حين انطلق «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» في الستينيات، كان يهدف إلى تعزيز الوعي باتجاه الديمقراطية والعلمانية. تصدّى للخنادق المذهبية والطائفية والعصبيات الضيقة في عزّ الحرب الأهلية، ومدّ جسوراً مع شريكه في الوطن وواصل العمل على توثيق ذاكرة الجنوب. منذ الاثنين الماضي، بدأ الاحتفال بيوبيله الذهبي في «قصر الأونيسكو» في بيروت حتى يوم السبت
آمال خليل
منذ 2005، لا تفلح محاولات الإعلام في الحصول على مقابلة مع النائب السابق الكاتب حبيب صادق حول الشؤون السياسية. نائب اليسار التزم الصمت منذ أن اعتكف السياسة. لكن حالما يتحول مبتغى اللقاء إلى أحاديث الثقافة وتحديداً حول «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي»، يصبح الأمر مختلفاً. يلين وتشرق أساريره ويبدأ بسرد رواية خطّها هو ورفاقه عام 1964. في المقرّ الرئيسي للمجلس في المزرعة في بيروت، تزدحم المؤلفات فوق مكتب صادق المفتوح على قاعة حوار تعلوها صور المؤسسين الأوائل وكبار المفكرين الجنوبيين. يحار من أين يبدأ لاستعراض تجربة نصف قرن من عمر المجلس. يقول إنّه تأسّس على أيدي نخبة من الأدباء والمثقفين من أبناء الجنوب، لكنهم لم يكونوا ممثلين لثقافة مسقط رأسهم فحسب، بل للتيار الفكري والأدبي في كل لبنان كبولس سلامة وحسين مروة وعبد اللطيف شرارة وحسن الأمين وجورج جرداق وعبد الرؤوف فضل الله، ويوسف الحوراني...
وإن كان المجلس قد نال رخصة العلم والخبر من وزارة الداخلية عام 1964، إلا أنّ محاولات عدة سجلت في السياق قبل ذلك. في هذا الإطار، يتوقف صادق عند المنابر الثقافية والدينية التي تأسست في جبل عامل منذ نهاية القرن الـ 19، حتى جاء المجلس تتويجاً للتجارب السابقة واستجابة أمينة لطموحات أهل الأدب والفكر فيه. هيئته الإدارية الأولى انتخبت عبد الرؤوف فضل الله أميناً عاماً قبل أن يخلفه القاضي زيد الزين ثم صادق نفسه منذ 1975. لكن جنوب الستينيات، لم يكن ـ جغرافياً ـ بيئة للثقافة في وقت كان عدد كبير من أبنائه المقيمين يرزحون تحت نير الأمية والإقطاع العائلي والسياسي. لمَ دمج المجلس الجنوب والثقافة في اسمه؟ يقول صادق إنّ أهداف المجلس كانت لمّ شمل المثقفين في إطار تنظيم ديمقراطي مستقل وتعزيز الحركة الثقافية الجنوبية والبحث في الكتب والمخطوطات القديمة التي وضعها جنوبيون (حقق المجلس ونشر 19 مخطوطة حتى اليوم). ومن الأهداف أيضاً، توثيق العلاقة بين المجلس والهيئات الثقافية في لبنان والعالم وتعزيز الحركة الأدبية في جيل الشباب. لكن الديمقراطية التي حاول أهل المجلس زرعها ليس بين الجنوبيين المقيمين في بيروت فحسب، بل في قراهم الرازحة تحت الحرمان. بدايةً، لم يكن للمجلس مقرّ لا في بيروت ولا الجنوب، رغم أنّ العلم والخبر يشير إلى أن مقره في صيدا. والسبب كما يقول صادق، هو ضيق الإمكانات الاقتصادية لأعضائه والوضع الأمني المضطرب، إذ بدأ العدوان الإسرائيلي على لبنان بالتزامن مع تأسيس المجلس. هكذا، كان يعقد ندواته وأمسياته بضيافة الهيئات الثقافية الصديقة. يصرّ صادق على التوقف عند أول معرض (بلغ عددها حتى الآن 30) لرسامين جنوبيين نظم عام 1966 في قاعة بلدية صيدا برعاية نائبها الشهيد معروف سعد، وعند أول كتاب أصدره المجلس بعنوان «الخطر الإسرائيلي على جنوب لبنان» للمهندس عبدالله عاصي عام 1969. في 1970، صار للمجلس مقر بالإيجار في رأس النبع بفضل حملة تبرعات من الأصدقاء. تحوّل هذا المقر سريعاً قبلة للطلاب والمثقفين والناشطين الجنوبيين. يحفظ صادق تاريخ 2 أيار (مايو) عام 1974، حين قدّم الشاعر محمود درويش في أمسية أسست لرابطة وثيقة مع المثقفين الفلسطينيين وقدمت لهم منبراً حاضناً. لكن الاستقرار لم يطل. الحرب الأهلية هجّرت المجلس من رأس النبع التي تحوّلت خط تماس. بعد خمس سنوات من الضيافة القسرية لدى الهيئات الصديقة وداخل الأحياء الشعبية في ضواحي بيروت التي تجمّع فيها النازحون من الجنوب، اشترى المجلس مقره الحالي في منطقة المزرعة بفضل حملة تبرعات أيضاً. من هناك، تطور المستوى من أنشطة إلى مواسم ثقافية منها المهرجان الشعري في قاعة كلية الحقوق (الفرع الأول) الذي شمل 11 شاعراً جنوبياً، وتم توثيقه في كتاب «وكل الجهات الجنوب». بأسلحته، تصدى المجلس لاجتياح بيروت عام 1982، فلم يوقف أنشطته منها معرض من وحي الاحتلال نظمّه عام 1983.
أما في الجنوب، فقد صار له مقر في النبطية منذ سنوات فقط. قبل ذلك، كانت بيوت الأعضاء في قراهم هي مقارّه. AffinityCMSت صادق الشعبية حتى ترشحه للانتخابات النيابية عامي 1968 و 1972 عن قضاء مرجعيون ـ حاصبيا، أدخلت معه المجلس والثقافة إلى البيوت. «المحرض الثقافي» كما وصفه المفكر الراحل محمد دكروب، أصبح المجلس المتنقل! ركز في تشجيع التعليم وبث روح المطالعة بين الشباب في القرى، موزعاً عليهم المنشورات والكتب ومخصصاً ندوات حول أهمية التعليم. كان الهاجس ـ بحسب صادق ـ تعزيز الوعي باتجاه الديمقراطية والعلمانية في لبنان عموماً. وفّر المجلس منحاً تعليمية لعدد من الطلاب لمتابعة دراساتهم في الخارج، لا سيما في الاتحاد السوفياتي. ويفرد صادق مساحة لحراك المجلس في الخارج. يلفت إلى المعرض الذي نظمه في المتحف الوطني السوري وآخر في دبي، فضلاً عن مؤتمرات في دمشق والقاهرة وتونس والجزائر والرباط واسبانيا وايطاليا والمانيا حتى كندا. الخطوات الأولى للمجلس كانت مد الجسور مع الهيئات المحلية خصوصاً «الحركة الثقافية ـ إنطلياس» و«النادي الثقافي العربي». لكن بعد ذلك، استقطب المثقفين من الخارج. على منبره، وقف عبد الوهاب البياتي وعبد المعطي حجازي وشوقي بغدادي وممدوح عدوان وعلي الجندي يلقون قصائدهم، والطيب تيزيني ولطيفة الزيات وفتحية العسال ورضوى عاشور يطرحون أفكارهم. «المجلس وقف نفسه على إحياء التراث الثقافي والوطني للجنوب ومنه للبنان»، قالها قسطنطين زريق. لكن الحرب الأهلية أفقدت المجلس التراث العاملي الذي دأب على جمعه، حين استُهدف مقره في بيروت. التجهيزات والكتب والمخطوطات واللوحات والدراسات داستها أقدام المقاتلين. استعادة التراث لم تكن سهلة، إذ اضطر أهل المجلس لجمع ما احتفظوا به وأصدقاءهم في مكتباتهم الخاصة وما نشرته الصحف والمجلات من تغطية لأنشطتهم. ومنذ التسعينيات، كثف المجلس جهده لجمع نتاج أبناء الجنوب الأدبي المهمّش. قبل ذلك، أنتجت عملية الجمع الأولى «دليل جنوب لبنان كتاباً» عام 1981. وقبل خمس سنوات فقط، أنتجت العملية الثانية لإصدار الدليل ذاته، بصيغة جديدة، أوسع وأشمل. صدر هذا الدليل المرجعي تحت إشراف صادق وضم أسماء الكتّاب الجنوبيّين وأماكن ولاداتهم ومؤلّفاتهم والدور التي صدرت عنها المؤلفات، فكان أوّل إحصاء علمي في لبنان خاص بالجنوب والنبطية. وضم أسماء 799 كاتباً وأكثر من 5000 مؤلّف. والأهم أنّ عملية بحث قادت إلى اكتشاف 16 مخطوطة تعود إلى القرن الـ 19، منها مخطوطات للشيخ علي السبيتي الذي كان من كبار رجال الدين، ودرّس في حوزته في قرية كفرا. كما نشر رواية «حسن العواقب» لزينب فواز (1846ـــــ 1914، تبنين) إضافة إلى مسرحيّة «الهوى والوفاء» التي كتبتها في القرن الـ19. التركيز على فواز كان بهدف الإضاءة على تميز المرأة الجنوبية. فواز تطرقت إلى حقوق المرأة قبل المصري قاسم أمين بـ 30 عاماً. صادق وقع أيضاً كتاب «وجوه مضيئة» الذي استعرض رواداً كباراً منهم جنوبيون أمثال حسين مروة ومهدي عامل وحسن الأمين وجعفر شرف الدين وجان عزيز. بعد نصف قرن من الحراثة في الأرض الجنوبية، يأمل حبيب صادق من الأجيال الشابة أن تحمل الشعلة وتواصل مهمة المجلس الذي «ينهج نهجه الوطني الصحيح ويتوجه إلى أرضه الجنوبية يحفر في ترابها ليستخرج كنوزها الدفينة» وفق تعبير الشهيد حسين مروة.
احتفالية «اليوبيل الذهبي»: حتى 31 أيار (مايو) ــ «قصر الأونيسكو» (بيروت) ــ للاستعلام: 01/815519