هشام يونس - السفير
بالإمكان القول أن فوز جيريمي كوربِن (مواليد 1949)، سواء عدُ يسارياً محفاظاً، إشتراكياً أو ماركسياً تروتسكياً، برئاسة "حزب العمال" البريطاني قد أثار مزيجاً من الإرباك والحيوية على حدٍ سواء في المشهد السياسي البريطاني. وبما لا يقل أهمية، داخل "العمال" الذي شكل الإطار التاريخي لليسار والذي إنتهت إليه معظم مجموعاته والتيارات بما فيها تلك المجموعات الشيوعية الثورية التي خصها لينين بالدعوة في المؤتمر الثاني للأممية الدولية آب 1920، داعياً جميعها للانخراط في "حزب العمال" توخياً للفاعلية والقدرة على التأثير والثورة التي توفرها الأحزاب الكبيرة ذات التمثيل الجماهيري.
حزب العمال والقطيعة مع الإرث الإشتراكي
لقد ظهّر هذا الفوز وفرز إتجاهات اليسار المُلتبس، وبالأخص اليسار الإنكليزي، نتيجة التخبط والأداء المربك الذي شهده منذ صعود اليمين وظهور التاتشرية بداية ثمانينيات القرن الماضي.
هذا الإرباك الذي إنتهى إلى مانفيست "العمالي الجديد" الهجين الذي أحدث قطيعة على مستويين: المشروع العام وأدبيات الخطاب وأهم مفاهيمه، والذي شكل برنامج طوني بلير الإنتخابي لرئاسة الحزب في 1994 وحدد مبادئ ما سيعرف لاحقاً ب"البليرية" ( نسبة لبلير)، والتي حكمت منذ وصول العماليين برئاسة الأخير إلى سدة الحكم عقب إنتخابات حزيران 1997 ولغاية حزيران 2010، مع سقوطها في الإنتخابات العامة أمام المحافظين من دون أن يتمكن هؤلاء من الحصول على الأغلبية المطلقة لتشكيل الحكومة ( حصلوا على 306 من المقاعد من أصل 650 مقعداً)، ما دفعهم، في حينه، للإئتلاف مع "الديمقراطيين الليبراليين".
إلا أن إرث "البليرية" الجاثم على كاهل الحزب، إلى عوامل داخلية أخرى، ألحق به هزيمته الأقسى منذ عقود في آخر إنتخابات (حزيران الماضي)، والتي منحت المحافظين واليمين نصراً لافتاً. ولا يجب أن تُستبعد في هذا السياق، وفي إطار قراءة ظاهرة كوربن عوامل أخرى من بينها؛ تضعضع الحزب داخلياً وفقدان الثقة بالخطاب التقليدي الذي درج عليه العماليون ما بعد "البليرية". وهو ما يفسر تصويت الشباب لكوربن الكهل وخسارة خصومه الثلاثة الشباب. ويمثل هؤلاء شريحة شبابية متعاظمة وناقمة، تتطلع إلى نماذج تحمل خطاباً يسارياً واضحأً غير متذبذب سمعوه من أليكسيس تسيبراس في اليونان وزعيم حزب "بوديموس" في أسبانيا الشاب بابلو ايغلاسياس.
لقد كرس مشروع "العمالي الجديد" قطيعة مع مبادئ الحزب الإشتراكية التقليدية وتبنى مبادئ ملطفة لإقتصاد السوق، وهو ما سماه بلير "الطريق الثالث"، ما بين الإشتراكية والرأسمالية، أو إشتراكية ديمقراطية كما نصها تعديل غير مسبوق أقره الحزب للمادة الرابعة من دستور الحزب في العام 1995عقب توليه رئاسة الحزب (كانت قد أقرت في مؤتمر الحزب العام 1918). وهو ما أوقع الحزب بتناقضات عدة سواء على المستوى الداخلي بين المجموعات والتيارات المختلفة أو على مستوى الخطاب أو الخطط المالية والإقتصادية التي تبناها أثناء حكمه، وأفضت إلى إنكشاف كبير لليسار البريطاني والإنكليزي منه على وجه الخصوص، وأنتهت بهزيمة قاسية للعمال واليسار، ونهاية حكم "العمالي الجديد" في إنتخابات 2010 العامة. وعلى الرغم من أن ذلك عُد هزيمة ونهاية ل"البليرية" من الحكم، إلا أن نهاية "البليرية"، أو الضربة القاصمة لها، داخل "العمال" لم تتحقق إلا بفوز جيرمي كوربن.
نهاية البليرية والعودة إلى الإطار اليساري
من هنا يأتي فوز كوربن ليشكل المنعطف الكبير "للعمال" ولليسار الإنكليزي على وجه الخصوص، حيث سبق لليسار الإسكتلندي، وفي وقت مبكر، أن أوجد لنفسه إطاراً آخر خارج "العمال" ضمن مركب حيوي جمع ما بين المبادئ الإشتراكية والتقدمية والمطالب الوطنية للأمة الإسكتلندية ضمن الحزب القومي الإسكتلندي وهو ما أسهم، بعد ما حققه من نجاحات في الإنتخابات العامة والمحلية، بشكل أو بآخر في تعزيز فرص مشروع كوربن لدى شرائح شبابية وعمالية إنكليزية ناقمة على أداء الحزب وغربته عن مبادئه وتخبطه التنظيمي الذي ظهر للعلن في آخر إنتخابات عامة ترشح لها زعيمه إد ميليباند.
وفي هذا السياق، جاء فوز كوربن بمشروعه، الذي يشكل نقيضاً للعمالية البليرية الهجينة في خطوطه العامة ومنظومة مفاهيمه اليسارية التقليدية، ليوحد اليسار خلف مبادئه الإشتراكية ولينهي، أو يكاد، أرث "العمالي الجديد" و"البليرية" دفعة واحدة.
إلا أن ذلك لا يعني بأن العمال إتجه إلى أقصى اليسار، وهذه مقولة يثيرها خصوم كوربن من انصار "البليرية" قبل غيرهم، وهم بالمناسبة فريق لا زال يملك قدراً ليس يسيراً من التأثير، بشبكة علاقات وبنية بناها لأكثر من عقدين، ولعل هذا هو التحدي الأهم لكوربن في المرحلة المقبلة أي عزل هذا الفريق عن الفاعلية.
إن خطاب كوربن يركز على قضايا لا تبعُد عن الوسطية في مقاربتها للقضايا المعيشية، لكنه يبنيها على قيم لا تقبل التسويات وتنهل من المعجم اليساري التقليدي. في حقيقة الأمر كوربن يرفع القطيعة عن الإرث العمالي التقليدي، ولكنه لا ينزهه عن النقد، ويصر على إستخدام مفاهيمه التي يجدها صادقة تماماً في تناول المسائل والقضايا التي تواجهها بريطانيا، وفي ذلك هو نجح في تحقيق خرق في مساحة الرأي العام البريطاني، وخاصة لدى الجيل الجديد الذي لم يألف هذا الخطاب ولم يعشه.
كوربن والتحدي الحزبي
وقد تصح المقارنة بين جيريمي كوربن ومايكل فوت اليساري الذي يشابه الأول بافكاره الإصلاحية، التي قد يعدها البعض تقليدية أو جذرية، وإن كان كوربن يتجاوز فوت في آراءه فيما خص المؤسسة الحاكمة. وكان فوت قد إنتخب رئيساً للحزب عام 1980 بعد إستقالة رئيس الحزب جيمس كالاغان على أثر هزيمته في الإنتخابات العامة للعام 1979 أمام مارغريت تاتشر، وواجه تمرداً من ما سمي الجناح اليميني أو الوسط في "العمال" حينذاك، وقدم أربعة من مسؤولي الحزب سموا حينها "عصابة الأربعة" إستقالتهم، وشكلوا في العام ذاته 1981 "الحزب الإشتراكي الديمقراطي" قبل أن يندمج مع "الحزب الليبرالي" في 1988 ويشكلان حزب "الديمقراطيين الليبراليين".
يواجه كوربن اليوم، كما فوت بالأمس، تحدي حصول تمرد من مجموعة "العمالي الجديد" من فريق طوني بلير وخلفه غوردن بروان وبعض يسار الوسط ( قدم ستة من وزراء حكومة الظل العمالية المعارضة إستقالتهم فور فوزه برئاسة الحزب)، وهو تحدي قد يُضعف الحزب على المدى القصير إلا أنه، وكما سبقت الإشارة، يعيد إليه هويته وخطابه وبالتالي يمنحه فرصة ليشكل إطاراً يقود التيارات اليسارية المختلفة خلف تصور واضح، على المدى المتوسط والبعيد. وهذه التيارات والمجموعات متعددة ومتمايزة، وبسبب تضعضع اليسار على مدى عقود توزعت في إطر عدة بعضها موجود داخل أحزاب أخرى تقف اليوم، للمفارقة، في مواجهة "العمال" ( الأحزاب الإسكتلندية المختلفة، حزب الخضر ( يشبهه البعض بثمرة البطيخ خضراء من الخارج وحمراء من الداخل) ، وحزب "الديمقراطيين الليبراليين" الذين يوجد في صفوفهم مجموعات ذات توجه يساري..) ويعتمد ذلك بشكل كبير على نجاح كوربن وفريقه بإيصال رسالته وإستقطاب الوسط وترتيب أولوياته وعدم خوض الحروب كلها دفعة واحدة، لأن من شأن ذلك إستنزافه وهو ما يوفر لخصومه الكثر فرصة للنيل منه. أما في حال نجاحه، فإن ذلك سيشكل أكبر تحول في الحياة السياسية البريطانية وسياستها الداخلية والخارجية.
لا شك أن عامل الوقت كفيل ببلورة رؤية ومشروع هذا السياسي اليساري المتقشف والشفاف للغاية الذي حافظ على مبادئه طوال 32 عاماً من عمله السياسي. في حالة نادرة ومستقطبة للإعجاب المتزايد لدى الشارع البريطاني، بحيث بات يشكل اليوم ظاهرة وطنية تتجاوز اليسار وحزبه، وليس أدل على ذلك سوى إنضمام ما يزيد عن 400 الف منتسب جديد لحزب العمال معظمهم من الشباب، خلال فترة شهرين من حملة كوربن الإنتخابية و28 الف بعد إعلان فوزه، وهو ما يوفر لكوربن، جراء هذا الإستقطاب والدعم، فرصة لإصلاح "العمال" وتوحيد اليسار مجدداً، ضمن مبادئ تقدمية فقدها تباعاً منذ عقود، وهي مهمة لن تكون سهلة وفيها إستجابة ولو متأخرة لنداء لينين في مقدمة لإصلاح المؤسسة الحاكمة!