لأمسية التكريمية التي أقامها «المعهد العالي للموسيقى» في «قصر الأونيسكو» الأسبوع الماضي كانت ترويضاً لأغنية الفنان اللبناني. تجربة خليفة حققت حضورها الاستثنائي بخروجها من المكاتب إلى الأزقة الممزوجة بروائح الناس العاديين وروائح البارود خلال الحرب الأهلية
عبيدو باشا - الاخبار
لم تسهم الأمسية التكريمية لمرسيل خليفة من «المعهد العالي للموسيقى» في إدخاله إلى الجنة. على العكس. الأمسية هي الأقل متانة في تجربة خليفة، لا على مستوى الأداء فقط، بل أيضاً على صعيد المنهج والمنهجية. الأخيرة أساس. الأرجح أنّ خليفة انتبه إلى ذلك، بيد أنه تخطّى كافة الاعتبارات، معتبراً أن الحفلة ستؤدي الغرض المرتجى منها، أي تكريم الموسيقي المتمرد على سياسة المعهد في السبعينيات، بأدوات والآت المعهد ذي الماضي الغابر، بذكرياته المتناقضة. لم أفهم تماماً ما قصده خليفة، إذ قال بعد الحفلة إنّ الأخيرة حفلة إعادة اعتبار!
تأهب سابق إذن، للقاء أبناء السلالة والأحفاد ــ للمرة الأولى بعد غياب طويل ــ بالأحلام، ثم باللقاء على أرض الواقع. تصفية حسابات قديمة. لا مبالغة في ذلك، لأنّ الموسيقي اللبناني، الذي كتب ملحمته الخاصة في الخارج العربي والدولي، لم يرضَ أن تنقص الملحمة أجزاء مهمة، كتحويل علاقته الرخامية بالمؤسسة الموسيقية الوطنية إلى علاقة برونزية. هكذا اقتاد خليفة مريضه إلى غرفة الفحص الخافتة الإضاءة، المرسومة بكراسيه الجلدية وآرائكه، بحرارة توازي الدرجات الطبيعية في جسم الإنسان. لم يخلع خليفة ثيابه في تدخله في كتابة البرنامج الموسيقي والغنائي. بذلك، كرّم نفسه بتكريم المعهد له وبتفصيل البرنامج، لا على قياساته، بل بتفصيله على هواه. ذلك أن القياسات والموازير هي قياسات وموازير تجربة خليفة، لا تجربة «المعهد الوطني للموسيقى» وأوركستراه الشرق عربية. ثمة ما يستحق ذلك. شرعت الأبواب أمام خليفة للتدخل في كافة التفاصيل، بحجة الترحيب بالعودة بعد طول انقطاع. غير أن الأمر المؤكد، تأكد في الخطأ المنهجي بإدخال أغنية خليفة في معابر الروح المضادة للأغنية والموسيقى الخاصتين بتجربته. تجربة صاحب «وعود من العاصفة» تجربة تمرد على المؤسسة والمأسسة. تجربة حرية. تلك عناصر تميز تجربة خليفة. وتلك العناصر المفقودة في الحفل البلا عنوان، إلا إذا اعتبرنا ما جاء في مطوية الحفلة عنواناً: «الأوركسترا الوطنية اللبنانية للموسيقى الشرق عربية، تغني مرسيل خليفة». خسرت التجربة كل نقوشها في الليلة التاريخية. أبرز الخسائر خسارتها لمداها التعبيري، بوضعها على لوح المكننة العريض. جرت مكننة الأغنية، بإخضاعها لواحدة من صفحات المجلة الآتية لـ«المعهد الوطني للموسيقى». هكذا، وقعت أغنية خليفة على أوراق ارتدادها أو مروقها على ذاتها بعدما ميزها مروقها على المؤسسات الموسيقية بكبرياء وتحدّ. عودة الأغنية إلى المؤسسة ترويض للأغنية، بردها عن تاج قيمتها الأولى إلى أرض اللاقيمة، ليس لأن تجربة المعهد بلا قيمة، بل لأنّ تجربة خليفة حققت أجزاءً من حضورها الاستثنائي بخروجها من المكاتب إلى الأزقة المخططة بروائح الناس العاديين والمخلوطة بروائح البارود في أوان الحرب الأهلية اللبنانية. ارتداء الأغنية الملبس الخاص بالمؤسسة الموسيقية الوطنية لم يسهم في رسم البورتريه الناجز للأغنية، بل قادها إلى الوقوف فوق منصات التشابه، برسم جديد لا يستحق العناء. أغنية ضد المأسسة ترتدي ثياب المؤسسة. قيادة اندريه الحاج للأوركسترا والأغنية والمقطوعات الموسيقية، بدت كقيادة مدير مصرف أكثر من قائد أوركسترا. لم ينتبه إلى تاريخ الأغنية ولا جدواها خارج التاريخ هذا. لا قيمة لها خارج تاريخها، إذ تبدو «بَلاه» بلا والد وبلا عائلة. كابنة متبناة. لا شيء يرفعها، على خلفيتها، إلى فتنتها القديمة، غير الفتنة القديمة المحصلة من أمدائها الطبيعية، بأحجامها الحقيقية، غير المزخرفة بكل ما هو باذخ. حضورها الباذخ في حفلة «قصر الأونيسكو» أبداها أغنية جشعة لا أغنية استحقت عناء حضورها بعدما صدقها الناس والمقاتلون على خطوط التماس والشهداء. ولكي يزيد الطين بلة، أنجز حضور بعض الأغنيات بضربات فرشاة غير محددة. هكذا، غاب معروف سعد عن أغنية «يا بحرية» لمصلحة زخارف التوزيعات الموسيقية الجديدة وهارمونياتها. هكذا، فقد «السرج إسلامي» إسلاميته في أغنية طلال حيدر «ركوة عرب». كل ما هبّ في الحفلة من «نسيم الريح» للحلاج لا من نسيم روح مرسيل خليفة، لأن الأخير مال إلى تفخيم التجربة، لا إلى تحقيقها في عزف أعضاء «المعهد الوطني للموسيقى»، باختيار أغنيات من ريبرتواره لأسماء تزن في كتابة الشعر، سواء غنّى خليفة الشعر أم لم يغنّه. «قالوا مشت»، و«خبئيني أتى القمر» من أدونيس، و«في البال أغنية» و«سلام عليكِ»( كتبت «سلام عليكي» بالمطوية، كما تكتب في الترجمات التلفزيونية السريعة المشوهة اللغة) من محمود درويش، و«الحنة» من سميح القاسم، و«يا نسيم الريح» من الحلاج، و«ركوة عرب» من طلال حيدر، و«يا ساري» من محمد السويدي. غاب كتاب الأغنية، لا الشعر، من نبيل حاوي إلى بطرس روحانا، في حين بدت المختارات في نهاية الحفلة أشبه بالميدلي في برامج المنوعات التلفزيونية، أكثر منها شريطاً يتوقف بالتحية أمام أبرز محطات أغنية مرسيل خليفة. وحدها أغنية «وقلت بكتبلك» انتمت إلى ذاكرة التجربة، من دون أن تفقد الكثير من مهماتها القديمة بصوت أميمة الخليل ذات الحضور المتوتر في تلك الليلة «الثمينة»، على صعيد كشف الأغنية والمقطوعات الموسيقية على غير أهدافها وغاياتها الأصلية. غناء محمد محسن مطب الأغنية الأشرس. اكتشف خليفة الصوت في بيروت. وجد في الصوت المصري برعماً، غير أن ما فاته أن الشخصية الصوتية تبقى ناقصة إذا نأت عن حساسية الأغنية. لم تتوطد علاقة الصوت بالأغنية، لأنه بقي خارجها، خارج كوداتها، خارج قاموس غنائها، بعيداً من أوراقها الوارفة على شجرة الحرب الأهلية اللبنانية. أضحت الأغنية جرة خزفية بعدما حشدت نفسها بحيويات الناس وحيواتهم وأمزجتهم وتوتراتهم العصبية وظروفهم. فقدت قواها من جراء ذلك، على متن الصوت البعيد، من خمرة تجربة الأغنية السياسية، واحدة من ميزات الحياة الثقافية في لبنان، واحدة من ضحايا السلم اللبناني المزغول بالحميات المختلفة. أغنية البدلة العسكرية، أداها لابس «الفراك». لا بأس. بيد أن البون بين الصوت وبين الأغنية راح يجأر منادياً على بضاعته، لأن البضاعة بضاعة طبقة اجتماعية، نقلتها الحفلة إلى طبقة أخرى. صراع طبقات في أغنية الطبقات الدنيا. هكذا، توضحت المعركة الأكثر حدة، بين المراتب. وجدت الأغنية نفسها في مرتبة اجتماعية خائنة لمرتبتها الاجتماعية الأساسية. لم تلتفت لتلمح تقشر طلاءاتها الأصلية، وهي تطلى بغناء مجموعة كورال «جامعة سيدة اللويزة». لن تكيل الأغنية الماء على نفسها فوق حوض حمام متخيل، كي تغتسل بماء يئزّ كالرصاص. دخلت الأغنية في الطابور إثر حفرها كوتها الخاصة. كأنها تنزلق عن أبراج الفضول والبحث والاكتشاف، طائرة إلى أبراج الملل. بشروط كهذه، لا بد من حجز لسماع الأغنية في مكانين: الأول في الفلوات، والآخر في غرف الفنادق الفخمة. ما عادت شبيهة برايات جيوش الشيطان. ما عادت تجول في الأنحاء حتى تحتفل بالتفاصيل والأيام والناس. لا بأس ببعض الكوارث المرتقبة: أغنية عارية من وسطها، تقودها يدان تكدسان الأغنية في حقائب من جلد فاخر. دخول خاطئ. أصوات بلا أجراس. طقطقات بلا شرر. آخر هموم كتّاب التاريخ، وهم يرصدون الأغنية بزخارفها لا بمتونها. وهم يرون قطارها يغادر بلا ركابه الحقيقيين، وعلى الرصيف وزير ثقافة، بيده درع تكريم، لا علاقة لها بدروع الفرسان، بصوت يشبه أصوات الواصلين للتو إلى ردهات الفنادق، بعد سفر بقميص رمادي. هذه الطريقة هي الطريقة الوحيدة لانتزاع سلطة الأغنية من أيدي أصحابها، من دون توجيه اللعنات إليها. أعجز عن تصديق التحالف بين المجموعات الطيعة ذات السلوك الكاثوليكي في الثقافة والمجموعات المتميزة في طروحات تقويض النظام، بحجج لا تفسر إلا تحت تفسير العرافين والعرافات لوقوع أفلاك النجوم، تحت تأثير الأفلام البلدية. شيء أقرب إلى قياس المسافة بين وعي البروليتاريا، الطبقة الثورية الوحيدة، والصراخ على المنابر البرلمانية. * كاتب ومسرحي لبناني