أزمة الرأسمالية اللبنانية: بؤس المبادرة الفردية

أزمة الرأسمالية اللبنانية: بؤس المبادرة الفردية
01 Oct
2015

غسان ديبة- الاخبار

«في الغالب يتم الافتراض بأن الاقتصاد المبني على المؤسسات الخاصة (الراسمالي) لديه انحياز أوتوماتيكي للابتكار، ولكن هذا ليس صحيحاً. إن هذا الاقتصاد لديه فقط انحياز لتحقيق الربح» اريك هوبسباوم

قد يظن البعض أن أزمة الرأسمالية اللبنانية في لبنان هي مسألة عابرة أو دورية، وقد يعترف بعض الرأسماليين اللبنانيين والمدافعين عنهم من الاقتصاديين من جميع الألوان تحت الضغط ببعض أخطاء النموذج الاقتصادي اللبناني الذي بني بعد الحرب في ما يخص مجالات عديدة منه مثل ارتفاع الفوائد أو الاستدانة العامة.

إلا أن الكثيرين يظنون أن للبنان خاصية فريدة لا يمكن نقدها وتعتبر اللازمة الأساسية للبنان منذ الاستقلال حتى الآن، ألا وهي «المبادرة الفردية» التي رفعت إلى مستوى القداسة وربطت أونتولوجياً مع وجود لبنان ككيان. ومن أجل ضمان هذا الترابط وضع في مقدمة الدستور أن «النظام الاقتصادي الحر يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة» حتى لا يجرؤ أحد حتى على مجرد التفكير بشكل آخر من التحفيز الاقتصادي. وتعتبر هذه الخاصية الملاذ الأخير للاقتصاد اللبناني، فإن هي بخير فالاقتصاد بخير. لكن «المبادرة الفردية» هي ليست الأساس في هذا الاقتصاد ولا في الاستحواذ على الثروة فيه، بل أكثر من ذلك فإنها بدأت تأخذ أشكالاً تدميرية تؤدي إلى تعميق أزمة الرأسمالية اللبنانية. السؤال الأساسي هو: هل المبادرة الفردية تؤدي إلى الابتكار والتقدم التكنولوجي في النظام الرأسمالي الحديث؟ يقول الاقتصادي في جامعة كامبريدج ها جون تشانغان، إن المبادر ــ البطل الذي تكلم عنه الاقتصادي النمسوي جوزيف شومبيتر انتهى ولم يعد له مكان في الرأسمالية. الآن النظم الكبيرة والجماعية (collective) هي المحرك الرئيسي لخلق التكنولوجيا وتطبيقها. ودور الدولة هنا أساسي في هذه العملية. وقد تراجع دور المبادرين الذين يمكن قياسهم بعدد العاملين لحسابهم في الاقتصادات المتقدمة الى ما دون 10% من القوى العاملة، أما في الدول النامية فيطغى دور المبادرين، إذ يصلون إلى ما بين 30 - 50% من القوى العاملة. وكلما تخلف الاقتصاد، زاد العاملون لحسابهم أو «المبادرون» وليس العكس كما يعتقد أصحاب نظرية المبادر ــ البطل. فمثلاً، في دولة بينين في أفريقيا الغربية، يصل عدد العاملين لحسابهم إلى أكثر من 80%. في لبنان، يحصل الشيء نفسه، إذ بيّن تقرير «مايلز» للبنك الدولي الصادر عام 2012 أن نسبة العاملين لحسابهم تبلغ 36%، بالإضافة إلى 19% من العاملين غير النظاميين. ويترافق هذا مع سيطرة القطاعات المنخفضة الإنتاجية على الاقتصاد، ما يخلق ديناميكية سيئة من ترابط المبادرة الفردية وانخفاض الإنتاجية في الاقتصاد. ويؤدي هذا الانخفاض إلى تراجع مستوى المعيشة لأكثرية اللبنانيين، إذ إن الترابط بين الاثنين سببي بامتياز. فكما قال آلان غرينسبان «إن مستوى الإنتاجية في نهاية المطاف يحدد معدل مستوى المعيشة». يقول الاقتصادي الأميركي الشهير لستر ثورو في كتابه «مستقبل الرأسمالية»، الذي نشر في 1996 في أوج صعود نجم الرأسمالية بعد انتهاء التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وقبل أزمة 2008، في معرض تناوله لدور التكنولوجيا وسبل خلقها في الرأسمالية، إن الرأسمالية ليس لديها ميكانيزم أوتوماتيكي للقيام بالاستثمارات والبحوث والتطوير الضرورية للتقدم التكنولوجي. فـ»القيم الرأسمالية هي في حرب مع الرأسمالية نفسها»، ويضيف متسائلاً، ومستلهماً من تجربة الإسبان في إهمال نظم الري التي بناها المسلمون في الأندلس: «هل الرأسمالية ستستثمر بالرأسمال البشري والبنى التحتية والبحوث والتطوير التي ستسمح لها بالازدهار، أم ستكون كالإسبان المسيحيين، غنية على المدى القصير من دون القيام بالاستثمارات الاجتماعية التي ستضمن نجاحها في النهاية؟». وكأن ثورو يتكلم عن لبنان اليوم الذي يستشري فيه مبدأ الربح السريع والاغتناء السريع وتراكم الثروة المالية والعقارية وتمركز رأس المال في قطاعات غير منتجة من دون الاهتمام بالاستثمار الطويل الأمد، لا الرأسمالي الثابت البحت ولا الاستثمار الاجتماعي. فالعقلية السائدة هي أنه ما دامت القلة الريعية وفي مقدمها المصارف والعقار بخير، فإن لبنان في أحسن أحواله، وفي الوقت نفسه تهترئ البنى التحتية وتغيب البحوث والتطوير وتصرف الأموال الطائلة الخاصة (أي تحول الموارد الخاصة) على بناء الرأسمال البشري الذي لا طلب عليه، فيتحول إلى موارد مبددة بالهجرة وتستبدل المهارات بالأموال الوافدة من المهاجرين التي تزيد من ريعية الاقتصاد، ما يخلق حلقة مفرغة تستنفد فيها القوى المنتجة في الاقتصاد. إن المبادرة الفردية في لبنان تستعمل كغطاء لحقيقة أن القطاعات الأساسية في الاقتصاد هي احتكارية حيث يتمركز رأس المال وبالتالي يتعذر على المبادرين الفرديين الدخول إليها والمنافسة. فالمبادرة الفردية تترك للمجالات الصغيرة حيث يتم الهدر للرأسمال وينتج مؤسسات منخفضة الإنتاجية، وفي أكثر الأحيان يجري تناسخ غير صحي لهذه المبادرات وغيرها بحيث تؤدي إلى ارتفاع نسبة الإفلاسات، وبالتالي تحول المبادرة الفردية إلى مبادرة غير إنتاجية أو حتى تدميرية للرأسمال والطاقات البشرية. بسبب كل هذا، يفتقد لبنان للوعاء العام والجماعي للتقدم الاقتصادي وخلق وتطبيق التكنولوجيا من أجل تحقيق اقتصاد ديناميكي يربط الاقتصاد بالكمّ الهائل من الرأسمال البشري الموجود والمتزايد سنوياً، وبذلك يكون لبنان أكثر دولة في العالم تهدر طاقاتها العلمية الكامنة. إن اللبنانيين «مبادرون فرديون»، وأهم مبادرة فردية الآن منتشرة بشكل هستيري هي البحث عن الهجرة، تليها المبادرات لفتح مطاعم وحانات ومحلات البيع الصغيرة الحجم والتصليح والخدمات الوسيطة والتشبيح، بالإضافة إلى المبادرة للانضمام إلى شلل الاحياء المسيرة من الزعامات الطائفية. هذا هو البؤس الحقيقي لاتفاق الطائف الذي جعل اللبنانيين يرمون سلاحهم من أجل أن يتفقوا على وطن كل شيء فيه يستباح من قبل الرأسمال الريعي والطائفية، وحتى الفرد الذي كان سيحقق الكثير جردوه من إنسانيته وقوة ابتكاره ليهاجر للخارج من أجل العيش الكريم ويبقى في الداخل فقط من أجل العيش، وذلك في أكبر جريمة ترتكب بحق رفاه الأجيال الحالية والقادمة.

الأكثر قراءة