غسان ديبة- الاخبار
«يا عمال العالم اتحدوا» كارل ماركس
في عام 2006 التقيت في معهد ماكس بلانك في مدينة دريسدن أحد الفيزيائيين الروس، وفي حديث معه حول نظم التقاعد في جامعته في الغرب، قال لي انه لا يستثمر في الادوات المالية لأنه تعلم في الاتحاد السوفياتي أن الوسيلة الوحيدة التي يجب أن تدر دخلاً على الإنسان هي العمل. تفاجأت في ذلك الحين أن مسلمات النمط الاقتصادي الاشتراكي الذي يلغي عوائد الرأسمال يمكن أن تستمر بشكل أخلاقي في وعي الكثير من المواطنين لسنوات بعد انتهاء التجربة الاشتراكية هناك.
صحيح أن الرأسمالية تخفي بعلاقاتها أصل الإنتاج والثروة من العمل وتنسب بعضه إلى أدوات غير منتجة فيصبح النقد ينتج ثروة وكذلك الأوراق المالية ومشتقاتها، ولكن العلماء الاقتصاديين (وليس خدم الرأسماليين المتلبسين برداء العلم) استطاعوا سبر أغوار هذه العلاقة. يقول جون ماينارد كينز: «أنا أتعاطف مع المبدأ الماقبل كلاسيكي القائل إن العمل ينتج كل شيء بمساعدة التقنية والموارد الطبيعية والأصول الناتجة من العمل السابق... من المفضل اعتبار العمل... كعامل الانتاج الوحيد». طبعاً يعبر هذا عن السؤال الاساسي الذي طرحه قبل كينز الاقتصادي البريطاني دافيد ريكاردو في بدايات القرن التاسع عشر حول اصل القيمة في الاقتصاد (اي ما الذي يحدد قيمة الجريدة التي تحملها الآن)، والسؤال المشتق منه كيف تحدد حصص الطبقات الاجتماعية من الانتاج (اي لماذا اجرك هو ما هو عليه ونسبته من ربح المؤسسة التي تعمل لديها). كان جواب ريكاردو ان القيمة يحددها العمل وكان متشائماً حول مستقبل الرأسماليين في ظل سيطرة الريع على الربح الرسمالي في مجتمعات لا يزال يسيطر فيها ملاك الاراضي في تلك الفترة في بدايات الرأسمالية. أتى ماركس بعد ريكاردو ليطرح هذه المواضيع بشكل أكثر شمولية ضمن ديناميكية الراسمالية والمنافسة والابتكار والتحديث التكنولوجي، التي تلغي تشاؤم ريكاردو، وتضع الربح خارج إطار الإلغاء الريعي له، وذلك بسبب سيطرة الصناعة في خضم الثورات العلمية والتكنولوجية.
إلا أن ماركس أخذ نظرية القيمة لريكاردو وطورها وعلى أساسها بيّن أن رأسمال ما هو إلا علاقة استغلالية مرحلية على المستوى التاريخي سيأتي يوم إعلان نهايتها عاجلاً أم آجلاً، إذ ان العمل سيكون هو العامل الوحيد في الانتاج وستعود الآلات والأراضي والأدوات المالية الى كونها أدوات تقنية او طبيعية في عملية الانتاج لا عائد لها، باعتبار أن الإنسان وعمله سيكون أصل القيمة بشكل ظاهر وقانوني وسياسي. في الأول من أيار 1886 أطلق العمال الأميركيون إضرابات عمت الولايات المتحدة الأميركية للمطالبة بجعل يوم العمل 8 ساعات، وكانت شيكاغو المدينة الأكثر حماسة، فاستمرت فيها الفعاليات حتى الرابع منه، عندما أطلقت الشرطة النار على متظاهرين في الهايماركت وقتلت عدداً منهم. منذ ذلك الوقت تبين أكثر فأكثر أن الصراع الطبقي حول الأجر وطول يوم العمل وسرعته وليس فقط المحددات التكنولوجية أو الطبيعية هي التي تحدد حصص الطبقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي. ويعرف ذلك العمال والموظفون وبالطبع يعرفه الرأسماليون. بعد انتهاء الفترة الذهبية للراسمالية التي استمرت من 1945 الى بدايات السبعينيات، حيث تماهت زيادة الاجور مع النمو الاقتصادي والارباح في الانظمة الراسمالية المتقدمة، بدأ الرأسمال هجوماً مركزاً على الأجر والمحظيات الاقتصادية والاجتماعية للطبقة العاملة، وانتج هذا الوضع الحالي المتراجع لمكانة العمال والموظفين. وقد كانت هندسة الانفصال بين نمو الانتاجية ونمو الاجور التي حصلت بعد 1973 السبب الرئيسي في هذا التراجع، إذ أدت نتيجة التراكم الحاصل لمدة اربعين سنة الى تراجع حصة الأجر من الناتج الاقتصادي في أكثرية البلدان الراسمالية. وعلى سبيل المثال فإن متوسط الأجر الفعلي قد بقي على حاله في الولايات المتحدة طيلة تلك الفترة وارتفعت الهوة بين الأجر وعوائد الراسمال وزاد تفاوت الأجر بين العمال والموظفين وما يتقاضونه المدراء التنفيذيون من واحد الى ثلاثين الى واحد الى 300! ما حدا مؤخراً إلى أن يعلن جوزيف ستيغليتز ان الحلم الاميركي ما هو الا اسطورة في ظل عدم مساواة كبرى وانسداد سبل الترقي الاجتماعي وتحول اميركا الى مجتمع استقطابي طبقي. كما تبين هذا الهجوم في الحلول التي استنبطت بعد الازمة الراسمالية العالمية في 2008، وخصوصاً في أوروبا، حيث أتت الحلول عبر فرض التقشف، وفي حالة اليونان التي لا يزال الصراع فيها مفتوحاً، عبر خفض الاجور، وذلك لتأكيد سيطرة الرأسمال الأوروبي. بالطبع ان مقاومة عمال وموظفي وشعب اليونان، والتي لم تبق على مستوى المقاومة كما كان يحصل في السنوات الماضية بل أوصلت ممثليها إلى السلطة السياسية، ستعطي شعوب أوروبا والمتوسط والعالم نكهة جديدة في الأول من أيار غداً. على المدى التاريخي، فإن رأس المال حتى الآن يفصل بين الإنسان وثمار عمله المتراكم المتجسد بالآلات والتكنولوجيا والتي ستحرر الإنسان من العمل المأجور. واليوم في أول أيار 2015 في خضم التطور التكنولوجي الذي بدأت تباشيره تؤشر لحصول هذا التحرر، وفي خضم الهجوم الشرس للرأسمال لضمان عدم حصول هذا التحرر، نستذكر كارل ماركس الذي وضع العلم الذي سينهي هذا الفصل الاصطناعي الذي بانتهائه وبانتهاء رأس المال يتحرر الإنسان من تقسيم العمل في مجتمع شيوعي يكون الإنسان فيه حراً، حيث يصبح العمل لتحقيق الذات، كما قال ماركس: «أتصيد في الصباح واصطاد الأسماك بعد الظهر وأربي الأبقار في المساء وأنقد الفن بعد العشاء من دون أن أكون صياداً أو صائد اسماك أو مزارعاً أو ناقداً». حتى ذلك الوقت نكرر مع الشاعر البريطاني أودن أنه مع كل إنجازات الأمس واحتمالات الغد «لكن اليوم النضال».