سمير دياب- موقع الحزب الشيوعي اللبناني
لم يسألوا عن الهوية الطائفية للقرية، ولم ينجروا إلى قصة "جحا" في العيش المشترك، ولا إلى فكاهة المصالحات الزعاماتية الفوقية السياسية والطائفية ومعها المالية، بل، شاركوا بالمئات وتوالدوا بالآلاف، لقناعة وطنية راسخة بضرورة تلبية نداء "اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني" الصادر بتاريخ 22 شباط 1999، والداعي إلى دعم قضية المقاومة الوطنية، وإلى دعم شعبنا وأهلنا في الجنوب المحتل الصامد، والمشاركة في مسيرة شبابية وشعبية من كل الوطن إلى بلدة "أرنون" لفك الحصار الصهيوني عنها، بعد اقدام العدو على محاصرتها وأسرها وعزلها بالسواتر الترابية والاسلاك الشائكة ومنع اهاليها من العودة الى منازلهم بتاريخ 16 شباط 1999.
صباح يوم الجمعة الواقع فيه 26 شباط 1999 كان يوماً عادياً، لكنه لم يكن كذلك لدى شريحة من شباب وطلبة لبنان، الذين كانوا على موعد مع "أرنون"، مع النضال، مع الوطن، تجمعوا باكراً في فروع الجامعة اللبنانية، وفي الجامعات الخاصة اليسوعية والأميركية والعربية..، وفي المهنيات والمعاهد التعليمية، وأتوا من مختلف أضلع الوطن. نظموا صفوفهم، وركبوا حافلاتهم على تمام موعد اللقاء الصباحي المحدد ينتظرون بعضهم البعض عند نقطة محطة التجمع الأولى في خلدة.. حافلة.. اثنان..عشرة..عشرون..ومع وصول آخر حافلة ( بوسطة) إنطلقت القافلة باتجاه محطتها الثانية في صيدا، حيث المزيد من الطلبة ينتظرون بحافلاتهم عند دوار الجامعة اللبنانية، ولتتابع القافلة مسيرتها نحو قضاء النبطية المحطة الثالثة والأخيرة قبل الإطلالة على هدف الرحلة نحو بلدة أرنون المحتلة.
شباب بعمر الورود من مشارب سياسية مختلفة، ومن كل المناطق اللبنانية، لا يعرفون بعضهم، ومنهم لم يطأ أرض الجنوب. تلاقت إرادتهم القوية عند النقطة الصعبة في الوطن، وتلاقت كرامتهم الوطنية على تحدي العدو الصهيوني وعلى مقاومته باللحم الحي دفاعاً عن أرضهم، وتلاقت قبضاتهم على الفعل المدني المقاوم ليحققوا المستحيل في لحظة ثورية تاريخية غيّر فيه الشباب اللبناني وجه ومضمون الحدث في بلدة "أرنون" والوطن والعالم..
ثلاث ساعات كانت كافية للإعلان عن إنتهاء رحلة الذهاب والوصول إلى مشارف البلدة. بعد تدقيق ومجادلة مع آخر حاجز للجيش اللبناني قبل أن تصبح القافلة الكبيرة تحت مرمى نيران العدو الصهيوني من قلعة الشقيف.. تحذيرات قائد حاجز الجيش اللبناني وإن لم تقنع القيمين على المسيرة من متابعة المهمة على خطورتها، إلا أن تلك المحاذير على صحتها وضعتهم أمام مسؤوليات أكبر، بدأت وتيرتها بالإرتفاع أكثر فأكثر عند أول الطريق المطل على بلدة أرنون.. الحافلات باتت مكشوفة، والطريق ضيقة جداً، والاحتياط من وجود ألغام مزروعة من قبل العدوعلى جانبي الطريق واجب لسلامة كل زهرة من باقة زهور المشاركات والمشاركين في رحلة ملحمة التحرير.
توقفت الحافلات عند الخط الأحمرعلى بعد عشرات الأمتار من الشريط الشائك، وانتظم الشباب في صفوف داخل الطريق الاسفلتي، يتقدمهم العلم اللبناني. كان الوطن ينبض فيهم، وكانت الأرض تضحك لهم، وكانت السماء تهتف معهم، إلى الأمام بخطى ثابتة، وقبضات عارية مرفوعة، وحناجر رعدية قوية أرعبت العدو الصهيوني الرابط في قلعة الشقيف وأطلق جنوده زخات رصاصاتهم فوق رؤوس المنظاهرين ترهيباً وتخويفاً لتفريق التظاهرة وإبعادها عن هدفها، لكن سلاح الإرادة كان أقوى من سلاح العدو، وسلاح العزيمة والتقدم كان أفعل من سلاح الخوف والتراجع.. كان يفصل تظاهرة شباب لبنان عن الشريط الصهيوني المصطنع مسافة الرئة من القلب حيث يرابض العشرات من شباب وأهالي أرنون وزوطر ويحمر وكفررمان والنبطية.. وغيرها. هي لحظات وطنية وثورية اجتاحت كل المحظورات، وتخطت كل الألغام الصهيونية الوهمية، اقتلع فيها الشباب بأيديهم الشريط الشائك على طول المدخل الشمالي لبلدة أرنون، وداسوا على اللوحات الصفراء المكتوب عليها باللغتين العبرية والعربية " احذر ألغام"، واقتحموا السواتر الترابية.. وحققوا المستحيل في تحرير أرنون من رجس الاحتلال الصهيوني، لتكبر المقاومة الوطنية بجناحها المدني المقاوم، وليرسم شباب وطلبة لبنان صورة لبنان الوطني الديمقراطي المقاوم عند الساعة الواحدة والثلث من بعد ظهر الجمعة 26 شباط 1999، لحظة صناعة ملحمة تحرير أرنون.
سقت دموع الفرح تراب أرض أرنون، واختلطت رائحة الطين بعبق شتلة التبغ. حملت الطيور خبر التحرير وطارت إلى القرى الجنوبية المحتلة، وإلى فلسطين. وغصت أرنون الوطن بالوافدين من كل الوطن، وأولهم سماحة الشيخ عبد الحسين صادق على رأس تظاهرة من أهالي النبطية والجوار كان قد دعا اليها قبل يومين لذات هدف نداء "اتحاد الشباب الديمقراطي"، وتحول العالم إلى أرنون.
الوفد الشبابي اللبناني الذي لبى دعوة رئيس الجمهورية المواكب لتفاصيل الحدث في أرنون العماد أميل لحود في الثالث من آذار 1999، للقاء معهم داخل قاعة في القصر الجمهوري زينتها صورة كبيرة لشباب من داخل القاعة وهم يقتلعون الشريط الشائك في أرنون، لم يتفاخر الوفد ببطولاته، ولم يحتكر أي طرف حصرية التمثيل الحزبي أو الفئوي أو الطائفي.. كان الوفد يضم أطيافاً سياسية ومستقلة مختلفة، و كان الشباب أكثر وعياً وإدراكاً ومسؤولية وطنية من حكامه وما زالوا لحد اليوم .. كان الوفد يمثل آمال حقوق الشباب المأسورة طائفياً، وأحلام الشعب في بناء الوطن الديمقراطي المستقل والمحرر..
لقد تحرر الوطن بدماء شبابه بعد ربع قرن من مقاومة العدو الصهيوني عام 2000، لكن نظام هذا الوطن المحرر يقيده بالأسلاك الطائفية والمذهبية البغيضة. لقد إقتلع شباب الوطن في أرنون الشريط الشائك، لكنهم لم يستطيعوا لحد الآن إقتلاع الأشرطة الطائفية الشائكة التي ترتفع داخل حدود كل منطقة في هذا الوطن، وآخر بدع تحالف هذا النظام السياسي –الطائفي، الآمن بالتراضي، والفتاوى بالتساوي، والإعلان عن قانون إنتخابي مذهبي (الأرثوذكسي)، مكمل لحفلات تفتيت الوطن وتقويض انتصارات مقاومته.. بمعنى آخر هو إعلان وفاة الوطن.
لقد آن لشباب أرنون- الوطن، أن يبادروا إلى إعلان النداء الوطني الثاني المكمل لنداء التحرير الأول بإقتلاع كل السواتر الطائفية والمذهبية الشائكة داخل الوطن لبناء الساتر الوطني من أجل التغيير الديمقراطي.
تحية إلى كل شباب وطلاب لبنان والى كل من ساهم في صناعة ملحمة تحرير أرنون.