فلسطين في 14 أيار

فلسطين في 14 أيار
14 May
2015

غسان ديبة - الاخبار

 

 

«فإن أقبلت بعد موعدها فانتظرها، وإن أقبلت قبل موعدها فانتظرها» محمود درويش

 

في 14 أيار 1948 أُعلنت دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين التاريخية بعد حرب بين المنظمات اليهودية المسلحة والثوار الفلسطينيين وبعض الجيوش العربية. شكل هذا الاعلان صدمة كبيرة للعرب، إذ ظنّوا أن مجرد رفضهم لمشروع التقسيم الذي أقرّته الامم المتحدة في 1947 كاف لمنع إعلان الدولة، وأن الجيوش العربية كفيلة بسحق الحركة الصهيونية المسلحة.

 

كانت النتيجة قيام دولة أكبر من تلك التي أعطيت في قرار التقسيم. هُجّر الفلسطينيون الى الداخل والخارج نتيجة العنف الصهيوني المباشر والوعود العربية بعودتهم. ومرّت السنين ولم يعد أهالي المدن والقرى الفلسطينية الى ديارهم وحقولهم ومصانعهم، على الرغم من حروب عديدة وقيام حركة وطنية فلسطينية مسلحة، في ظل ظروف دولية مؤاتية للتحرر الوطني عمّت آثارها في إنهاء الكولونيالية في أنحاء العالم. هناك تعقيدات كثيرة مرتبطة بالقضية الوطنية الفلسطينية أدت الى هذا الفشل، والاساسي فيها ترابطها مع مسألة نشوء الدول الوطنية العربية وبقاء القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة تحت وصاية هذه الدول حتى عام 1967، إضافة الى تحوّل الحركة الوطنية الفلسطينية الى حركة مسلحة في المنفى تحكمها الجغرافيا القاتلة، من دون أي تأثير في الداخل الفلسطيني. حتى انتفاضة الحجارة عام 1987، التي نقلت الصراع الى الداخل، وكان يمكن لها أن تؤسس وضعاً شبيهاً بجنوب أفريقيا، سرعان ما أجهضت إمكانيتها في التحرر الكامل بسبب استعجال القيادة الفلسطينية في اتفاقية أوسلو نتيجة الذعر الذي أصابها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والامل الخادع بالنظام العالمي الجديد.

لكن السبب الاساسي في بقاء القضية الفلسطينية اليوم من دون حل هو عدم شعور الاسرائيليين بالتهديد على وجودهم، وذلك بسبب تفوّقهم التكنولوجي والعسكري والاقتصادي على الفلسطينيين، الذين يرزحون تحت أصعب ظروف اقتصادية، وتحوّل اقتصاد مناطقهم الى أسوأ انواع الاقتصاد الريعي، وأيضاً بسبب تفوق الاسرائيليين على أعدائهم العرب مجتمعين. نشرت صحيفة «السفير» في 27/4 مقالاً لأحد الاسرائيليين عنوانه «لماذا يطيب العيش في إسرائيل؟» (http://assafir.com/Article/415412) تحدث فيه عن التحديات الامنية والعسكرية التي قد تجعل الاسرائيليين يشكون في أن العيش هناك هو الافضل لهم. ومن ضمن الامور التي ساقها أن النصف الثاني من تاريخ وجود دولة إسرائيل «كان كله ازدهاراً: في الثلاثين عاماً الأخيرة تضاعف عدد سكان إسرائيل، لكن ناتجها ازداد عشرة أضعاف. ورغم النفقات الأمنية، فإن الاقتصاد الإسرائيلي الصغير هو واحد من بين 25 اقتصاداً الأقوى في العالم، وإسرائيل واحدة من أول عشرين دولة في معيار التطور الإنساني». بالطبع هذا لا يعني أن كل الإسرائيليين استفادوا من هذا، إذ في الفترة نفسها، ونتيجة التحول نحو النيوليبرلية، ازدادت الفوارق الاجتماعية، وأصبح السكن مشكلة أساسية للطبقة الوسطى، ما يدفعها الى الهجرة. لكن التقدم الاقتصادي الاسرائيلي حسم المعركة الاقتصادية مع العرب. إن الدول العربية في الثلاثين سنة الماضية تراجعت اقتصادياً، فتراجع الدخل الفردي في بعض الدول، حتى النفطية منها، مثل السعودية، وركد في الدول العربية ككل، وتراجعت الانتاجية، وتفككت النظم الانتاجية التي بنيت خلال فترة الاشتراكية العربية، واستبدلت بالاستهلاك المموّل من الريع النفطي. وبالمقارنة، وعلى الرغم من اتباع إسرائيل أيضاً سياسات نيوليبرالية، استطاعت الحفاظ على قاعدتها الصناعية، بل طورتها وشبّكتها مع الرأسمال العالمي وواكبت الثورة التكنولوجية. لم تكن دائماً تلك هي الحال؛ فعندما وقّعت إسرائيل اتفاقية السلام مع مصر في عام 1979 كانت تعاني من أسوأ أزمة اقتصادية لها منذ 1948، وكانت الازمة بنيوية متصلة بالطبيعة العسكرية والقومية الصهيونية للدولة، وإثر حروب 1967 و1973 عليها، بحسب أحد التحليلات التي نشرت في مجلة «فورين افيرز» الاميركية بعيد توقيع الاتفاقية. وخلصت كاتبة التحليل إلى «أن حل معضلة إسرائيل الاقتصادية وإمكانية تحولها الى دولة مستدامة ذاتياً يتطلب سلاماً شاملاً... لكن هذا الحل لا يطرحه أحد في إسرائيل اليوم، ويكمن السبب في أنه لا أحد يرغب في أن يضع سعراً على كلفة الامن الاسرائيلي، حتى لو كان هذا السعر أصلاً هو مرتفع جداً». اليوم حلت إسرائيل هذه المعضلة، إذ إن الأمن، ولو أنه يحمل سعراً عالياً، إلا أنها الآن تستطيع أن تتحمله، بل أكثر من ذلك، إذ إن المجمع الصناعي ـ العسكري أصبح أساساً في التطور الاقتصادي وفي دمج العلم بالاقتصاد عبر التقانة العالية. إن الرأسمال الاسرائيلي والعالمي اندمجا ليدفعا بإسرائيل الى الامام. في المقابل، فإن الرأسمال الطبيعي العربي الذي نتغنّى به يومياً في عالمنا العربي أغلق مجالات التطور وقضى على الصناعة وعمّم ثقافة الاستهلاك، حتى على المستوى التعليمي والثقافي، مخلفاً ليس فقط اقتصادات ريعية مركزية وفرعية، بل مجتمعات ريعية تنقلب على ذاتها في جميع نواحي الحياة، منتجة العنف العبثي بكل أشكاله، وعالماً عربياً يموت انتحاراً. وفي خضمّ كل هذا، يبتعد حلم الفلسطينيين بدولة لهم أكثر فأكثر، ويموت الذين حلموا بالعودة الى بيارات يافا ومصانعها، فيما الباقون يريدون حياة كريمة في العمل والمسكن حيث هم من دون قمع أو إذلال أو حرمان، وهم يهجّرون لمرات أخرى الى أصقاع العالم والى دواخلهم الحزينة، ولم يبقَ لهم إلا أن يحلموا بفلسطين، ينتظروها إن أتت بعد موعدها أو إن أتت قبله، ولكن على أمل ألا يطول الليل

الأكثر قراءة