هاني المصري - السفير
شهدت 9 الأشهر الأخيرة تطورات نوعيّة على صعيد مقاطعة إسرائيل، لدرجة دفعت وزير الخارجيّة الأميركي، صديق إسرائيل والمعارض للمقاطعة، إلى تحذيرها مرتين حتى الآن من اشتداد المقاطعة، الأمر الذي قد يؤدي إلى عزلتها. لقد بدأت الحكومة الإسرائيليّة تأخذ حملة المقاطعة المتزايدة على محمل الجد، خصوصًا بعد القرار الأوروبي بمقاطعة بضائع المستوطنات، مع العلم أن أوروبا تستورد 32 في المئة من الصادرات الإسرائيليّة. وتوقع بعض الخبراء أن تصل خسارة إسرائيل من المقاطعة 8 مليارات دولار سنويًا. الحكومة الإسرائيليّة وأنصارها في الولايات المتحدة بدأوا بسلسلة أعمال لإفشال المقاطعة، منها تخصيص موازنة لشن حملة مضادة، والاستعداد لإصدار قوانين، خصوصًا في أميركا، تحرّم المقاطعة، وتهدد بمقاطعة أميركيّة للمقاطعين. إذا كانت المقاطعة قد حققت هذه الإنجازات المهمة في ظل استمرار وهم ما يسمى "عمليّة السلام" وجهود كيري للتوصل إلى اتفاق سلام، أو الأصح "اتفاق إطار" للتفاوض عليه لاحقًا، حتى يمكن التوصل إلى اتفاق سلام بعد سنوات؛ فما الذي يمكن تحقيقه على صعيد المقاطعة إذا انهارت المفاوضات، وثبت للعالم أجمع أن إسرائيل معادية للسلام، وهي نظام استعماري احتلالي استيطاني إجلائي عنصري. قد يقول قائل: إن القرار الأوروبي هو الذي ساهم في حصول الخطوات النوعيّة في المقاطعة، وهو وثيق الارتباط بالمساعي المبذولة للتوصل إلى اتفاق سلام، بدليل أن الاتحاد الاوروبي ربط بين إصدار قراره بشأن الاستيطان وبين موافقة الفلسطينيين على استئناف المفاوضات، ما يعكس قناعة أوروبيّة بأن السلام لن يتحقق من دون الضغط على إسرائيل، حتى يحدث نوعًا ما من التوازن ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فلا حاجة للتوصل إلى "تسوية" إذا كانت إسرائيل قويّة جدًا وفلسطين ضعيفة جدًا. تأسيسًا على ما سبق، لا بد من إنهاء دوامة المفاوضات التي توحي للعالم بوجود إمكانيّة للحل، وللمساومة والتسوية، في حين أن هذه الإمكانيّة متعذرة بسبب التعنت والتطرف الإسرائيلي، واختلال ميزان القوى لمصلحة إسرائيل. من الضروري أن يكون واضحًا للجميع أن الحكومة الإسرائيليّة هي التي تتحمل المسؤوليّة الكاملة عن الفشل، مثلما تحملت الحكومات الإسرائيليّة السابقة المسؤوليّة عن فشل كل الجهود والمبادرات السابقة منذ طرح "مبادرة روجرز" بعيد حرب 1967 وحتى الآن، ولذلك لا مبرر من الإغراق أكثر مما ينبغي بلعبة إلقاء اللوم المتبادل، التي يجب ألا تقود إلى الوقوع بالمحذور والتنازل عن المطالب والمصالح والحقوق الفلسطينيّة، على أساس إنقاذ ما يمكن إنقاذه والحصول على شيء أفضل من لا شيء. يمكن للقيادة الفلسطينيّة أن تعلن بكل بساطة أنها تريد عمليّة سلام ومفاوضات لها مصداقيّة، وهذا لا يكون من دون أن تلتزم إسرائيل بمرجعيّة واضحة وملزمة تستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. لا يمكن لمفاوضات من دون مرجعيّة، وبرعاية أميركيّة فقط وبعيدة عن الرعاية الدوليّة، وبلا وقف للعدوان والاستيطان؛ أن تقود إلى سلام، بل ما يمكن أن تصل إليه: إما مفاوضات من أجل المفاوضات؛ أو اتفاق انتقالي أو نهائي مجحف بحقوق الفلسطينيين، كما حصل سابقًا، وكما يحاول كيري أن يفعل حاليًا؛ أو إلى انهيار المفاوضات ووقوع مجابهة فلسطينيّة إسرائيليّة. لقد جربت القيادة الفلسطينيّة الفصل بين إقامة دولة وحق العودة أو المقايضة بين الحقين، ولم تحصل على الدولة، وأضعفت موقفها من قضيّة اللاجئين التي تعتبر أساس وجوهر القضيّة الفلسطينيّة؛ ولم تحصد سوى الريح. لقد أصبح المطروح علينا تصفية لقضيّة اللاجئين، وتقسيم القدس الشرقيّة والضفة الغربيّة بين إسرائيل وبين كيان فلسطيني يمكن أن يسمّى "دولة"، وهو في الحقيقة حكم ذاتي. إن المقاطعة أحد أهم الإستراتيجيات التي يمكن أن يستند إليها النضال الفلسطيني، ولكنها حتى تعطي ثمارها كاملة يجب وقف مهزلة ما يسمى "عمليّة السلام"، حتى يدرك العالم كله أنه لا يمكن تحقيق الأمن والسلام في المنطقة من دون الضغط على إسرائيل ضغطًا حقيقيًا متزايدًا، بحيث تدرك أن النظام الاستعماري الاحتلالي الاستيطاني العنصري لا يمكن أن يستمر، وأن من شأن استمراره تقويض وجود إسرائيل نفسها لا احتلالها فقط. في هذا السياق لا يمكن الجمع ما بين استمرار الالتزامات السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة المترتبة على "اتفاق أوسلو" - والمتضمنة الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود بأمن وسلام - وشن حملة مقاطعة شاملة يمكن أن تصل إلى فرض العقوبات على إسرائيل وفرض العزلة عليها. كما لا يمكن الفصل بين الاحتلال وبين المحتل، أي بين إسرائيل واحتلالها، فلا شرعيّة لإسرائيل ما دامت محتلة واستعماريّة وعنصريّة واستيطانيّة. إن إسرائيل لن تتراجع عن احتلالها، فضلا عن نظامها الاستعماري، إذا لم تجد وجودها كله مهددًا من خلال مقاطعة شاملة لها، وليس لاحتلالها فقط، فكما قال المفكر الإسرائيلي اليساري زئيف شترنهل: لا يمكن معانقة المحتل ومقاومة الاحتلال. مسألة أخرى بحاجة إلى توقف، وهي: لماذا نجد أن المقاطعة قويّة نسبيًا في أوروبا، وبدرجة أقل في أميركا، وضعيفة في بقيّة أنحاء العالم، بما في ذلك في الدول العربيّة التي من المفترض أن تكون فيها المقاطعة في ذروتها، بسبب مكانة القضيّة الفلسطينيّة لدى الشعوب العربيّة، والروابط التي تجمع ما بينها وبين الفلسطينيين، والأهم بسبب أن إسرائيل لم تقم لحل مشكلة اليهود، وإنما كانت رأس الحربة لمشروع استعماري يستهدف إبقاء المنطقة العربيّة في إطار من التبعيّة والتخلف والتجزئة؛ حتى يمكن السيطرة على موقعها الإستراتيجي ومواردها الطبيعيّة وأسواقها؟ في هذا السياق فقط يمكن تفسير: لماذا شاركت إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956؟ ولماذا شنت حرب 1967 واحتلت بقيّة فلسطين وسيناء والAffinityCMSن؟ ولماذا شنت العدوان على لبنان واحتلال مساحات واسعة منه إلى أن تمكنت المقاومة اللبنانيّة من طردها في العام 2000؟ ولماذا شنت الغارة على المفاعل النووي العراقي في العام 1981، والغارات التي لا تنتهي على مواقع عسكريّة سوريّة حتى هذه اللحظة؟ إن الذي يمكن أن يفسر لماذا المقاطعة قويّة في مناطق وضعيفة في أخرى هو: أولا وأساسًا أن الدول التي تنعم فيها الشعوب بالديموقراطيّة ولو على النمط الغربي نجد أن المقاطعة قويّة فيها، والعكس صحيح كذلك، ولهذا ليس صحيحًا أن أوروبا اتخذت قرارها ضد الاستيطان من أجل تشجيع الفلسطينيين على استئناف المفاوضات والضغط الناعم على إسرائيل لدفعها لإنجاح جهود كيري فقط، وإنما هناك عامل لا يقل أهميّة، وربما يزيد، وهو أن الرأي العام في هذه البلدان ضاق ذرعًا بإسرائيل، وأخذ يضغط على حكوماته لمقاطعتها. لا أبالغ في القول إن مقاطعة إسرائيل اقتصاديًّا وعلى كل المستويات والأصعدة، بما في ذلك مقاطعة الاستيطان قد تراجعت عما كانت عليه في سنوات سابقة، وهذا بحاجة إلى حديث آخر.