غسان ديبة - الاخبار
"الولايات المتحدة الاوروبية في ظل الرأسمالية هي إما مستحيلة أو رجعية" لينين
إن الحلم الاوروبي، خلافا لما يعتقد الكثيرون، لم يخلق بعد الحرب العالمية الثانية مع افكار روبرت شومان التي تجلت اولاً في معاهدة تشكيل مجموعة الفولاذ والفحم في عام 1950، والتي انبثق منها شيئا فشيئا في نهاية الامر الاتحاد الاوروبي.
ان الحلم بأوروبا واحدة يعود الى القرن التاسع عشر، وراود، في فترة معينة، حتى البلاشفة على شفير الحرب العالمية الاولى، إذ كانوا مقتنعين بفكرة الولايات المتحدة الجمهورية الاوروبية. وكلما استشرف البلاشفة المستقبل رأوا ان الاشتراكية الموحدة للشعوب ستكون هي التي توحد اوروبا. في كتابه "من النيب الى الاشتراكية"، في عام 1921، تخيل الاقتصادي الروسي اللامع، وصاحب نظرية التراكم الاشتراكي الاولي، يفغيني بريوبرجنسكي سلسلة محاضرات تبث على الراديو من قاعة المحاضرات في موسكو الى اماكن اخرى في روسيا في عام 1970. والمحاضرة الاخيرة تتحدث عن قيام اوروبا السوفياتية، حيث تؤدي روسيا دورا خلفيا بسبب التقدم الاقتصادي والتكنولوجي لدول مثل المانيا. ان هذا الكتاب يعكس ليس فقط تصور البلاشفة لما كانت ستكونه اوروبا في ذلك التاريخ، بل يعكس كم ان الماركسيين تخيلوا استخدام التكنولوجيا في استشراف لبث المحاضرات اليوم على اليوتيوب. هذا كان حلم البلاشفة بأوروبا اشتراكية شبيهة بما يدعو اليه اليسار الاوروبي اليوم بـ "اوروبا اجتماعية"، لا اوروبا موحدة في حد ذاتها. ولينين، بحلول عام 1915، عندما بدأت الدول الامبريالية الاوروبية تطحن خيرة ابنائها في اتون الحرب الكبرى، كتب في ما يشبه التنبؤ بأزمة الاتحاد الأوروبي اليوم "إن الولايات المتحدة الاوروبية في ظل الرأسمالية هي اما مستحيلة او رجعية". اوروبا اليوم لم يضرب مشروعها الموحد الإستفتاء في بريطانيا فقط، بل ضربتها فعليا السياسات التقشفية والمعادية للديمقراطية وللعمال التي اتبعها الاتحاد ومؤسسات اليورو، والتي تجلت في اوجها في الحرب الاقتصادية التي شنتها على اليونان الترويكا، التي مثّل الاتحاد الاوروبي احد اعمدتها بالاضافة الى البنك المركزي الاوروبي وصندوق النقد الدولي. فبعد ازمة عام 2008 تبين بوضوح كم ان اوروبا "رجعية" في ظل الرأسمال المالي والعابر للحدود، الذي كان احد تجلياته استدانة جنوب اوروبا من شمالها. والآن بعدما بدأت الشعوب الاوروبية من اليونان الى بريطانيا الى البرتغال وغيرها تأخذ زمام المبادرة في الانتفاضة على هذا النظام الاوروبي، بدأ المشروع الاوروبي يبدو "مستحيلا" كما قال لينين، وبدأ التدمير لأوروبا من الداخل.
في المملكة المتحدة كان الانقسام، إلى حد كبير، طبقيا. فشمال انكلترا الصناعي، على الرغم من ميوله الى حزب العمال الذي دعم حملة البقاء، صوّت مع الخروج، لأن مصالحه بدأت تتعارض مع مركز لندن المالي وحركة رأس المال الذي يفتش عن تعظيم الربح. في هذا الاطار، لدى حزب العمال البريطاني فرصة الآن للتوجه الى الطبقة العاملة البريطانية لحمل لوائها والذهاب اكثر فاكثر الى مشروع اشتراكي بريطاني. وقد احس اليمين العمالي، الذي يمثل ارث توني بلير، بهذا الاحتمال، فانتفض بمحاولة انقلابية على زعيمه الجديد جيريمي كوربين محاولا استعادة الحزب الى "الطريق الثالث" بدلا من استمرار توجهه نحو اليسار. والحجة التي يسوقها الانقلابيون هي المعزوفة القديمة التي اعتاد يسار الوسط وأتباع توني بلير وشرودر وغيرهم لعبها، وهي ان هدف اليسار المقدرة على الحكم، والآن المرحلة هي مرحلة تفاوض مع اوروبا، وبالتالي فإن الوصف الوظيفي (Job description) لرئيس حزب العمال تغير من مناضل الى مفاوض! إن هذا الموقف، المغلف بالتقنية، يمثّل محاولة اخيرة لبقايا البليريين لاستعادة السيطرة على الحزب، وهو لن ينطلي على احد ولن ينجح الانقلاب، لأن غالبية قواعد الحزب تدعم الخط اليساري الجديد لكوربين. اضافة الى هذه المحاولات السياسية المباشرة، هناك أيضا محاولات لتصوير الخروج وكأنه غلطة ارتكبها الناس في غفلة ونتيجة حماسة في غير محلها. والبعض يطالب بإعادة الاستفتاء بعدما عاد الناس الى رشدهم بسبب "الكارثة" التي حلّت بالاقتصاد البريطاني. اكثر التحليلات غرابة في هذا الاطار يتمحور حول "سيكولوجيا" الخروج البريطاني. اذ يقول احد أساتذة علم النفس ان الناس لديهم "نزعة تدميرية" يستقونها من عدم تمكنهم من السيطرة على المستقبل في حياتهم الشخصية، اضافة الى نوع من الشعور بالذنب من كونهم يتلقون "مساعدات" مادية عبر اليات الدعم واعادة التوزيع للاتحاد الاوروبي، وبالتالي ينتفضون على وضعهم "المزري" عبر عض اليد التي تطعمهم! الى جانب هذا التحليل الاكاديمي السيكولوجي الجماعي، غير المؤذي عامة، هناك خطر اليمين المتطرف الذي يحاول ان يجعل من هذا الخروج مطية لسياساته القومية والمعادية للاجانب واليسار. في مواجهة التفسيرات ومحاولات الاستغلال والبروباغندا التخويفية، علينا أن نؤكد مرة تلو الاخرى أنّ تفكك اوروبا جزء من مسار الأزمة الرأسمالية التي بدأت عام 2008، والتي انتجت هذه الحالة واعادت خلط الاوراق السياسية بعد عقود من سيطرة ثنائية يمين ويسار الوسط. في هذ الاطار، سيكون لدى اليسار الاوروبي الاجابة العصرية والتقدمية على الازمة ومفاعيلها عبر اعادة الروح لمشروع اوروبا اجتماعية؛ اوروبا العمال والموظفين والعمل اللائق حيث يعاد توزيع الثروة والدخل باتجاه تلبية حاجات المستقبل وحاجات الشباب الاوروبي، الذي يرزح الان تحت نظام ينتج البطالة واجور متدنية، ويرزح تحت تهديد خطر داهم من الرأسمال المتربص للقضاء على المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي تحققت في المئة سنة الماضية؛ هذه المكاسب التي جعلت من اوروبا منارة للتقدم والحضارة. ان اليسار الاوروبي مدعو اذا الى حمل هذه الراية التي تحقق الحلم الاوروبي الحقيقي بعيدا عن الكابوس الذي يعيشه الكثيرون اليوم، وحتى لا تخرج اوروبا من الوحدة الى الفاشية والقومية المتطرفة التي لم تنتج تاريخيا الا الحروب والمآسي.