فعلت نساء لبنان الأعاجيب أمس. وحّدن، ومعهن اللواتي سالت دماؤهن غزيرة خلال الأشهر الخمسة الماضية على يد أزواجهن، قوى 8 و14 آذار. سجلنّ، وعبر مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري، رقماً قياسياً في سرعة إقرار القوانين في مجلس نواب، تؤكد الدراسات أنه الأبطأ تشريعياً في العالم. ولكن، ومع هذا «الإنجاز»، لماذا بكت نساء كثيرات أمس داخل مجلس النواب وأمامه؟ لماذا بكت بعض نساء لبنان أمس بالرغم من أن المجلس شرّع تجريم العنف الأسري الذي تقتل بنتيجته امرأة واحدة على الأقل شهرياً في لبنان؟ وتصل الشكاوى من تعرض النساء للعنف على أنواعه إلى نحو عشر شكاوى في اليوم الواحد؟ لماذا بكت بعض النساء مع أن المجتمع المدني، وبتراكم نضالي، نجح في إيصال مشروع القانون إلى الهيئة العامة لمجلس النواب، وتحويل العنف ضد النساء إلى قضية رأي عام، وليس شأناً أسرياً خاصاُ. أفلحت النساء في جعل الحديث عن ضرورة تجريم الإغتصاب الزوجي عادياً بعدما كان من المحرمات باعتباره فعلاً يحصل خلف الأبواب المغلقة، ومحكوما بالنظرة إلى «الحقوق الزوجية»؟ بكت بعض نساء لبنان أمس، وتحديداً اللواتي لم يوفرن وسيلة نضالية منذ نحو عشر سنوات لتشريع حماية النساء من العنف الأسري لأنهن خذلن. لأن القانون الذي أقره نواب الأمة تعامل معهن كرعايا في طوائفهن لا كمواطنات في دولة المؤسسات، ولأنه انحاز إلى رجال الدين في ختام جولة أساسية من المواجهة بين الحراك النسوي المدني وبين ممثلي الأديان. لأن التعديلات التي وضعتها اللجنة النيابية الفرعية لدراسة مشروع القانون، وتم إمرارها في اللجان المشتركة، ومن ثم في الهيئة العامة للمجلس أمس، تراعي قوانين الأحوال الشخصية وتفسيرات الأديان، على اختلافها لمفاهيم القيمومة في الأسرة، وليس لحقوق الإنسان عامة، وفي قلبه المرأة. شعرت نساء لبنان بالخيبة، ليس لأن القانون الذي أقرّ خال من الإيجابيات، بل لأن التعديلات تنسف جوهر التشريع من أساسه. من تعميمه ليشمل جميع أفراد الأسرة، بينما هو وضع لمراعاة احتياجات النساء المعنفات تحديداً. من تجريم الأذى الناتج من الاغتصاب الزوجي، بدل تجريم فعل الاغتصاب بحد ذاته. من تقييد إجراءات حماية المرأة المعنفة مع أطفالها بسن الحضانة الخاضع لقوانين الأحوال الشخصية لـ18 طائفة في لبنان. ومن مدى تسهيل وصول المرأة المعنفة إلى القضاء، وأخيراً من إبقاء المادة التي تعطي الأولوية لقوانين الأحوال الشخصية لدى تضاربها مع قانون العنف الأسري، غامضة، وغير واضحة. خذلت نساء لبنان أمس من نحو سبعين نائباً كانوا قد وقّعوا على رسالة «منظمة كفى عنفاً واستغلالاً»، ومن ورائها «التحالف الوطني لتشريع حماية النساء من العنف الأسري»، وتعهدوا بالسير بملاحظات المجتمع المدني على مشروع القانون. خذلن عندما أدركن، متأخرات، أن لا فرق بين من وقع على التعديلات المطلوبة وبين من رفضها أو من لم يعط موقفاً. في الحقيقة بدا النواب الذين لم يتعهدوا بالمناصرة أكثر انسجاماً مع أنفسهم. لم يعدوا، ولم يتحمسوا ولم يبثوا الأمل في إمكانية عقد شراكة بين المجتمع المدني والقوى السياسية لتحقيق إنجازات كبيرة. كانوا «واقعيين»، عارفين بكيفية عقد الاتفاقات وإقرار القوانين وإمرار المتفق عليه، وبكل سلاسة. خذلت نساء لبنان الخائفات أمس لأن العقاب على قتل النساء لم يكن يحتاج قانون حماية جميع أفراد الأسرة من العنف الأسري، ليتم. فقانون العقوبات يزخر بمواد تصل إلى الإعدام، وهذا ما نصّ عليه القرار الظني في جريمة قتل منال العاصي. كانت النساء تحتاج إلى تجريم العنف الذي يتراكم ليصل إلى القتل. يحتجن إلى تيسير وصولهن للقضاء، إلى حمايتهن مع أطفالهن من الزوج المعنف، إلى إشعار المعنفين داخل الأسرة من الذكور، أبا وأخا وزوجا، وحتى الابن أحياناً، أن النساء لسن ملكية خاصة يتصرفون بها كما يشاؤون، لسن ملك أيمانهم، بل شخصيات معنوية مستقلة تمتع بالحقوق المدنية، وعلى رأسها الكرامة والسلامة النفسية والجنسية والجسدية. لكل هذا يأتي الاحتفال بإقرار القانون ناقصاً، على أهميته ورمزيته. لكل التصريحات التي سبقت الجلسة، ومن أقطاب سياسية تعد بإحقاق الحق للنساء وتعدهن بإنصافهن، بينما تبيّن أن الاتفاق على «الخطوط الحمراء» كان معقوداً سلفاً. لكل ما جرى في مجلس النواب، حركة حركة، وتعليقاً تعليقاً، ومداخلة يتيمة من النائب علي عمار، ولتمنع أياً من النواب، بمن فيهم أولئك الذين تعهدوا بمناصرة التعديلات المدنية المطلوبة عليه، عن الإدلاء بأي كلمة أو احتجاج، ولإعلان الرئيس نبيه بري أن المجلس لا يشرّع تحت الضغط ليمنع النائب سيمون أبي رميا من قراءة ملاحظات «كفى» على مشروع القانون... وأخيراً وليس أخراً، لقول أبي رميا نفسه، لدى طلبه الكلام أنه سيقرأ ورقة «كفى»، لم يتبن، كما غيره من النواب، الملاحظات كما كانوا قد وعدوا. والرئيس بري، المعروف بسرعة بديهيته، تلقف المخرج الذي أمنه أبي رميا ليمنعه من تلاوة الملاحظات بذريعة «عدم التشريع تحت الضغط». أما مسك الختام فجاء على لسان النائب علي عمار، الذي طالب المنظمات النسائية، وإن بقصد التندر، بقانون لحماية الرجال من العنف. لا يشرّع تحت الضغط ولكن ماذا جرى داخل جلسة مجلس النواب أمس؟ طبعاً كانت أجواء مجلس النواب تشي بأن الاتفاق على إمرار مشروع القانون من دون أي تعديلات يطالب بها المجتمع المدني. وللأمانة عمد بعض النواب، ممن كانوا يتقدمون المجتمع المدني في المطالبة بالتعديلات نفسها، إلى بث هذا الجو ربما تجنباً لصدمة قد يصاب بها من حضر من ممثلي المجتمع المدني، وتهييئاً لما حصل. وعليه، ما إن تلا أحد موظفي مجلس النواب رقم مشروع القانون الذي أحيل من مجلس الوزراء في نيسان 2010، حتى طلب النائب علي عمار الكلام. قال عمّار إن «المرأة ريحانة وليست كهرمانة، وليست أسيرة الرجل ولا هي أمة أو عبدة، بمقتضى كل الشرائع السماوية، وهي أم المجتمع وكل المجتمع». وأكد أنه مع «هذا القانون الذي لم يضن به نواب اللجنة الفرعية التي تشكلت لدراسته بحقوق المرأة». وشكى عمّار من تعنيف المجتمع المدني والحملات التي نظمت لإقرار القانون، للنواب أعضاء اللجنة، لافتاً إلى أن التعديلات جاءت من ضمن الروحية الدستورية في البلاد. وقال عمّار بما يؤكد مراعاة النواب للطوائف، إن التعديلات «استحضرت أيضاً الحفاظ على النسيج المجتمعي وقوانين الأحوال الشخصية». وبعدما دعا إلى إقرار القانون بصيغته التي ورد فيها بعد تعديله، ختم عمّار ممازحاً: «والآن نطالب المنظمات النسائية بتقديم مشروع قانون لحماية الرجال من العنف الأسري»، وهو ما أضحك معظم النواب في القاعة. عندها رفع النائب سيمون أبي رميا يده مطالباً بتلاوة مذكرة «كفى» على النواب، ولم يتبنها كمداخلة يحق له كنائب الإدلاء بها، وهو ما فسح المجال للرئيس بري بعدم السماح له بالكلام «كون المجلس لا يشرّع تحت الضغط». مع العلم أن الاتفاق مع نحو سبعين نائباً التقاهم «التحالف الوطني من أجل تشريع حماية النساء من العنف الأسري» كان يقتضي تبنيهم التعديلات شخصياً والتصويت عليها والإدلاء بمداخلات تطالب بفحواها. ومع ذلك، لم ينبث أي منهم بكلمة وصوتوا جميعاً لإقرار القانون كمادة واحدة وتصديقه... وصدّق لترفع جلسة قبل الظهر. وخارجاً سارع نواب كتلة «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» إلى الكلام عن القانون. واعتبرته النائب ستريدا جعجع «إنجازاً»، مبدية تحفظاتها خارج قاعة مجلس النواب، وبعد التصويت عليه، على المادتين المتعلّقتين بتسمية القانون وعدم تخصيصه للنساء، وعلى كيفية تجريم الإغتصاب الزوجي. واللافت أن جعجع قرأت ووزعت على الإعلاميين بياناً مطبوعاً يشي بأن ما حصل كان معروفاً مسبقاً. ومن نواب «الوطني الحر»، تجمع النواب أبي رميا وإبراهيم كنعان وإميل رحمه ليهنئوا بالقانون مع إبداء تحفظاتهم على بعض مواده، ولينصحوا المجتمع المدني بالعمل على قاعدة «خذ وطالب». الاغتصاب الزوجي أكدت كل من مديرة «كفى» زويا روحانا، ومسؤولة الدائرة القانونية في المنظمة المحامية ليلى عواضه عن خيبتهما وخيبة المجتمع المدني من إقرار القانون بالصيغة المعدّلة، متوقفات عند أبرز الملاحظات حوله. وقالت روحانا: «اليوم شهدنا، للأسف، كيف تطبخ الأمور في مجلس النواب»، مستغربة عدم تفوه أي من النواب بملاحظاته داخل قاعة المجلس وخلال التصويت على القانون «مع أن غالبيتهم وعدونا، لا بل وقعوا على عريضة خلافاً لما حصل». عليه، تصرف مجلس النواب وكأن جرائم قتل النساء السبع التي حصلت بعد إقرار مشروع القانون في اللجان المشتركة، لم تقع. لم يُفتح المجال لمناقشة الأسباب التي تدفع بالعنف للوصول إلى ذروته المتمثلة بالقتل الدموي العنيف وبالتمثيل بجثث بعض النساء. لم يبحثوا في كيفية مواجهة تراكم العنف من أساسه. لم يخرج أي منهم ليسأل عن عدد الرجال الذين يتعرضون للعنف على يد النساء، وبالرغم من ذلك فإن ذكور البلاد محميون بالمنظومة الدينية والاجتماعية والقانونية والتقليدية السائدة. لم يذكّروا أن هناك قانوناً (420) يحمي الأطفال والأحداث، وأن النساء المعنفات وحدهن عاريات من أي نوع من الحماية. لم يقولوا ذلك ليطالبوا بالإبقاء على الفلسفة الجوهرية للقانون وحصره بالنساء. لم يخرج أي من النواب، وكلهم كانت لديهم ملاحظات على التعديلات، ليقولوا إن الاغتصاب الزوجي نادراً ما يترك أذى جسدياً يمكن إثباته بتقرير طبي يؤكد حاجة الزوجة المغتصبة للتعطيل عشرة أيام لتتم معاقبة الزوج على الاغتصاب. لم يعترضوا على تجريم الأذى الناتج من الاغتصاب وليس فعل الاغتصاب نفسه. ولم يشر أي منهم إلى أنها المرة الأولى التي يكرس فيها قانون مدني، وليس دينياً، ما يسمى بـ«الحقوق الزوجية» بالجماع، ويجرم فقط، التعسف في استعماله، وهو ما يبقي على اعتبار المرأة ناشزاً في حال عدم إيفائها بهذا الحق، وبغض النظر عن سبب عزوفها. لم يسأل أي من النواب كم امرأة معنفة ستلجأ إلى القضاء إذا لم تكن آليات الحماية تتيح حماية أطفالها معها؟ لم يقولوا إن إخضاع حماية أطفال المرأة المعنفة لسن الحضانة في قوانين الأحوال الشخصية من شأنه أن يحول دون تشكي المرأة خوفاً من منعها من رؤية أطفالها، وان المرأة ستحمى مع مَن هم في حضانتها بينما سيترك مَن هم في حضانة الزوج، ووفقاً لطائفته، معه، والأهم في دائرة الخطر. أما كيف للمرأة أن تحصل على قرار عاجل بالحماية إذا تعرضت للعنف خلال أحد أيام العطلة، فلــــم يتطرق له أحد. لم ينــــاقش أي من المشرّعين في التعديل الذي ربط قـــرار الحماية بقاضي التحقيق وليس بالنيابة العــامة. كلها تعديلات كانت مطلوبة، ولكن نزول نحو خمسة آلاف مواطن ومواطنة إلى الشارع في اليوم العالمي للمرأة للمطالبة بها عند إقرار مشروع قانون حماية النساء من العنف الأسري، ليس كافياً، كما أنه غير مسموح لأن «مجلس النواب لا يشرّع تحت الضغط». الآن، وبعد ما جرى، ومع خروج نواب القوات والوطني الحر للتحفظ على القانون، هل يطلب «التحالف الوطني لتشريع حماية النساء من العنف الأسري»، إلى عشرة نواب من بينهم، توقيع طعن بالقانون، كما أقر، أمام المجلس الدستوري قبل مرور المهلة الزمنية التي تسمح بذلك؟ والمطالبة بإعادة إقراره مع تعديلات المجتمع المدني عليه؟ يكمن الامتحان هنا، وعلى أكثر من صعيد. سعدى علوه - السفير