يعدّ الحراك الشعبي الذي انطلق في تموز الماضي أهم حدث سياسي وإجتماعي لهذا العام. نزل آلاف الناس الى الشوارع والساحات منتفضين على الطبقة الحاكمة التي أغرقتهم بالنفايات، لكن مع انتهاء عام 2015 إنتهى الحراك من دون أن يحقق أي نتائج ملموسة، بل على العكس اختارت السلطة خياراً أسوأ من الذي كان مطروحاً ضاربةً عرض الحائط بمطالب الحراك، إذ قررت ترحيل النفايات والإستعداد لتشغيل المحارق
إيفا الشوفي - الاخبار
نهاية الحراك الشعبي، الذي انطلق في تموز الماضي، كانت متوقعة منذ أن استعرت الخلافات بين مجموعاته، وقد مثّل فشل لجنة التنسيق الضربة القاضية له. ممّا لا شك فيه أنّ الحراك مثّل بارقة أمل للكثير من المواطنين الذين استرجعوا طموحات التغيير. في 22 آب، لحظة الإنطلاقة الفعلية، أخاف الناس الذين احتلوا وسط بيروت السلطة، فطلب رئيس الوزراء تمام سلام التفاوض مع الناشطين في الحراك وتحديداً مع حملة «طلعت ريحتكم».
كان هذا الإعتراف الأول من السلطة بالقوة التأثيرية التي خلقها الحراك إلا أن الناشطين رفضوا التفاوض. ظهرت المجموعات والحملات المشابهة لـ «طلعت ريحتكم» وبدأت الخلافات بينها، فيما توحّدت قوى السلطة ضد الناس علناً واجتمعت على طاولة الحوار لمواجهة الحراك الذي هزّ النظام القائم. الخلاف الاساسي تمحور على أهداف الحراك: إزالة النفايات من الشارع او اعتبار أزمة النفايات تعبر عن أزمة النظام وبالتالي فرض تغيير طريقة النظام في التعامل مع هذه القضايا عبر فرض حل شفاف وبيئي بعيد عن منطق المحاصصة بين القوى السياسية، أم إجراء انتخابات نيابية وفق قانون نسبي عادل بهدف اختراق هذه السلطة او تحريض ثورة البلديات على السلطة السياسية المركزية. فعلياً لم تصل المجموعات إلى رؤية واضحة وموحدة لهدف الحراك او برنامجه، وعندما حاولت «مجبرة» أن تنسّق مع بعضها بعضا (لا أن تتحد كما يقتضي المسار الطبيعي للأمور) فشلت لأسباب عدّة أبرزها إصرار حملة «طلعت ريحتكم» على الإستئثار بقيادة الشارع الذي لا يمكن انكار أنها كانت المحفّز الأول له. بالرغم من هذه الخلافات حافظ الحراك على قوته في الشارع وبقي قوّة ضاغطة على القوى السياسية التي طرحت للمرة الثانية التفاوض بعد اقرار خطة شهيب، وهذه المرة مع الخبراء البيئيين في الحراك، الا ان مجموعات الحراك طرحت الخطة البديلة من دون ان تحوّلها الى برنامج موحد للعمل السياسي. حتى تلك اللحظة كانت السلطة لا تزال خائفة من الحراك، إلا أن الحراك ما لبث أن غرق في خلافاته فانفرط ضمنياً عقد لجنة التنسيق التي عُرفت بـ «لجنة متابعة تحرك 29 آب» وبدأت المجموعات تغرّد كلّ على موالها. هكذا إذاً خاض الحراك تجربةً عكسية إذ ان سياق الأمور تاريخياً يقضي باتحاد القوى المعارضة واتفاقها على أرضية مشتركة تنطلق منها لمجابهة النظام على أن تنفرط هذه الوحدة بعد تحقيق انتصارات على النظام، إلا أن تجربة هذا العام بدأت بتنازع وتنافس المجموعات في ما بينها قبل تحقيق أي إنجاز. هكذا إذاً تعاملت المجموعات بسذاجة في مجابهة قوى النظام التي توحدت للدفاع عن مصالحها متناسيةً أن هذا النظام قوي ويسيطر على اجهزة الامن والقضاء والإعلام والمؤسسات… في التظاهرة المركزية الأخيرة، في 20 كانون الأول، حاولت المجموعات أن تعيد إحياء الحراك لكنّ الناس لم ينزلوا. أدركت السلطة باكراً أن الحراك انتهى فعادت إلى إنجاز صفقاتها وهذه المرة بطريقة أسوأ من السابق، فأقرّت ترحيل النفايات وتشغيل المحارق بعدما سمحت للمتظاهرين الذين كانوا بالعشرات فقط بالدخول للمرة الأولى إلى أقرب نقطة لهم من مقر مجلس الوزراء غير آبهةٍ بأي هتافات تصدر عنهم. رفضت المجموعات ضمنياً خيار الترحيل لكنها لم تحدد خطواتها اللاحقة ولم يصدر عن الحراك (موحّداً) بيان يستنكر الأمر على الأقل. هكذا، مثّل قرار مجلس الوزراء نعياً رسمياً لما بدأ منذ خمسة أشهر.
كأنها في حرب عصابات
تتمسّك المجموعات بـ»استمرارية الحراك» إلا انها بدأت تتعامل بواقعية مع الأمر مع اعترافها بأن الزخم لم يعد كما كان وأن الإستمرارية تحتاج إلى شروط معينة. في الواقع إعادة إحياء الحراك، أو «ضمان استمرارية» الحراك، تتطلّب مراجعةً نقدية قاسية لتجربة عام 2015 تقوم على نسف جميع الاسس التي قامت عليها والتوحّد في مواجهة النظام عبر بناء قوة سياسية فعلية إضافةً إلى الإبتعاد عن منطق إقصاء كل القوى السياسية وبدء العمل على استقطاب قواعدها. «الاخبار» طرحت مجموعة من الاسئلة على المجموعات الأكثر نشاطا وظهوراً في الحراك، وذلك بهدف استخلاص تقييم اولي من داخلها، الا ان ثلاث مجموعات فقط اجابت على الاسئلة، هي «طلعت ريحتكم»، «الشعب يريد» و«جايي التغيير»، واجوبتها لم تتوافق، إذ اختلف تقييم أخطاء الحراك والمجموعات بشكل جذري بينها، لتتوافق فقط على أهمية الإتحاد لمواجهة السلطة. في حين ان حملة «بدنا نحاسب» اعتذرت عن الاجابة واعلنت انها تحتفظ بتقييمها لنفسها ولا تريد ان تعلنه الآن، ما يعني انها لا تزال تتعاطى بالسرية نفسها التي انتهجتها المجموعات في تحركاتها «المفاجئة» و«المجهولة» طوال الحراك وكأنها في حرب عصابات، ما شكّل عنصراً اساسياًَ في إبعاد الناس عن الحراك، ترى حملة «طلعت ريحتكم» انّ تعدد المطالب وانغماس الحراك في الخطاب التقليدي كانا خطأين وقع فيهما الحراك، في حين تعتبر مجموعة «جايي التغيير» أن خطأ الحراك الأبرز هو الإخفاق في التعامل تكتيكياً مع السلطة السياسية، لتؤكد مجموعة «الشعب يريد» أنّ الحراك فشل في التصرف كقوة سياسية وازنة قادرة على التفاوض وبقي قوة اعتراضية بحت.
الشيطنة
في تقييم الحراك بشكل عام، تعتبر «طلعت ريحتكم» أنّ الحراك وقع في لحظات كثيرة أسير الأمر الواقع ما أضاع البوصلة، فعندما كانت السلطة تعتقل المتظاهرين كان الحراك يتحوّل لأيام بأكمله باتجاه تحرير المعتقلين. كذلك كان يجب على الحراك عدم الإنجرار الى العنف الذي مارسته السلطة إذ انّ الحملة تؤمن «بالأعمال المباشرة اللاعنفية التي نواجه فيها السلطة من دون استخدام العنف وهذا ما فعلناه عندما وصلنا الى اقرب نقطة من ساحة النجمة عبر رفع الأيدي فقط، كذلك في وزارة البيئة». تعلن الحملة بصراحة الإشكالية الأبرز التي واجهت الحراك في هذا المجال، «ما حصل هو أننا كنا أمام سؤال واضح: هل نريد إصلاح النظام أم نريد ثورة؟ الخيار الأول يتطلب الإبتعاد عن العنف أما الخيار الثاني فلا يمكن أن يحدث بطبيعة الحال من دون عنف، إلا أن أحداً لم يجب على هذا السؤال».
مجموعة «الشعب يريد» تذهب أعمق في تقييم أخطاء الحراك فتعلن أن هناك أربعة أخطاء أساسية وقع فيها الحراك. أولاً «لم نستطع استغلال الفرص التي سنحت أمامنا حين نجحنا في حشد الكثير من الناس، ففشلنا في التصرف كقوة سياسية وازنة قادرة على التفاوض. عوضًا عن ذلك تصرفنا كقوة اعتراضية بحت وهذا ما منعنا من انتزاع مكاسب أساسية ومفصلية، ورفضنا أي تفاوض جدي مع السلطة». الخطأ الثاني هو وقوع الحراك في فخ تكرار التحركات نفسها فقد «فصلنا أنفسنا عن الأحياء الشعبية والمناطق الأخرى، ولم نستطع التواصل مع الناس بشكل مستمر. كذلك استدرجتنا السلطة ونجحت في عزلنا في الوسط التجاري وتحولنا الى هايد بارك ولم نستطع المحافظة على الزخم». تعتقد المجموعة أن «الاصرار على الدخول الى ساحة النجمة فقد معناه إذ تم إفراغه من معناه السياسي». فشل الحراك برأي «الشعب يريد» في خلق خطاب بديل، «بل على العكس استدرجتنا السلطة الى سرديتها، تحديدا في موضوع العنف وغرقنا في دوامة التبرير عوضا عن فرض خطابنا وسرديتنا. فخسرنا معركة الخطاب بشكل كبير ونجحت السلطة بشيطنة الحراك». أما إجتماعات التنسيق فقد «فشلت بشكل ذريع ببلورة رؤية وتنسيق واضح مبني على أهداف، وكانت طاولة لحل الخلافات عوضا عن التنسيق لخطة متوسطة الأمد. كما أنها أخذت طابعًا اقصائيًا على المستوى العمري، وفشلت بإشراك الناس بالنقاش والقرارات، واختزلت هذه المشاركة الى النزول الى التظاهرات والتفرج على الشاشات، فتحول الناس الى مشاهدين عوضًا عن فاعلين».
وحدة الحراك والتنظيم
من جهتها، تعتبر «جايي التغيير» أنّ «الحراك أخفق في التعامل تكتيكيّاً مع السلطة السياسيّة. ففي الوقت الذي شكّل فيه الحراك حالة ضغط كبيرة على السلطة السياسيّة ووضعها في حالة إرباك كبيرة، وكان هو من يتحكّم بردّات فعل رموز السلطة، انعكس واقع الأمر حين استطاع رموز السلطة بعقلهم المافيوي والأمني أن يقلبوا المعادلة». تؤكد المجموعة أنّ «إمكانيّة الإستمرار بالحراك تخضع لمدى تجاوب كلّ الحملات والقيّمين عليها لمسألة وحدة الحراك ومهمّة تحقيقها» وهو ما توافق عليه «طلعت ريحتكم». أمّا «الشعب يريد» فتؤكد أنّ «التحركات المستقبلية لا يمكن ان تستمر بنفس الاستراتيجيات والمنطق، وعلى كل المجموعات تقديم تقييم واضح للتجربة بنجاحاتها واخفاقاتها وتحديد الأخطاء وكيفية تجنبها». وتعلن أن أحد أهم الدروس التي اكتسبتها هي إدراك «أهمية التنظيم والتكتل على مستويات مختلفة: الأحياء، المصالح، العمل، الطلاب… فلا يمكن إحداث أي تغيير خارج بناء أطر تنظيمية يستطيع الناس من خلالها المطالبة بحقوقهم والضغط». إضافة الى ضرورة «بناء رؤية واضحة وبرنامج واضح وعدم تجزئة القضية فالجميع بحاجة الى الوضوح، والى بناء بديل يتم بلورته مع الناس لا بإقصائهم».
الحراك في أرقام
■ 250 متظاهرا ومتظاهرة جرى اعتقالهم منذ بدء الحراك في شهر تموز من بينهم أكثر من 23 قاصراً. ومساء 8 تشرين الأول 2015 اعتقلت القوى الأمنية 50 متظاهراً. نفذت الاعتقالات استخبارات الجيش وشعبة المعلومات وفرق الاستقصاء وقوى مكافحة الشغب. ■ بين 22 آب و9 أيلول نقل الصليب الأحمر اللبناني 69 مصابا بين صفوف المدنيين مقابل 26 مصابا من جانب العسكريين. كما أقدم المسعفون على معالجة 494 إصابة في مكان التظاهرات. ■ 54 متظاهرا ومتظاهرة هو عدد المدنيين المدعى عليهم أمام القضاء العسكري منذ بدء الحراك. في11 تشرين الثاني أصدر قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا قرارا ظنيا وأحال 15 متظاهراً للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية. المصدر: توثيق المفكرة القانونية، غيدة فرنجية وسارة ونسا