غسان ديبة - ألاخبار
«ان الرأسمال في حد ذاته تناقض متحرك من حيث سعيه لخفض وقت العمل الى حده الادنى بينما في الجانب الآخر يطرح وقت العمل كمحدد وحيد لقياس الثروة ولأصلها أيضاً» كارل ماركس
في الشهر الماضي، في بيروت، حضر اللبنانيون فيلم «ستيف جوبز». خاب امل البعض مما اعتبره رداءة الفيلم، لكن الفيلم وقبله فيلم «جوبز» في 2013 عرضا لنا صورة حول شخصية جوبز وأيضاً جزيئيات من افكار احد اهم رواد التكنولوجيا الرقمية في العالم. رأى جوبز في التكنولوجيا امكانية ان تكون امتداداً للانسان، وبالتالي اراد ان تكون التصاميم اكثر تماهياً مع هذه الامكانية بدلاً من كونها تشبع حاجات الانتاج الرأسمالي.
فكانت افكاره ثورية لا تتبع حسابات الربح والخسارة في الاسواق الموجودة، وتحوّل الى بطل شومبيتيريا يخلق أسواقاً ويدمر اخرى لحفز ديناميكية الابتكار والخلق. ولتحقيق ذلك جمع في السبعينيات حوله أشخاصاً رفضوا أن يكونوا تابعين للنظم الحديدية لراسمالية الاستهلاك الضخم والعمل الرتيب، التي كانت لا تزال مسيطرة في تلك الفترة، ومنهم رود هولت، المهندس الذي صمم نظام الطاقة الكهربائي الثوري للكمبيوتر Apple II، والذي قال عنه أحد الذين عرفوه: «لقد شرح لي انه ماركسي لأنه كعالم يعرف أن أيام الراسمالية اصبحت معدودة ولذلك فإنها، منطقياً، سيتم استبدالها بنظام آخر وهي الاشتراكية». اليوم، ما زالت الرأسمالية، التي غلبت جوبز مرة شخصياً في حياته وابتلعته ورفاقه المتمردين في النهاية، هي التي تحدد امكنة عمل التكنولوجيا حسب منطق الربح. في هذا الاطار، ان ما اراده جوبز ان يكون من اشكال التحرر الفردي وصورة المستقبل الآتية بدأ يأخذ أشكالاً أكثر شيطانية. إن الحوسبة (Computerization) في العمل والتصنيع وأداء المهمات وعملنة المعلومات بدأت تستبدل الفرد والعمل الانساني في سعي الرأسمال للمنافسة والربح، ولكن في الوقت نفسه بدأ هذا الاستبدال أيضاً يرسم ملامح أزمة الرأسمالية المقبلة. هذا ليس من الخيال العلمي، اذ من المتوقع وصول البطالة في الدول الراسمالية المتقدمة الى معدلات عالية جداً في خلال الثلاثين سنة المقبلة. ففي تقرير صدر مؤخراً عن معهد نومورا للابحاث في اليابان فإن الروبوتات يمكن تقنياً ان تستولي على نصف الوظائف هناك بحلول 2035. العقبة الاساسية في عملية الاستبدال هذه يضعها رئيس فريق البحث في نومورا على انها اجتماعية حيث يقول: «إن هذه الحسابات لا تأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية». المسألة طبعاً أعمق من ذلك وتذهب الى حدّ هزّ اسس الرأسمالية وصولاً الى ما قاله هولت حول نهايتها المحتومة.
في مقالة سابقة تحت عنوان «لعبة ماركس الاخيرة» www.al-akhbar.com/node/228628، ذكرت ملاحظات ماركس حول الآلات واستشرافاته حول دور الآلة في المستقبل، وصولاً الى حد انتفاء القيمة المبنية على العمل، ما يطرح أسئلة كبرى حول مصير التنظيم الرأسمالي للمجتمع المبني على العمل المأجور وبشكل خاص مسألة إنتاج وتوزيع الدخل في ظل الأتمتة القادمة. إن البورجوازية هي منذ الآن أمام خيارات متناقضة فهي في الوقت نفسه تحاول استبدال العامل وتحتاجه أكثر من أجل الاستهلاك والعمل تحت سيطرتها. في الولايات المتحدة بيّنت الاحصاءات مؤخراً ان جيل الشباب او ما يعرف بالالفيين (millenials) لا ينفقون ولا يدّخرون كما يجب ليس لأنهم لا يريدون او ينبذون المجتمع الاستهلاكي، كما فعل اسلافهم في الستينيات، بل لأن مداخيلهم متدنية وهذا حصل نتيجة ثلاثة عوامل وهي ميل حصة الأجور للانخفاض في الثلاثين سنة الماضية والأزمة الرأسمالية الأخيرة والتطور التكنولوجي. في هذا الإطار، سيطرح في فنلندا في 2016 مشروع الدخل الاساسي (basic income)، اي ان تعطي الدولة لكل مواطن فنلندي 9600 يورو في السنة. كما يدعو البعض الى شيء مماثل في المملكة المتحدة. على الرغم من ان هذه الطروحات تأتي في سياق تبسيط نظم الحماية الاجتماعية إلا أنها تؤشر الى شكل توزيع الدخل القادم في المستقبل حيث تنتج الآلات اكثرية السلع فتضع الدولة الضرائب على مداخيل الرأسماليين لتحويل الجزء الاكبر منها الى المواطنين، الذين بأكثريتهم سيصبحون خارج اطار العمل. وقد تنبّه احد كتاب مجلة Fortune الى ذلك فوصف الدخل الاساسي بالفكرة المجنونة، اذ ربطها بما قد يطرح مستقبلاً لمحاربة البطالة التكنولوجية. في حسهم الرأسمالي، فإن المعارضين يعلمون ان هذا التنظيم من ضمن الراسمالية سيخلق تناقضات كبيرة ويطرح الملكية الخاصة على المحك، وبالتالي ستجد المجتمعات نفسها مضطرة الى تبني التنظيم الاشتراكي في الانتاج والتوزيع. لم يكن ستيف جوبز رجلاً عادياً في فكره وإقدامه، وحتى في قساوته، ولكنه عمل في مجتمع غير حاضر بعد لاستقبال فلسفته المبنية على تماهي اللعب والابتكار والتكنولوجيا والاندماج الطيب للانسان والآلة. لكن الراسمالية بمنطقها القاسي تحضر المجتمع الآن لامكانية حصول هذا، فمن ناحية تحضر القاعدة المادية لمجتمع الأتمتة والوفرة التي لا تستطيع ان تحكمه بقوانينها، اي انها، كما قال ماركس وانجلز، كالساحر الذي فقد السيطرة على نتاج سحره وفي الوقت نفسه تنتج «حفاري قبورها». لكنها لا تكتفي بذلك، فكما قال لينين فهي تبيعهم الحبل الذي سيشنقوها به، وهم لن يكونوا فقط البروليتاريا كما في الزمن الاول للآلة بل المجتمع ككل في زمنها الثاني. هذا هو الأمل الوحيد، فلعبة ماركس الاخيرة تفتح ابواب التاريخ امام عصر التكنولوجيا للانسان، الذي حلمت بجزيئيات منه تلك المجموعة المتمردة في تلك الايام من سبعينيات القرن الماضي، في وجه امكانية ان تعيق الرأسمالية التطور التكنولوجي أو أن تنتج عصر الـ cyborg والفاشية الجديدة.