عمر ديب - الاخبار
حملت الانتخابات النيابية الأخيرة هزيمة قاسية للحزب الاشتراكي الفنزويلي الموحد وحلفائه، بعد أن نال تحالف قوى اليمين المعارض ما يقارب ثلثي مقاعد البرلمان. وأتت هذه الهزيمة الانتخابية الأولى للتيار «البوليفاري» الذي أسسه وقاده الرئيس الراحل هوغو تشافيز منذ 17 عاماً حاملاً شعارات التحرر السياسي والاقتصادي لدول أميركا اللاتينية، وهو الحلم الذي عم معظم دول القارة الجنوبية فتحولت معظمها إلى حكم اليسار بمختلف أطيافه باستثناء كولومبيا التي ظلت القاعدة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية جنوباً طوال تلك المدة.
كثيرة هي الإنجازات التي حققتها الثورة البوليفارية في السنوات الماضية، وتحديداً خلال عهد تشافيز، والتي تمثلت بالاستقلال السياسي الحقيقي لتلك الدولة عن إملاءات المشروع الأميركي، سواء على المستوى الداخلي أو الدولي الذي كانت أوضح تجلياته في انحياز فنزويلا ومعها معظم القارة لصالح قضايا التحرر والمقاومة وتحديداً في فلسطين. ومن أبرز الخطوات التي اتخذتها فنزويلا كانت سحب سفيرها وطرد سفير العدو الاسرائيلي خلال العدوان على غزة وكذلك خلال العدوان الصهيوني على لبنان، ووقوفها إلى جانب فلسطين في كل الاستحقاقات الدولية وتحديداً في الأمم المتحدة ناهيك عن المنح الدراسية للطلاب الفلسطينيين. وعلى الصعيد الفنزويلي الداخلي، كانت الانجازات كثيرة أيضاً، وأبرزها انحياز الدولة بسياساتها وخططها التنموية لصالح الفئات الأكثر فقراً، فحولت عائدات النفط لمصلحة فقراء البلاد، حيث تركزت الخطط التنموية على بناء المساكن الشعبية وتقديمها مجاناً أو رمزياً لمن ليس لديهم مأوى. كذلك تمكن اليسار في الحكم من تعميم التعليم على الفئات الاجتماعية كافة ووصلت نسبة الأمية إلى الصفر بشهادة منظمات الأمم المتحدة ومنها الأونيسكو بعد أن كان مئات الآلاف من الفنزويليين أميين. وعلى صعيد الصحة، استعانت الدولة بالأطباء الكوبيين إلى جانب الفنزويليين ونشرتهم في عيادات طبية مجانية في كل القرى وأحياء المدن. كذلك كرس تشافيز الثورة الديمقراطية في البلاد، حيث الانتخابات والاستفتاءات أصبحت محطة دائمة تعكس آراء المواطنين في قارة حكمتها دكتاتوريات عسكرية رجعية على مدى عقود. هذه السياسات شكلت حاضنة شعبية واسعة للمشروع البوليفاري بين الفقراء، فحملوا مشروع الرئيس تشافيز ودافعوا عنه بعد أن دافع عنهم، وحموا ثورته بوجه كل المؤامرات. نزلوا ضد العسكر عندما انقلب الجيش على السلطة وأعادوا الرئيس المعزول رئيساً معززاً قوياً. أعطوه ثقتهم في صناديق الاقتراع النيابية والرئاسية وفي الاستفتاءات العديدة التي نظمتها الدولة حول تعديلات دستورية متنوعة، كما أعطوا الرئيس مادورو أصواتهم، وإن بنسب أقل في الانتخابات الرئاسية بعد رحيل تشافيز. صار للثورة جمهورها وأهلها وحماتها بعد أن صارت لهم حقوق إنسانية سياسية واقتصادية حرموا منها قبل ذلك. صار عندهم حافز الاقتراع ورفاهية الاختيار السياسي لأن الدولة مكنتهم سياسياً إلى جانب تمكينهم اقتصادياً، بعد أن كانوا خارج الصراع السياسي كفئات اجتماعية مهمشة.
لكن الثورة البوليفارية، وفيما كانت تصنع جمهورها، خلقت أيضاً أعداءها. الانحياز لمصلحة الفئات المهمشة كان على حساب الطبقات المهيمنة اقتصادياً والقائمة على البورجوازية النفطية والتجارية، وعلى الاقتصاد الريعي المرتبط بالشركات العابرة للحدود، والمرتبطة سياسياً واقتصادياً بالرأسمال الإقليمي والأميركي. أممت الدولة النفط ومنعت تهريب الأموال إلى الخارج، وحددت أسعار السلع الأساسية ورفعت الأجور. هذه السياسات حدت من هامش الربح والاستغلال عند الفئة المهيمنة، ومنعت الأجانب (ومنهم اللبنانيون) من نقل أموال البلاد إلى الخارج. تكونت من كل هؤلاء فئة متضررة سرعان ما وثقت تحالفها مع الولايات المتحدة الأميركية لتخوض حرباً سياسية واقتصادية شعواء على الدولة الفنزويلية. امتلاك وسائل الإعلام واستغلال هامش الحريات الواسع، والدعم الخارجي المادي أعطى المعارضة منبراً أساسياً لتقويض صورة الحكم. وكان الخصم الأقوى للمشروع البوليفاري، كما هو لكل مشروع اشتراكي، الفساد المستشري في إدارات الدولة فكان الفاسدون من فريق الرئيس أو من خصومه يسخرون كل نفوذهم للاستفادة من مقدرات الدولة وتحقيق الثروات. هذه الفئة الطفيلية كانت تحتكر السلع المدعومة وتخفيها من السوق لتعيد بيعها في الدول المجاورة بأسعار مضاعفة فتحقق ثروات ضخمة فيما تختفي هذه السلع من الأسواق وينتظر المواطنون أياماً أو أسابيع للحصول على السكر أو الخبز المدعوم حكومياً. استغل المضاربون تثبيت سعر الصرف الرسمي على مستويات مقبولة للمواطنين العاديين فقاموا، وبالتعاون مع شبكات خارجية، بعمليات تلاعب بسعر الصرف لجمع الدولارات من المصارف الرسمية على أساس السعر المحدد والتحكم بالتداولات في السوق السوداء حيث وصل السعر عشرات أضعاف السعر الرسمي. فقد المواطنون القدرة الشرائية فصار سعر السلع المستوردة وغير المدعومة من الدولة خيالياً بالنسبة للمواطن العادي. تركيبة رهيبة من فاسدين داخل النظام، ومن معارضة مدعومة سياسياً وإعلامياً ومادياً من الخارج، وانهيار في القيمة الشرائية للأجور وارتفاع أسعار السلع إن وجدت، أدت إلى تردي أوضاع الناس بشكل كبير وانتشار الفقر من جديد وتنامي الجريمة. كلها سويةً رسمت قدراً محتوماً للثورة البوليفارية: استياء الناس وغضبهم وبدء ابتعادهم عنها. هم نفس الناس الذين أيدوها حينما كانت وسيلتهم للترقي الاقتصادي والاجتماعي، فحموها بأجسادهم كما بأوراق اقتراعهم، وهم الذين ضاقوا ذرعاً بالفساد والفقر والجريمة فانقلب جزء منهم ضدها من دون الاكتراث للخلفيات الحقيقية التي أوصلت الأمور لما وصلت إليه. حاول الرئيس مادورو اجتراح المعالجات لهذا المأزق المحكم من كل الاتجاهات كما حاول الرئيس تشافيز في آخر أيام حكمه، لكن بأس الفاسدين والطفيليين والرأسمال المحلي وداعميه الخارجيين كان أقوى من كل الدولة وسياساتها وأجهزتها ففشلوا في حل الأزمة. نتيجة الانتخابات النيابية كانت ترجمةً لهذه الهزيمة في صندوق الاقتراع بعد أن كانت قد تحققت قبل ذلك في الواقع المادي. هزيمة لا تعني نهاية الطريق فالرئيس لا زال في الحكم والمعركة مفتوحة على كل الاحتمالات، ولعل خسارة المعركة تدق أجراس الاستنفار الرسمي والشعبي من أجل إعادة تصويب الأمور مستقبلاً. نجحت الثورة البوليفارية حيث فشل الآخرون. قدمت الكثير من المنجزات الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين الأكثر فقراً، لكن الأهم أنها كرست المواطنين شريكاً أساسياً في منظومة الحكم. يتوجهون إلى الصناديق ليرفعوا سلطة أو ينزلوها، وكي يحموا نظاماً أو يعاقبوه. قوة الثورة البوليفارية أنها أنتجت، ضمن ما أنتجته، إمكانية معاقبتها، ولعل ذلك أعمق انتصاراتها في قارة اعتادت حكم الدكتاتوريات. نجح البوليفاريون ولو هزموا. * ناشط يساري ــــ لبنان