إنها بلوتوقراطية وقحة

إنها بلوتوقراطية وقحة
15 Apr
2014

يذهب النواب الى «البرلمان» اليوم للفصل في واحد من أوضح الصراعات بين تكتلات المصالح في الاقتصاد: صراع يحاول إعادة توزيع الحصص في الناتج المحلي، ليس بين الارباح والاجور فحسب، بل بين القطاعات نفسها التي يتشكّل منها هذا الاقتصاد

محمد زبيب - الاخبار

مطلب تصحيح أجور المعلمين والموظفين في الادارات العامّة والعسكريين، بعد تجميده منذ 16 عاماً، لا يمس فقط مصالح أكثر من 220 ألف مستفيد مباشرة منها، وهم فئات مهمّة من السكان، بل يمس أيضاً مصالح جميع المقيمين في لبنان، إذ إن هؤلاء المستفيدين (بما في ذلك المدارس الخاصة التي تحظى بدعم هائل من المال العام) يتقاضون أجورهم من الضرائب. قد يكون متوقعاً من هيئة التنسيق النقابية أن تتعامل مع القضية بوصفها شأناً نقابياً «فئوياً» يتعلق بنزاع بين عمّال يطالبون بحقهم في تصحيح أجورهم وصاحب عملهم، وقد يكون متوقعاً من أصحاب الرساميل أن يمانعوا دفع الضرائب لأي سبب كان ما دامت تصيبهم في هوامش أرباحهم.

إلا أن القضية للبقية، على الاقل 4 ملايين لبناني مقيم، ليست كذلك تماماً. صاحب العمل هنا هو «الدولة»، والدولة شأن عام، والحديث يجري عن 1.8 مليار دولار في السنة، هي كلفة الزيادة في سلسلة الرتب والرواتب المعروضة على مجلس النواب الآن. هذا يعني أن الدولة عليها نقل هذه القيمة من مداخيل ناس الى مداخيل ناس آخرين. وهنا يكمن أصل الصراع. لذلك يُعرض على مجلس النواب في الوقت نفسه مشروع قانون يرمي الى زيادة الضرائب التي تجبيها الدولة، وهذا سيمثّل ضغطاً غير قليل، وستكون له تداعيات كبيرة إذا لم يحمّل لفئة أو فئات قادرة على زيادة الاقتطاعات الضريبية من أرباحها وريوعها، وإذا لم يستغل من أجل إعادة ترميم مشروعية الدولة التي انهارت كلياً، لا سيما في العقد الاخير.

ما يجري في مجلس النواب اليوم يعني الجميع، ولكن قلّة، من خارج فئات المستفيدين المباشرين، تتصرف باهتمام شديد وتخوض معركتها للدفاع عن مكاسبها وامتيازاتها. تعبّر «الهيئات الاقتصادية» عن هذه القلة وتتحدث باسمها وتمثّلها في علاقاتها مع «الدولة». الحل الأمثل لهذه القلّة هو ألا تفي الدولة بحقوق عمالها، أن تستغلهم كعمالة رخيصة وتحولهم جميعاً الى مياومين، على غرار ما يحصل في أغلبية شركات القطاع الخاص. ولا يتعلق السبب بكلفة الأجور فقط والحاجة الى ضرائب لتمويلها، بل بالنظرة الى الدولة نفسها ودورها ووظائفها وبالنظرة الى الاقتصاد والمصالح الكامنة فيه. لا يمتلك الزعماء الطائفيون قدرة طمس هذا النوع من الصراعات (عادة) إلا بالعنف أو التحايل والرشوة، ولا يمتلكون خبرة إدارته (غالباً) إلا بارتجال المساومات الفوقية، نيابة عن كل الناس وباسمهم ومن حساب الفئات الضعيفة والمخدوعة وغير المنظّمة أو التي خانتها تنظيماتها، كالاتحاد العمالي العام مثلاً، والنقابات المهنية والاحزاب اليسارية والديمقراطية ومنظمات كثيرة في المجتمع المدني تعمل على القطعة وغب الطلب. لكن في هذه اللحظة المفصلية بالذات، وعلى عتبة مجلس النواب، يجدر الخوف، ليس على حقوق المستفيدين من السلسلة فقط، وهم تعرّضوا لأكبر عملية خداع من خلال ما توصلت اليه اللجان النيابية المشتركة، بل أيضاً على الفئات الاجتماعية المغبونة؛ فالنواب أبقوا سيف الضرائب على استهلاك الأسر قائماً، في حال اضطروا الى المزيد من المسايرة لقوّة الضغط الأفعل، المتمثّلة في الهيئات الاقتصادية. لذلك، فيما النواب يناقشون الآن سلسلة الرواتب وسبل تمويلها، ويحدد كل منهم موقعه في هذا الصراع، على المتفرجين والمتفرجات أن يتذكّروا أن من يصوّت في النهاية ليسوا أشباحاً أو مجرد نواب رُعْن، بل الاحزاب التي تدّعي تمثيلهم، أحزاب لها أسماء وعناوين وقادة وخطابات وجماهير: تيار المستقبل، التيار الوطني الحر، حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، حزب الله، حزب القوات اللبنانية، حزب الكتائب، حزب الطاشناق، تيار المردة، الحزب السوري القومي الاجتماعي، حزب البعث، والجماعة الاسلامية. هذه الأحزاب (مع فارق الاحجام الكبير بينها طبعاً) تسيطر على الاكثرية الساحقة من المقاعد النيابية، وتمون على كل المقاعد بالفعل، وبالتالي الموقف من تصويت كل نائب يفترض أن يكون موقفاً من الكتلة الحزبية التي ينتمي اليها مباشرة أو بالمواربة. هكذا أصلاً يجري التسويق لما يسمّونه «اللعبة» الديمقراطية: أن يعير الناخب انتباهه لقرارات من فوّضه بتمثيل مصالحه لمدّة معيّنة (علماً بأنها مدّدت من دون جميل الناخب/ة). فكيف إذا كانت هذه اللعبة في لبنان ضيقة كثيراً وتنحصر إدارتها بـ6 زعماء فقط: السيّد حسن نصرالله والاستاذ نبيه بري والشيخ سعد الحريري والجنرال ميشال عون ووليد بك جنبلاط والحكيم سمير جعجع؟ هؤلاء، إذا اجتمعوا كلّهم أو بعضهم، حتى من موقع ادّعاء التمثيل الطائفي، وانحازوا الى مصالح فئات اجتماعية معينة، فإنهم يمتلكون سلطة واسعة لتحقيقها وخدمتها، أو هذا، على الأقل، ما أثبتته التجربة الماضية، في مرحلتيها الاساسيتين: مرحلة الوصاية السورية من دون عون وجعجع وبوجود غازي كنعان ورستم غزالة، ومرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري بوجود عون وجعجع ودخول حزب الله الى الحكومة. كل واحد من هؤلاء الزعماء ساهم، بحسب حصّته ومصالحه، في جعل الاقتصاد اللبناني يعمل باتجاه واحد لمصلحة تركيز المزيد من الثروة والموارد في أيدي القلّة على حساب الاكثرية، وتركيز المنافع في الريوع السهلة على حساب الانتاج وفرص العمل والرفاه الاجتماعي. بمعنى أوضح، ساهموا، بشكل أو بآخر، في جعل نظام المحاصصة الطائفية يتحوّل الى نوع من الحكم «البولوتوقراطي»، أو سلطة الأثرياء. فقد أدّى الزعماء الطائفيون (دائماً) وظيفتهم بكبح الصراعات الاجتماعية وإنكارها وإخضاع الاقتصاد السياسي لتكتل المصالح في المصارف والعقارات والتجارة والسيطرة على ريوع الدولة الهائلة، ليس بالاستيلاء على الاملاك العامّة فقط والفساد في الادارة، بل أيضاً في منح الافضليات في السوق والاحتكارات والامتيازات والعقود والمزايا الضريبية والاعفاءات وسن القوانين وومخالفتها. اليوم، كلما أخذ نائب الكلام وأيّد السلسلة ومدح فضائلها على العدالة الاجتماعية ومن ثم حذّر من كوارثها على الليرة والتضخم والمالية العامّة والودائع والاستثمار الخاص ومستوى المعيشة والوظائف، مهما قال، فهو لا يفعل سوى تحديد الموقع الطبقي الذي يدفع حزبه أو زعيمه اليه (مع التورية). ففي النهاية، سيكون مضطراً إلى الإجابة عن سؤال واحد محرج: أيهما أهم الآن، اعتبارات تحقيق العدالة الاجتماعية أم اعتبارات حماية المصالح المسيطرة على الاقتصاد؟ هذا ما ستضطر الكتل النيابية إلى توفير الجواب عنه اليوم من خلال التصويت، لا في الخطاب الاستهلاكي. وهذا، ربما، ما دفع بعضها إلى المطالبة بأن تكون مناقشات جلسة الهيئة العامّة اليوم سرّية لا علنية. الأمر محرج فعلاً، ولا سيما لأولئك الذي يقودون الناس بوصفهم جماعات طائفية غير طبقية أو «شوارع» سنيّة وشيعيّة ودرزيّة ومسيحيّة.

الأكثر قراءة