اليونان: اليسار يصنع الليلة التي تؤرق برلين

اليونان: اليسار يصنع الليلة التي تؤرق برلين
27 Jan
2015

وسيم ابراهيم - السفير

عيون أوروبا كلها كانت مثبتة على السياسي الشاب أليكسيس تسيبراس، بعدما قاد حزبه «سيريزا» إلى فوز فاق التوقعات في الانتخابات اليونانية أمس الأول. القارة شاهدته وهو يخاطب الشعب اليوناني الذي سلّحه بتفويض واضح، ليعد بإنهاء «خمس سنوات من الإذلال والألم» سببتها سياسات التقشف. بلدان تعاني من تبعات الأزمة عاشت انتخابات اليونان كما لو أنها حدث محلي، على رأسها إسبانيا التي تشهد صعود حزب شقيق لـ «سيريزا» يعد مدريد أيضًا بالتغيير. هناك يرددون أحد شعارات حملته الأساسية: «تغيير اليونان، تغيير أوروبا». لذلك، كان صُنَّاع القرار الأوروبي في بروكسل يراقبون تسيبراس بفضول وقلق، بينما يعبر ردهات القصر الرئاسي ليُعَيَّنَ رئيسًا جديدًا للوزراء. حضر حريصًا على عدم تغيير عاداته: بدلة رسمية من دون ربطة عنق، مع بضعة أعضاء في حزبه يلتزمون بهذا التقليد. أرادوا أن يكرسوا ما قالوه عن أنهم آتون للعمل، وأنهم جاؤوا شكلًا ومضمونًا من خارج الطبقة السياسية التقليدية التي حكمت اليونان لعقود. أظهرت النتائج فوزًا كبيرًا لحزب «سيريزا» (تكتل اليسار الراديكالي)، مع 36.3 في المئة من الأصوات، أعطته 149 مقعدًا في برلمان يضم 300 عضو. الفارق كان معتبرًا مع حزب «الديموقراطية الجديدة»، الذي شكل الحكومة مؤيدًا لشروط الإنقاذ المالي، إذ حصل على 27.8 في المئة من الأصوات أعطته 76 مقعدًا. العار المتمثل بحزب «الفجر الذهبي» (النازيون الجدد) بقي ملتصقًا باليونان، فالغاضبون اليمينيون مَكَّنوه من تحصيل 17 مقعدًا، فاحتفل بذلك زعماؤه من زنزاناتهم وهم ينتظرون محاكمتهم بتهمة تشكيل «عصابة إجرامية». «الحزب الشيوعي» حقق تقدمًا، فدخل البرلمان مع 15 نائبًا. كان «سيريزا» بحاجة إلى مقعدين آخرين فقط، ليحكم اليونان وحده. لذلك كان الخيار السياسي لقيادته الذهاب إلى التحالف مع حزب صغير من اليمين الوسطي، يتفق معه على أولوية رفض التقشف وشروط الإنقاذ ويختلف معه على قضايا أخرى. هكذا تحالف تسيبراس مع يانوس كامينوس، زعيم حزب «اليونانيون المستقلون» الذي فاز بـ13 مقعدًا. هذا التحالف سيمكن «سيريزا» من موقف تفاوضي قوي مع بروكسل وبرلين، من دون أن يعطي للحزب الصغير قدرة تأثير جوهري في السياسات الأخرى. كانت ليلة من الأرق بالنسبة إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. مهرجانات الاحتفال بالنصر في شوارع أثينا، حملت شعارات العداء لسياسات برلين، فهناك ينظر إليها كمهندسة لـ «كارثة إنسانية» تتجلى في بطالة تفوق 25 في المئة، وتتجاوز 50 في المئة بالنسبة للشباب. الكابوس بات أمرًا واقعًا بالنسبة إلى حكومة ميركل، فالحزب اليوناني فاز واعدًا بتحقيق أمرَين: رفض الالتزامات التي قطعتها الحكومة السابقة كشروط للانقاذ، ما يعني إلغاء التقشف، والدعوة إلى إقامة «مؤتمر أوروبي للدَّيْن» بهدف شطب نصف الدَّيْن الخارجي الهائل لليونان. زعيم «اليسار الراديكالي» كرّس بعد الفوز هذه الأولويات، قائلًا إن «قرار الشعب اليوناني يُنهي، من دون أدنى شك، دائرة التقشف المفرغة في بلدنا». صور تسيبراس رافعًا قبضة النصر تصدرت الصحف الأوروبية. عكست الصحف الألمانية خيبة أمل ساسة برلين، مع عناوين مرتابة. صحيفة «بيلد» الشعبية، عنونت على صفحتها الأولى: «اليونان انتخبت وحش اليورو». لكن حكومة ميركل تجنبت التصريحات الصدامية، مع تأكيد على خط أحمر بأنها لن تقبل شطب ديون اليونان، وهي التي تملك قسمًا معتبرًا منها. هذا النقاش خيم على اجتماع وزراء مالية منطقة اليورو أمس في بروكسل. وزير مالية ألمانيا وولفغانغ شوبل، الذي يُعَدُّ العقل المدبر لخطط الإنقاذ وشروطها، قال بإصرار رافضًا أي تفاوض حول الاتفاقات السابقة: «لا أحد يفرض أي شيء على اليونان، التعهدات تبقى سارية المفعول». لكن الخط الأحمر لبرلين كان بمثابة كلمات سحرية تم تعميمها على صانعي القرار الذين يقعون في دائرة نفوذها المباشر. هكذا أكد رئيس منطقة اليورو يارون دايسلبلوم: «لا أعتقد أن هنالك الكثير من الدعم» لفكرة شطب الديون، مهددًا بأنه «إذا أردت أن تبقى في منطقة اليورو، فعليك احترام الالتزامات التي تم التعهد بها». قضية شطب الدين تمثل مسألة بالغة الحساسية لبرلين، ولمجمل حكومات اليورو التي تملك 60 في المئة من ديون اليونان المقدرة بحوالي 319 مليار يورو. صندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي يملكان 16 في المئة من هذه الديون، ويؤكدان أنه «من المستحيل، من الناحية القانونية»، أن يشطبا أي جزء من حصتهم. لذلك سربت برلين، للضغط على «سيريزا»، أن احتمال خروج اليونان من اليورو لا يزال واردًا، على اعتبار أن التكتل المالي قام بإصلاحات تمكنه من تحمل ذلك. من جهتهم، يرد الفائزون بأنهم يريدون البقاء في اليورو، وأن إخراج اليونان سيعني انهيارًا لكامل تكتل العملة الموحدة. لكن قيادة «سيريزا» تقول إنه «من المستحيل» تسديد الدين وضخ استثمارات يحتاجها الاقتصاد للتعافي، بعدما بلغت نسبة الديون 175 في المئة من الناتج الإجمالي. هذه الخلاصة يؤكدها كوستاس كرسوغونس، النائب الأوروبي عن «سيريزا»، العائد لتوه من احتفالات النصر في أثينا. يقول كرسوغونس في حديث إلى «السفير» إن «على النخبة الأوروبية احترام الديموقراطية وإرادة الشعب اليوناني، ولا يمكنها مطالبتنا بتسديد هذا الجبل من الديون الذي وضعوه على أكتافنا، فذلك سيجعل نمو الاقتصاد أمرًا مستحيلًا». قضية «الالتزامات» التي يكررها الدائنون لا تعنيهم، كما يردد بلهجة منفعلة أن «الحكومات السابقة تَبَنَّت أشياء من المستحيل إنجازها، لذا، علينا التفاوض من جديد حول كل شيء». المسألة الأكثر ضغطًا على برلين هي سياسية صرفة، تجعلها مع بروكسل بين فكي حسابات انتخابية محلية وأوروبية. الذهاب إلى الصدام مع «سيريزا»، وترك الخلافات تنفجر، سيقوي جبهة معارضي القرار الأوروبي المركزي، من اليسار واليمين، في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها. وتأكيدًا على ذلك، تصرف زعيم حزب «بوديموس» بابلو إيغليسياس أمس، كما لو أنه صاحب النصر. حزبه لم يَمْضِ عامٌ على تشكيله، وصعد من قلب الاحتجاجات الشعبية ليتصدر الآن استطلاعات الرأي، في بلد يشهد أيضًا مشكلة بطالة قياسية. قال إيغليسياس معلقًا على النتائج بلهجة خصام مستحكمة: «أخيرًا سيكون لدى اليونانيين حكومة يونانية، لا مندوبٌ عن أنجيلا ميركل».

الأكثر قراءة