سبعون عاماً على اندحار الفاشية.. محلياً

سبعون عاماً على اندحار الفاشية.. محلياً
08 May
2015

عماد الدين رائف - السفير

يتم تداول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لبرلين في أيار 1945، بعد دخول جيوش الحلفاء إليها. يظهر الشريط الدمار وحركة الناس والجنود في شوارع برلين، التي كان يفترض أنها ستحكم العالم بعد حرب باهظة الأثمان بشرياً واقتصادياً على مستوى أوروبا أولاً والمعمورة بشكل عام. ذلك فيما تقام اليوم احتفالات كبرى في العاصمة الروسية تكرّم قدامى المحاربين. أما في لبنان الذي دفع ثمن الحرب كذلك، والمثقلة ذاكرته بحروب لاحقة، فتقتصر الاحتفالات فيه على زيارات لمدافن قدامى المحاربين في جيوش الحلفاء، وعلى ما درج على تنظيمه متخرجو معاهد وجامعات الاتحاد السوفياتي من فعاليات. العام 1945، كان عاماً استثنائياً في لبنان الواقع تحت الانتداب. كان الإرهاق بلغ مداه، واللبنانيون ينتظرون لحظة سقوط النازية. وكانوا يقدرون آنذاك بمليون ومئة ألف شخص، ويعيشون ضائقة معيشية مع تدهور القيمة الشرائية لليرة. وتظهر الوثائق أن أسعار الجملة ارتفعت بين العامين 1939 و1945 إلى 1019 في المئة، وأسعار المفرق إلى نحو 730، وغلاء المعيشة وصل إلى حدود قياسية حيث تجاوز خمسة أضعاف، 562 في المئة. ذلك فيما كان نحو خمسين ألف شخص يعملون بشكل شبه دائم خلال الحرب، لمدة أربع سنوات، في خدمة الجيوش الحليفة وفي المؤسسات العاملة للمصلحة العسكرية، وكان أهاليهم ينتظرون انتهاء المعارك كي يعودوا سالمين. ذلك العام، شهد من ناحية أخرى مسعى جدياً إلى الاستقلال التام. فمطلع العام 1945 شهد تطبيق تقرير فرنسي سرّي صادر في آب 1944، فرض عقوبات تأديبية بحق ضباط لبنانيين بسبب «مواقفهم الاستقلالية»، وفي 29 كانون الثاني عمّت بيروت تظاهرات مطالبة بتسليم الجيش إلى الدولة اللبنانية. وهتف طلاب لبنان للجيش رمز الاستقلال وسياج الكرامة، داعين الحكومة إلى التحرك بكل الوسائل لتسلّم جيشها. إلا أن التعامل الفوقي للانتداب مع اللبنانيين أرجأ تلك العملية إلى 12 تموز حيث تم الاتفاق في شتورا، على تسليم المنشآت والثكنات في 20 تموز، والوحدات العسكرية في 25 تموز، وتسليم قيادة وإدارة هذه القوات في الأول من آب. الاحتفالات الكبرى التي اجتاحت لبنان بين 25 نيسان وآخر أيار 1945، على عفوية الجماهير فيها، لم تكن عفوية بالنسبة إلى منظميها. فالحركة المناهضة للفاشية في لبنان كانت قد تأسست قبل الحرب بسنوات، منذ مطلع الثلاثينيات. ولعل أول تحرك علني ضد الفاشية، وثقته جريدة «القبس» الدمشقية بخبر لمراسلها في بيروت، في 9 نيسان 1933، حين هاجم بعض الشيوعيين القنصلية الألمانية فنزعوا اللوحة الحاملة لشعار الدولة وداسوها بأرجلهم ثم رموها من فوق سور حديقة القنصلية، وكتبوا على السور: فليسقط الفاشيست والاستعمار...». ذلك الحادث يليه تأسيس «جمعية المساعدة الحمراء»، من أجل جمع الأموال للدفاع عن المعتقلين في السجون النازية. ويبرز الكاتب سليم خياطة في تلك المرحلة كمناهض شرس للفاشية، فيفضحها في كتابه «حميات في الغرب»، المطبوع في بيروت أواخر 1933. في المقابل، تم رصد مظاهر للتأثر بالفاشية في لبنان وسوريا، من تأسيس «الشباب الوطني» صيف 1936 لفرق «القمصان الحديدية» التي تأثرت بالشكل فقط، فكان التنظيم وأخذ التحية مقتبسين عن النازية. وقد ذكر بعضها أنور العشي في كتابه «في طريق الحرية». وأهم ما كتب في هذا المجال دراسة الباحث الألماني غوتز نوردبروخ «النازية في سوريا ولبنان: تناقض الخيار الألماني 1933 ـ 1945». وقد لاقى الكتاب ردوداً من باحثين، لعل أبرزهم المؤرخ الأوسترالي عادل بشارة الذي نشر في مجلة «المشرق» الناطقة بالإنكليزية في كانون الأول 2009، حيث دافع بشارة عن القوميين وفند مزاعم تأثرهم بالنازية، ففتح بذلك سجالاً مع نوردبروخ استمر إلى صيف العام التالي. لكن على كل حال، بالإضافة إلى الماركسيين، شهدت الثلاثينيات تيارات مناهضة للفاشية لمصالح مختلفة، رصدها الباحث عبدالله حنا في كتابه «الحركة المناهضة للفاشية في سوريا ولبنان 1933 ـ 1945»، وهي تتمثل في التيار الإسلامي، والتيار الشرقي الإنساني الوطني، والتيار القومي العربي، إلى جانب المنتفعين من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني. وشهد ذلك العقد صدور جريدة «صوت الشعب» في 15 ايار 1937، ورأس تحريرها نقولا الشاوي، وأخذت على عاتقها مهمة كشف مؤامرات الفاشية والاستعمار ومحاربتهما. كما شهد صدور مجلة «الطليعة» الدمشقية حاملة لواء مناهضة الفاشية، في التاريخ نفسه. ومهدت الصحيفتان والمنشورات والكراريس لمؤتمر مكافحة الفاشية السوري اللبناني الأول في 6 و7 أيار 1939. وذلك بعد اربع سنوات على تأسيس «عصبة مكافحة الفاشستية» التي كان أمين سرها المهندس انطوان ثابت. وعندما اندلعت الحرب في أيلول من العام نفسه، أغلق الفرنسيون «صوت الشعب» وزجوا بالمناهضين للفاشية من المثقفين والعمال في السجون. وبقيت تلك الحركة في صراع يومي مع سلطات الاستعمار حتى دخول الحلفاء إلى لبنان في العام 1941. حينذاك ازدادت الحركة ونشاطها برغم عدم حدوث تغيير على بنيتها المؤلفة أساسا من الحزب الشيوعي اللبناني والتيار الديموقراطي الثوري والمثقفين. وقد انضم الأديب عمر فاخوري إلى الحركة في سني الحرب وبرز كأحد أعلامها، وأسس إلى جانب يوسف يزبك، ورئيف خوري، وكامل عياد، وأنطون ثابت، وقدري قلعجي «لجنة مكافحة النازية والفاشية في سوريا ولبنان»، التي أصدرت في 20 كانون الأول 1941 مجلة «الطريق» الثقافية، وريثة مجلة «الطليعة (1935 ـ 1939). وتوجت «الطريق» عامها الأول بالاجتماع الموسع للعصبة في بيروت، من 18 إلى 20 كانون الأول 1942. وحضره مثقفون من بيروت ودمشق وحمص وطرابلس والشوف وحلب ومنطقة العلويين والبقاع ومرجعيون. وقادهم الاجتماع الموسع إلى نضال سنوات لدحر الفاشية وصولاً إلى النصر الكبير في أيار 1945. في ظل تلك الأجواء، حمل 24 نيسان خبر دخول الجيش الأحمر إلى برلين. وقد عنونت «صوت الشعب» صفحتها المحلية بـ «الاستعدادات الكبرى لسقوط عاصمة ألمانيا ـ تظاهرات الابتهاج والفرح بدخول الجيش الأحمر إلى برلين». ولفتت مقدمة الخبر إلى أن المحرر أخرّ طبع الجريدة (عدد 25 نيسان) والسبب: «بعد أن وضعت الجريدة ليلة أمس على الآلة الطابعة قام مندوبنا بجولة بالسيارة في أحياء العاصمة، وكانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة. ولكن المدينة كانت تبدو في تلك الساعة كأنها في أول ساعة من ساعات الليل. وكانت المظاهر في ساحة البرج وفي ساحات الأحياء وشوارع المدينة تدل على أن المدينة في عيد فريد غير عادي، عيد الفرح الأكبر بانتصار الحرية على الطغيان، وبقرب انتهاء الحرب باندحار موقدي نارها». بعد تلك الليلة، كانت المناطق اللبنانية تعيش الانتصار ساعة تلو أخرى. وحلّ الأول من أيار في تلك الأجواء، حيث أقامت «عصبة مكافحة الفاشية» و «الحزب الشيوعي اللبناني» احتفالاً كبيراً في محلة الدورة. وفي التاسع من أيار 1945، ومع إعلان هزيمة النازيين، ورفع العلم السوفياتي على الرايخستاغ الألماني، دعا «الحزب الشيوعي اللبناني» و «عصبة مكافحة الفاشية» إلى تظاهرة شعبية كبرى في ساحة النجمة في اليوم التالي، في بيروت، احتفالاً بيوم النصر. وأراد من التظاهرة، كما تظهر الدعوة، توجيه «تحية إلى جيوش الأمم المتحدة وشعوبها التي ناضلت وبذلت دماء أبنائها من أجل قضية الحرية، وتحية للمتطوعين اللبنانيين والعرب في الوطن والمهجر جميعاً، الذين حاربوا في جيوش الأمم المتحدة وساهموا في إحراز النصر على الفاشية وعززوا حق أوطانهم في الحرية والاستقلال». وحملت الصحف البيروتية على صفحاتها الأولى خطاب رئيس الجمهورية بشارة الخوري بعنوان «إعلان يوم النصر في لبنان»، لعل اللافت فيه إعلان يوم النصر عيداً لبنانياً وطنياً. ومما جاء فيه: «في هذا اليوم العظيم يطيب لنا أن نحيي جيوش الأمم المتحدة المظفرة، وأن نحيي كذلك جنودنا الذين قاموا، إلى جانب تلك الجيوش بقسطهم من الواجب في سبيل النصر... يسعدنا، نحن رئيس الجمهورية اللبنانية، أن نعلن يوم النصر في أوروبا عيداً وطنياً في هذه البلاد... فيوم النصر الذي نحتفل به بداية تأريخ لعالم خليق بالتضحيات التي بذلتها الشعوب، والآلام التي تحملتها الأمم. عالم سلم تسوده الحرية والأمن والعدالة، نعمل له نحن مع العالمين، لأننا جميعاً مسؤولون عن مصير الإنسانية، أمام الله وأمام التاريخ».

الأكثر قراءة