غسان ديبة - الاخبار
«اغلقوا صندوق النقد الدولي، الغوا الديون وانهوا التنمية» هاري كليفر
عندما كنت ادرس الاقتصاد في جامعة تكساس في اوستن في الولايات المتحدة، والتي كانت من الجامعات القليلة التي لديها مقررات في الاقتصاد الماركسي، كان استاذ الاقتصاد الماركسي هاري كليفر، وهو للمفارقة يتبع اكثر المدارس الماركسية تطرفاً وهي المدرسة الاوتونومية التي انشأها المفكر الماركسي الايطالي انطونيو نغري المتهم بكونه العقل المدبر للالوية الحمراء، كان من الطبيعي الصدام الفكري مع كليفر لأن افكار هذه المجموعة كانت تعتبر ان الاتحاد السوفياتي منذ السنين الاولى لسيطرة البلاشفة يتبع نظام رأسمالية الدولة وقد حاد عن مبادئ الماركسية في عدم تسليمه العمال مباشرة السلطة على المصانع والاقتصاد بالاضافة الى مسألة الحزب وغيرها من الامور النظرية التي لا مجال للدخول بها الآن.
وكان اطلاق صفة «البلشفي» بمثابة إدانة منه لأي متعاطف مع التفسير الكلاسيكي للماركسية. كان هذا الموقف بالنسبة لي فوضوياً عمالياً اكثر منه ماركسياً لأن الماركسية حددت الاطار العلمي للصراع الطبقي وانتهاء الراسمالية والانتقال الى الاشتراكية وأن أي رفض لهذه العلمية الصارمة تحت حجة مثلاً اولوية السياسي والصراع الطبقي على غيرها من المفاهيم (انظر كتابه Reading Capital Politically) ما هو الا غرق في المثالية والطفولية اليسارية التي حذر منها لينين وهو بالطبع المهندس السياسي الاول في تاريخ الماركسية ان لم يكن في التاريخ الانساني كله.
وامتد الخلاف مع كليفر الى تحليل التنمية في العالم الثالث، فقد كان هو ضد التنمية على اساس انها تقلب حياة الناس وتزعزع البنى الاقتصادية والاجتماعية من دون ان يكون للشعوب السلطة المباشرة على مصيرها (فكرة الاوتونومية) ولأنها تخضع الناس لمنطق الرأسمال وفرض العمل (imposition of work). طبعاً إن المفهوم الماركسي التقليدي يتعارض مع هذه النظرة للتنمية، بل إن التنمية اعتبرت كحاجة اساسية في التطور الاقتصادي للدول النامية. نشر كليفر في عام 1989 مقالة عنوانها «اغلقوا صندوق النقد الدولي، الغوا الديون وانهوا التنمية». كنا بالطبع نتفق مع العنوانين الاوليين اي اغلاق صندوق النقد وإلغاء ديون العالم الثالث. فهذه الديون كانت اهم معوق للنمو الاقتصادي والتنمية في الدول النامية وبالاخص في اميركا اللاتينية في تلك الفترة وكان صندوق النقد الدولي يستعمل هذه الاستدانة الدولية والازمات الناجمة عنها كذريعة لتدخله في شؤون هذه الدول الداخلية وفرض عليها شروطه التي كانت تفرض التقشف ورفع الضرائب غير المباشرة ورفع الدعم عن السلع الاساسية والتقلص النقدي ما يؤدي الى دخول البلدان المفروض عليها هذه الشروط في حالات ركود وارتفاع البطالة وازدياد الفقر. كل هذه التدابير كانت تفرض من أجل التثبيت المالي وضمان ان هذه الدول ستدفع ديونها الخارجية للمصارف الدولية والدول الغربية الراسمالية. طبعاً كانت فكرة اغلاق الصندوق، بدلاً من اصلاحه او كف يده او المطالبة بأن يعود الى مهمته الاساسية التي انشأ من اجلها في 1944 وهي مساعدة الدول على تخطي مشاكلها في الحسابات الخارجية، فكرة راديكالية جداً في ذلك الوقت. لكن التاريخ انصف كليفر حيث ازدادت مع الوقت الأصوات الداعية الى اغلاق الصندوق ولكن أيضاً من الجهات اليمينية المتطرفة التي تعتبر ان الصندوق هو آلة بيروقراطية وان تدخله في اقتصاديات البلدان عبر خطط الإنقاذ المالي لن يؤدي إلا إلى تراجع الرفاه الاقتصادي. واصبحت تنتشر هذه الدعوات في مجلة فوربس ومنشورات معهد كاتو المحافظ مثلاً ( http://www.cato.org/publications/commentary/abolish-imf). يقول روبرت بارو وهو من الاقتصاديين المحافظين الذين يحبذون إلغاء الصندوق إن المشكلة الرئيسية للصندوق هو كونه مليئاً بالسيولة، ما يجعله سخياً في انقاذه للدول المتعثرة كما يدعي انه حصل مع المكسيك في 1995 ومع روسيا في 1998. طبعاً هذه الرؤية خاطئة فمشكلة الصندوق ليست في تزويد البلدان بالسيولة بل بفرضه للشروط التعجيزية والمؤذية للاقتصاد كما حصل في اميركا اللاتينية وبعض الدول العربية والدول الآسيوية. اليوم في زمن كريستين لاغارد، وبدلاً من ان يتعلم من اخطاء الماضي، لا ينفك الصندوق يلعب الدور نفسه ومن يسمعها تتكلم بصلف وتحدٍّ عن المفاوضات مع اليونان يظن ليس فقط انها تمتلك المال والسلطة بل انها تمتلك الحقيقة المطلقة حول طبيعة الازمة وسبل حلها وما يجب على الحكومة اليونانية ان تفعله. وهذا آخر ما يحق لها ولصندوق النقد ان يزعمه بعد سلسلة الكوارث الاقتصادية التي خلفتها سياساته حول العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الازمة في اوروبا اليوم. في حزيران الحالي كان يستحق 1.6 مليار دولار على دفعات من اليونان الى صندوق النقد وكان الصندوق رفض تمديد مهل الدفع ويستمر بموقفه المتطرف من اليونان وردت الحكومة اليونانية بتجميع هذه الدفعات الى آخر الشهر. لكن حتى لا تصبح اليونان ضحية اخرى من ضحايا هذا الصندوق، على الحكومة اليونانية الا تنفذ فقط وعودها الانتخابية بعدم الخضوع لشروط الترويكا التقشفية وهو ما تفعله حالياً بشجاعة بل ان تذهب ابعد من ذلك وتخرج من اليورو وتستعيد قرارها الوطني والاقتصادي من اجل اعادة اطلاق النمو الاقتصادي وانقاذ الجيل الحالي من الشباب اليوناني من الضياع. عندها ان اغلق ام لم يغلق صندوق النقد فإنه أصلاً بالنسبة الى اكثرية الدول بمثابة المنتهي. ولكن بذلك سيتم عندها إخراجه من اوروبا والتي للمفارقة هي آخر الأمكنة التي يحاول ان يفرض سيطرته عليها اي سيطرة رأس المال العالمي وافكاره البائدة.