غسان ديبة - الاخبار
«إن المصارف قد تؤدي دورا بدعم نظام سياسي توافقي يعكس على نحو افضل التوازنات الديموغرافية» كلمنت هنري مور (1987)
ما لا شك فيه ان بعض القوى السياسية في لبنان تعتقد ان اتفاق الطائف إما انتهى، وإما يجب تعديله على نحو جذري، على الرغم من تغليف المطالب حول تغيير الاتفاق بامور مثل تطبيق بنوده الاصلاحية، كما تطالب بعض القوى العلمانية، او بالبنود المتعلقة بالشراكة وتقاسم السلطة، كما تدفع باتجاهه بعض القوى الطائفية.
كان اتفاق الطائف، الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، مثالاً لنموذج تحاصص اقتصادي ـ سياسي، فالحاجة إلى إعادة الإعمار السياسي، والبعد التوزيعي الاقتصادي لاتفاق الطائف المُكمل لإعادة التوزيع على مستوى السلطة السياسية، مثّلا البيئة الاقتصادية ـ السياسية لسياسات إعادة الإعمار والاستقرار النقدي والسياسات المالية. وقد مثلت تسويات ما بعد الحرب صيغة لملامسة مشاكل عدم المساواة، التي كانت مصدراً أساسياً للنزاع منذ الاستقلال في عام 1943، وأدت دوراً أساسياً في اندلاع الحرب الأهلية، كما يمكن رؤيتها على أنها «عقد اجتماعي» أنهت الحرب الأهلية، وعقد اجتماعي كهذا يعدّ ضرورياً لنجاح إعادة الإعمار في مجتمعات ما بعد النزاع. فالجمهورية الثانية، أعادت رسم خريطة الانقسامات الطائفية من خلال التركيز على إعادة تكوين تقاسم السلطة، وإعادة التوزيع، أكثر من تركيزها على صياغة نظام علماني ديمقراطي. إعادة تكوين السلطة هذا نتج من تفوق طوائف على أخرى في الحرب، إضافة إلى التغيرات الديموغرافية، وحتى التغيّر في توزع الثروة الاقتصادية، ومثالٌ على التغيّر الأخير حصل تبدل في التوزع الطائفي لملكية المصارف التجارية خلال الثمانينيات، اذ انه في عام 1974 كان المسيحيون يتحكمون في 62% من مجموع رأس المال لأول 15 مصرفا، والمسلمون يتحكمون في 18%، وفي عام 1982 تبدلت بنية الملكية لتصبح 32% للمسيحيين مقابل 33% للمسلمين. وعلى الرغم من عدم وجود دليل على حصص الملكية في نهاية الحرب الأهلية، وخلال فترة إعادة الإعمار، كان الاحتمال الراجح أن هذا المنحى استمر. وفي عام 2002، أُرسِل مشروع قانون الغاء الحماية عن الوكالات الحصرية التجارية لدراسته في مجلس النواب اللبناني، وهذه الحماية مثّلت السمة المميزة للرأسمال اللبناني منذ ما قبل الحرب. عارض التجار الذين لا يزالون يسيطرون على الاحتكار في قطاع الواردات، خطوة كهذه، ما أحدث ردود فعل على أن هؤلاء يتغافلون عن التحولات التي جرت في التوزيع الطائفي للثروة، كما حدث توزيعٌ طائفيٌّ لأموال الدولة أو للسيطرة على توزيعها، من خلال مجلس الجنوب، وتمويل إعادة المهجرين، ومجلس المشاريع الكبرى لمدينة بيروت، الذي أُلغي لاحقاً في حقبة الرئيس اميل لحود، وحُوّلت أعماله لمجلس الإنماء والإعمار. لقد كان لهذا الصراع على التوزيع بين الطوائف في فترة ما بعد الحرب وقع سلبيّ على النمو الاقتصادي، وذلك أدى إلى خلق تحالفات توزيعية اعاقت النمو الاقتصادي. بمعنى آخر، فإن اتفاق الطائف أدى إلى تشكيلة اقتصادية ـ سياسية كان فيها الانحياز إلى التوزيع وإعادة التوزيع بين الطوائف اكبر منه من التوجه إلى خلق اقتصاد ديناميكي محفز للنمو. لقد برهن مانكور اولسون أن أحد الأسباب الرئيسية للنمو الاقتصادي السريع في فترات ما بعد الحرب هو أن الحروب تدمر معوّقات النمو السياسية، ومثال على ذلك جمهورية فايمر (Weimar Republic) في المانيا حيث نسب النمو الضعيفة التي شهدتها المانيا بعد الحرب العالمية الأولى خلال جمهورية فايمر نتجت عن تأثيرات الصراع الطبقي. هذا النزاع قاد إلى نسب نمو واستثمار منخفضة إذا ما قورنت بفترة ما قبل الحرب وفترة إعادة إعمار ما بعد الحرب العالمية الثانية. في دراسة لمحددات النمو الاقتصادي في سياق ما بعد الحرب في 79 بلداً، وجد دليل غير مباشر لنظرية اولسون أن كثافة وفترة الحرب مرتبطتان ايجابياً بالنمو الاقتصادي، اذ إن كثافة وطول الحروب يدمران التحالفات الراسخة المانعة للنمو. أما في لبنان، فقد نتج عن الحرب الأهلية عكس هذا النسق، إذ إن اتفاق الطائف أنتج تحالفات راسخة بين الطوائف المانعة للنمو الاقتصادي. إن البحث في اتفاق الطائف يجب ان يتجه باتجاه تخليص لبنان من الطائفية والمحاصصة، لأن في ذلك ليس فقط المدخل الى التقدم السياسي والاجتماعي والحضاري، بل ايضا لاطلاق القوى الكامنة في الاقتصاد اللبناني وتحريرها من السلاسل التي تطبق عليها، وتمنعها من الانعتاق.