بشير صفير - الاخبار
يحمل الصيف لنا موعدين مع الموسيقي وعازف البيانو اللبناني. برنامجان مختلفان جذرياً عن برامج السنة الماضية الكثيرة، سنستمع إلى الجديد، القديم النادر أو غير المنشور، المعروف لكن غير المؤدّى من قبل، الكلاسيكيات التي يتمنّى الجميع وجودها دائماً حتى لو تكرّرت في حفلات متتالية
تلقّى الفنان زياد الرحباني هذا العام عدّة دعوات للمشاركة في المهرجانات اللبنانية، فلبّى منها اثنتين فقط، بخلاف السنة الماضية الاستثنائية بعدد الحفلات، من بيروت إلى قلحات وغلبون والخنشارة، وصولاً إلى الناقورة، ولاحقاً صيدا وغيرها الكثير. كان من المفترض أن يغيب الرحباني عن موسم السياحة الفنية هذا الصيف، بداعي السفر إلى ألمانيا الذي تأجَّل… لحسن الحظّ، تقول الغالبية.
أما في الحقيقة، وبتجرّد، فلسوء الحظّ أن سفر زياد تأجَّل. نعم، لسوء الحظّ عموماً، أي حظّه وحظّنا، وللبحث صلة وها هي فوراً: لبنان الذي رسمه الأخوان رحباني وفيروز هو وطنٌ مُرتجى… «لبنان الحقيقي جايي» تقول الأغنية، وكل ما هو آتٍ هو علمياً غير موجود الآن هنا. المؤسف في الأمر أن لبنان الحقيقي لم يأتِ، كما يعرف الجميع. والاستنتاج الوحيد لملامح لبنان الحالي (بما أن الحقيقي لم يأتِ)، استناداً إلى هذا التسلسل المنطقي، بات واضحاً.
بالتالي — والجميع يعرف أيضاً — لبنان الذي نراه في إعلانات وزارة السياحة مبالغ فيه، كما تفرض ألف باء صناعة الإعلانات في العالم. فهذا البلد، العزيز جداً على قلبنا وقلب زياد بالمناسبة، راكم منذ تأسيسه الآفات العامة الممكنة، في المجتمع والسياسة والاقتصاد، وأضاف آفاتٍ «لبنانية» لتشكِّل «ميزته» العالمية لناحية التراجع على المستويات الآنفة. أما ألمانيا، فيمكن أخذ فكرة عنها باسترجاع أسماء عمالقتها، وهي أولى في فئاتها تاريخياً، من الباء إلى الباء… من باخ إلى الـBMW وما بينهما. وهناك قاسم مشترك بين جميع الشعوب، له دلالات تؤكّد عظمة ألمانيا، وهو شعور الطمأنينة العارم الذي ينتاب المرء أمام عبارة: صنع في ألمانيا. وهذا دفعَت ثمنه ألمانيا تعباً وصدقاً، وهنا بيت القصيد. لا شيء في العالم يقدّسه زياد الرحباني أكثر من التعب والصدق، و«مآثر» مجتمعنا في هذين المجالَين مشهود لها (وبالأخص في الموسيقى!)، فكيف لا نأسف على تأخّر سفَر زياد؟! كيف لا نأسف ونحن نعرف أنّه لو أراد إقامة حفلة في برلين، سيجد موسيقيين بأعداد كبيرة ومستويات متقاربة ومحيِّرة. وأنه، في المقابل، لتحضير حفلتَيه المرتقبتَين يعاني ما لا يدركه الجمهور ولا يستوعبه العقل البشري إن لقّمناه المعطيات التي تعرفونها عن قيمة زياد الفنية ووقته الثمين الذي، كلّما ضاع، لدينا جميعاً شعور بأن لحناً عظيماً ضاع معه. كلمة أخيرة في ضرورة سفر زياد: في جميع أنحاء العالم، ينظر المجتمع إلى يدَي عازف البيانو باحترام بالغ… بعض عازفي البيانو الكبار لا يسلّمون باليد، وهذا لا يزعج أحداً.
بل إن بعض الناس لا يسلّمون باليد على عازف البيانو لأنهم يخشون مِن يدِهم على يدِه. يرون فيها يدَ الله على الأرض، للتشابه في الوظيفة الأساسية: خلق الجمال المبنيّ على قواعد الرياضيات المعقّدة وشيء إضافي لا تعريف له. هكذا إذاً هي الحال في ألمانيا، وعلى كوكب الأرض عموماً. لكن، في «قطعة السما» التي «عالأرض تاني ما إلها» لكونها «لوحات الله راسمها» على شكل «شطحات أحلى من الحلا»، تصاب يمنى زياد بعطبٍ من شدّة التعب (ما هو التعب؟ في قاموس أركيولوجيا اللغة: شعور بشري ناتج من عمل وجهد كبيرَين)، ويضطر إلى إلغاء حفلة، ثم يصدر بياناً صاغَ نِصفَه طبيبٌ مختصّ، فتجدون — يا ناس — من يقول: «عيب ما قام به زياد»… أما الشتائم، فتجدونها على مواقع التواصل السوقي. هذه الحادثة، التي «تِنْذَكَر ما تِنْعاد»، سبّبت إلغاء حفلته في «إهدنيات». أما في «الأعياد» (أعياد بيروت) بعدها بأسبوع، فأقيمت الحفلة المقرَّرة تفادياً لمزيد من المشاكل، بعد استعانة زياد بعازفة البيانو دارين شحادة لتكون يده اليمنى في الأمسية… تجدون تجسيداً دقيقاً لهذه الصورة في بوستر حفلته المرتقبة: حفلة إهدن!
إذاً، يقدّم زياد الرحباني حفلة وحيدة في «زوق مكايل» (23/7)، تليها أخرى في «إهدنيات» (30/7) تحت عنوان «العَلّ» بما تحمل هذه العبارة من معاني تفسِّر إيقاع «الجوّ حالياً» في لبنان. وكما في جولته الصيف الماضي، يشارك في الفرقة هذه السنة الموسيقي والمغنّي المصري الفائق الحساسية والبارع غناءً وعزفاً، حازم شاهين، ومواطنته المغنية الشعبية بالفطرة والنبرة الصوتية شيرين عبده. أما الموسيقيون الذين بذل الرحباني جهوداً لا تحتمل لجمعهم من أوروبا (عازف الدرامز الممتاز آرنو فون نيووِنْهويْزه) وسوريا وأرمينيا ومصر ولبنان...، فيغطّون جميع عائلات الآلات في الأوركسترا، من الوتريات إلى النحاسيات والخشبيات والإيقاع، بالإضافة إلى الآلات والإيقاعات الشرقية والكورس. أخيراً، في ما خصّ البرنامج الذين لنا عودة إليه عشية الحفلة الأولى، فأولاً، يختلف قليلاً بين الزوق وإهدن، لكنه، ثانياً، يختلف جذرياً عن برامج السنة الماضية، والأهم، أخيراً، أنه يختلف عموماً عن برامج حفلات زياد، وهذا ما سيرضي المتابعين وعابري السبيل من المغتربين الزائرين وحتى المتطلّبين جداً. ويتألف بالعموم من: الجديد، القديم النادر أو غير المنشور، المعروف لكن غير المؤدّى في حفلة من قبل، الكلاسيكيات التي يتمنّى الجميع وجودها دائماً حتى لو تكرّرت في حفلات متتالية.