من أضعف دولة أوروبية، وأن لبنان إذا وقع، ما من اتحاد سيلتقطه؟ ماذا ستكون ردّة فعل سعد الحريري على ما قد يسمعه من باباندريو؟ هل سيجيبه كما سمع كارلوس سليم بما معناه أن لبنان غير معني بتجارب الدول الأخرى ومنطق خطورة النسب المالية. بل على العكس، هو مستعد، دولةً ومسؤولين، لإعطاء النصح للدول بشأن كيفية الاستدانة والإنفاق و«تركيب الطرابيش» من غير التعرض لهزات مالية. قد يقترح الحريري على باباندريو إمكان إرسال بعض نماذج وزراء المال السابقين لإعطاء المشورة بشأن نظرية «حجم الدين ثانوي أمام تكبير حجم الاقتصاد، والدليل أن الناتج ارتفع من 10 إلى 30 مليار دولار»، وهذا «دليل عافية»، ولو ارتفع الدين من 15 إلى 65 مليار دولار، لا يهم، أو يرسل له وزيراً يهندس له «أثينا 3» بدل «تضييع الوقت» في قمم الاتحاد الأوروبي الذي «يذلّ» اليونان بينما بقي لبنان «مرفوع الرأس» في «باريس 3». وقد يبعث له وزيراً آخر بالتعاون مع البنك المركزي يشدد على أهمية كتلة الودائع النقدية التي هي مصدر الأوكسجين الرئيسي لتمويل الدولة بدل الاعتماد على الاستثمار الخارجي، الذي هو عادة ما يظهر العيوب، لكونه البائع الأول عند حصول أزمة. النموذج اللبناني هو الأسلم. زواج عرفي بين الدولة والبنك المركزي مع المصارف التي ممنوع عليها الاستثمار في الخارج. ودائعها هي رهينة كبيرة للدولة ومصرفها المركزي. تُضمن أرباح المصارف ولو بكلفة إضافية 1.2 مليار دولار سنوياً غير أرباحها التشغيلية، تعويضاً لها على «وفائها الزوجي». وسيشرح الحريري وفريقه للضيف كيف أن أسعار السندات اللبنانية لم تتأثر بكل الخضّات العالمية نتيجة «الحنكة اللبنانية». ولكن من غير الواضح ماذا سيجيب سعد الحريري باباندريو عندما يسأله الأخير: ماذا لو وصلتم إلى آخر النفق ولم تعد ودائعكم تلبي طموحات الاستدانة لسد شغف «ملوك الحزب الماسوني» وطمعهم؟ مَن سيلتقطكم؟ وما هي سيناريوهاتكم؟ «باريس 4»؟ قد يقول باباندريو: «اسمع مني يا شيخ سعد وانتبه إلى أن الذين أوصلوا البلاد إلى حالة إفلاسية ليسوا هم مَن سينتشلونه لأنهم أسرى أنفسهم، وادعُ إلى لجنة طوارئ عاجلة تضم كل القوى السياسية لتنكبّ على مواجهة ما رفضنا التصديق أنه سيحصل عندنا».

آخر تعديل على Tuesday, 01 September 2009 11:26

الأكثر قراءة