الشهيد " جلال" في عيون محبيه

الشهيد " جلال" في عيون محبيه
05 Mar
2014

النداء 232/ جنى نخال

 

لم تتسع القاعة للوافدين لحضور الوثائقي.  الذين أتوا أكثر من ثلاثمائة، ملأوا قاعة النادي الثقافي في برجا، لحضور فيلم وثائقي صوّره شباب هواة من قطاع الشباب والطلاب في فرع برجا.

 

الجالس بجانبي لا يتخطّى عمره الثامنة عشر، انضمّ جديداً للحزب وقد كبُر يسمع عن تاريخه. هو جاء ليتعرّف على جلال، فوجد أكثر ممّا كان يبحث عنه. يقترب منّي كل حين ويسألني عن الحاضرين، أو جلال أو المنظَّمين. وقبل أن يبدأ العرض، وبينما حبلت القاعة بالحاضرين وطافت حتى مدخل المركز الخارجي، نكزني الشاب وقال وفي عينيه انبهار: "هاي أوّل مرّة بشوف هلقد ناس بنشاط للحزب".

 

ضحكت وقلت له بأننا حقاّ لم نشهد زمن الحزب الذهبي.

 

بينما تقارب الجالسون لتتسع القاعة أكثر للقادمين، بدأ عرض الفيلم. " جلال، حين تتحدّث البنادق عن رفيق النضال".

 

لساعة كاملة، يصوّر الشباب مقابلات عفوية مع رفاق لمحمود المعوش، عضو اللجنة المركزية وقائد معارك الإقليم ضد الإسرائيليين والقوات اللبنانية. لكنّنا إذ نراه عبر كلام محبّيه، نكتشف في قصص رفاق من الجبل والجنوب والبقاع وطرابلس وبيروت، قائداً كان -برغم قراراته التي تبدو القاسية الجذرية-قبل كل شيء إنساناً عطوفاً متواضعاً يحبّ الناس من حوله، يحبّه من عمل معه ويتعلّم منه.

 

خلال هذه الساعة، يتنقّل الوثائقي بين نوعين من المشاهد: كلام رفاق الدرب، ومشاهد لشباب ببذّاتهم وسلاحهم، يطوفون عبر الجبال، ينكشون قبور السلاح المخبأ، يجتمعون ويراقبون.. ويحضّرون. شباب لم يتخطّوا الخامسة والعشرين، لا نرى وجوههم، لكنّهم بلباسهم العسكري وجزماتهم وسلاحهم، يحيون نهج جلال.

 

عند منتصف الفيلم، راح أحد رفاقه يغنّي لبرجا والمقاومة والشيوعية. للحظات، ارتجّت القاعة بالقلوب تخفق أوّلاً ثمّ بصفيق حاد تحية لزمن كانت فيه هذه الكلمات تعني الكثير.

 

أمامي صفوف من الرجال في الخمسينات والستينيات من عمرهم. لم أستطع قراءة شيء في وجوههم عند دخولهم. رجال ضخام أشدّاء يبدو جليّاً عليهم أنهم كانوا رفاق سلاح ومقاتلين، نعرفهم اليوم باسم "العسكر". هؤلاء كانوا "عسكر" هذه القضية. عند اللحظات الأخيرة للفيلم ومع عرض مقطع لجلال يكلّم رجاله، ومع ارتفاع صوت الموسيقى، رأيت أكثر من ثلاثة صفوف أمامي، لأكتاف عراضٍ قاسية، تهتزّ دون استحياء، لصوت شهقات تحبس دموع عمرها خمس وعشرون عاماً، ورؤوس بيضاء ورمادية تنحني قليلاً إلى الأمام وتغور في ماضٍ، كنّا فيه ولم يكن أحد.

 

عرفت أن الذين جاؤوا، قدموا حقاً شوقاً لجلال ولتجربة النضال بشكله الحقيقي القريب من الإنسان والمحرّر له. فقد أظهرت لنا هذه التجربة فيما أظهرت، أن هذا الجيل الذي كان صانعاً لتاريخ حزب، يحتاج لمن يأخذ منه العبر ويوثّق تجربته ليلعب دوره في المساهمة في تراكم التجارب، وأن جيلنا بحاجة للإطلاع على ما جرى، وأن ذلك لن يحصل من خلال كتب التاريخ الوطنية. وبينما قام شباب هواة بتجربة متواضعة وبإمكانات محدودة (كلّف الفيلم أقلّ من مئة ألف ليرة لبنانية)، وثّقت لجزء من تجربة واحدة (فتجربة جلال لوحدها أكبر من أن توثّق فقط على هذا المستوى)، من الضروري أن نجد من يعمل جدياً على توثيق وحفظ وأرشفة تجربة استثنائية، لا يجب أن تُمحى مع مرور الزمن وموت أصحابها.

 

في مقابلات مع الرفاق ومن خلال خيط رابط من مشاهد لجيل جديد يمهّد لنشوء حركة مقاومة تُكمِل ما تعذّر إكماله، لم يخض الوثائقي مواضيع معقّدة أو أفكار فلسفية..لكنّه من ناحية أخرى فَعَل.

 

فِعلُ التحرّر، والعلاقات الإنسانية التي تتبلور من داخل النضال، واستحالة موت قضية محقة حتى لو مات قادتها، وحتى لو، في مكان ما وبشكل من الأشكال، أحسّ أصحابها أن الدهر قد نسيهم.

الأكثر قراءة