جورج قرم (وزير المال السابق)، نجيب عيسى، ايلي يشوعي، وغالب ابو مصلح. اربعة خبراء سألتهم «الأخبار» عمّا يمكن للحكومة الجديدة ان تفعله للناس والاقتصاد؟الاجوبة ليست مفاجئة، فهم لا يتوقعون منها عملا مهمّا، نظرا إلى مدّتها القصيرة وغلبة الاولويات الامنية على ما عداها في تفكير السياسيين... الا انهم يظنون ان الحكومة إذا توافرت النية يمكنها تحريك بعض الملفات: الموازنة وسلسلة الرواتب في مقدمها
فراس أبو مصلح - الاخبار
تطغى الهواجس الأمنية والاعتبارات السياسية على كل ما عداها في ردود فعل الرأي العام على التشكيلة الحكومية الجديدة، ففيما يفرض مسلسل الإرهاب نفسه على يوميات الناس، ويجري استثماره يومياً وبإصرار في تعميق الانقسام وتصعيد التوتر الاجتماعي ـــ السياسي، يضيق هامش المطالبة الشعبية بالحق في حكومة ترعى المصالح الحياتية لعموم المواطنين،
فتنتشلهم من البطالة وتؤمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم، وتضع حداً للتردي الخطير للإدارات والخدمات العامة، فتجنبهم الهجرة، أو قل التهجير القسري، وتتيح أمامهم خيارات تغنيهم عن الالتحاق بموجة التطرف والارتزاق لدى تجار الحروب والأزمات. قد يكون التوصيف الأفضل لهذه الحكومة أنها حكومة إدارة الأزمة السياسية ـــ الأمنية للبلاد، لا أكثر، ولا سيما أن عمرها الافتراضي قصير، ولا يتعدى الأشهر الثلاثة، إذا انتًخب رئيس جديد للجمهورية في الموعد الدستوري المحدد في شهر أيار المقبل، وإذا صمدت «التوازنات الهشة» التي أنتجت الحكومة، والتي «يمكن أن تنفرط في أي لحظة»، على حد قول الخبير الاقتصادي نجيب عيسى. أقصى ما تستطيع هذه الحكومة فعله خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، هو خلق «مناخات عامة إيجابية» للنشاط الاقتصادي وللسياحة، إن استقر الوضع الأمني، والعمل مع المجلس النيابي لإقرار تعديلات سلسلة الرتب والرواتب، وإجازة توقيع عقود التنقيب عن النفط، «إن جرى التوافق على ذلك»، في ظل الأوضاع السياسية والأمنية «المتغيرة من يوم إلى آخر»، مع التنبيه إلى ضرورة «الحذر من المصالح الخاصة» في مسألة عقود النفط، إضافة إلى إمكان إنجاز مسائل أخرى لا تخرج عن إطار «الجزئية والتفصيلية»، يقول عيسى، مؤكداً أنه لا إمكان لحل «المشاكل البنيوية، التي ستظل حاضرة». يوافق الخبير الاقتصادي جورج قرم على القول إنه لا يمكن توقع أي إنجاز حقيقي لهذه الحكومة في ظل مدة ولايتها المفترضة القصيرة، على الرغم من الحاجة الملحة إلى رزمة من الإجراءات السريعة، كـ«الحد من الفوضى في سوق العمل»، ودفع المتأخرات المستحقة على الدولة لمصلحة المتعاقدين والمستشفيات، على سبيل المثال، و«حل قضية المياومين» العاملين لدى شركات «مقدمي الخدمات» في قطاع الكهرباء، والإسراع بإقرار المساعدات للعائلات الأكثر فقراً عبر وزارة الشؤون الاجتماعية، و«المساعدة الجدية للاجئين» السوريين، وإقرار مشاريع للتنمية الزراعية توفر فرص العمل. يشير قرم إلى إعلان المدير العام لوزارة المالية إنجاز الحسابات الخاصة بالخزينة، ما يفترض تسيير دورة إقرار الموازنة، بالتعاون بين الوزراء والمجلس النيابي، بعد تجميد مواد الدستور الخاصة بمناقشة الموازنة وإقرارها، وتقديم قطع حساب الموازنة إلى مجلس النواب، علماً أن هذه الموجبات الدستورية مجمدة منذ عام 2005. غير أن قرم يستدرك ويقول إن أموراً كهذه «بعيدة عن تفكير الساسة اللبنانيين» في الأساس. لا يمكن الحديث عن فعالية حقيقية لحكومة لديها فرصة للحكم تقل عن سنتين كحد أدنى، يقول الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، مشيراً إلى أن تجربة الحكومة السابقة، وعمرها حوالى ثلاث سنوات، كانت «أقل من متواضعة»، لكن هل تكمن مشكلة الحكومة هذه، أو مشكلة أي حكومة أخرى ستؤلّفها القوى الاجتماعية ـــ السياسية نفسها، في غياب الاستقرار الأمني والسياسي؟ أم في مصالح وارتباطات وتوجهات الفئات المهيمنة على الحكم تاريخياً في لبنان؟ جاء تأليف الحكومة الجديدة بعد عشرة أشهر من التأخير، منذ تسمية الرئيس المكلف، ليعكس تسوية ما أو خفوتا في حدة الخصومة بين الدول المتصارعة إقليمياً ودولياً، وارتهان القوى السياسية المحلية للأخيرة، يقول يشوعي. «رمزية الحكومة الجديدة أهم من فعاليتها»، يتابع يشوعي، قائلاً إن الغرض من تأليفها تأكيد وجود «شبه الدولة» القائمة، لا أكثر. لا تختلف الحكومة الجديدة عن نموذج «الحكومات ضد اللبنانيين»، يقول يشوعي، فهي حكومة «أكثر من تقليدية بطريقة تأليفها، وعنوانها المحاصصة»، التي تعني استبعاد الكفاءات، «فالكفؤ لا يمكن أن يكون ذراعاً تنفذ دون تفكير». «المحاصصة عدوة الكفاءة، ولا يمكن أن نبني دولة بهذه الذهنية وهذه المقاربة». هل نحن عاجزون عن جلب الكفاءات التي تخدم المجتمع والاقتصاد، وهل يعقل أن يكون في الحكومة «نصف اقتصادي» فقط، يسأل يشوعي، مؤكداً أن الخبراء المصرفيين هم غالباً تقنيون لا يملكون الرؤية الاقتصادية الشاملة. يستهجن يشوعي كذلك الخفة في تنقل الوزراء بين حقائب وزارية تختلف تمام الاختلاف فيما بينها من حيث الاختصاص، كالانتقال من مسؤولية حقيبة الصحة إلى المالية، أو من حقيبة الطاقة إلى الخارجية. هناك «احتقار للاختصاص»، فالمعيار الأهم في نظام تناتش الحصص هو الولاء، لا المقدرة على إدارة مرفق عام أو تأدية خدمة عامة، يقول يشوعي، فيما بعض الوزارات، كوزارات المال والاقتصاد والصناعة، «لا تحتمل سياسيين» من غير أصحاب الاختصاص والكفاءة. لا يمكن هذه الحكومة أن تعالج المشاكل الاجتماعية الاقتصادية الأساسية، لأن «مصالح الطبقة الحاكمة تتناقض مع مصالح الأكثرية الساحقة من الناس»، يقول الخبير الاقتصادي غالب أبو مصلح. «لبنان بأمس الحاجة إلى تغيير كبير وعميق»، والتغيير يبدأ بإسقاط سلطة الطبقة الحاكمة، طبقة التجار والمصرفيين والريعيين، الذين ليسوا في وارد حل مشكلة البطالة أساساً، يتابع أبو مصلح، فالقطاعات القادرة على خلق فرص عمل وافرة هي قطاعات الإنتاج السلعي، أي قطاعي الزراعة والصناعة تحديداً، وتنمية هذه القطاعات تتعارض تماماً مع مصالح أرباب السلطة. تمثل الحكومة اللبنانية تاريخياً طبقة التجار والمصرفيين، وقد جرى بناء سلطة هذه الطبقة منذ عهد المتصرفية عام 1861، حيث حكم هؤلاء بإشراف القناصل الأوروبيين، يقول أبو مصلح. كانت بيروت وما زالت ركيزة النظام، مع تخصصها في تقديم الخدمات غير السلعية، كالتجارة والخدمات المصرفية والتعليم والاستشفاء، للداخل العربي، انسجاماً مع دور النظام اللبناني كـ«قاعدة غربية للقفز إلى الداخل العربي». استمر هذا الدور الاقتصادي للبنان حتى منتصف القرن العشرين، أي حتى تطور المحيط العربي اقتصادياً واستغنى عن هذه الخدمات. حاولت الحريرية، ممثلة الطبقة الحاكمة، تجديد هذا الدور الاقتصادي، وفشلت، إذ كانت خططها لمرحلة تاريخية انقضت. يقدم أبو مصلح هذا العرض التاريخي ليبيّن أن حكام لبنان القدامى ـــ الجدد غير مبالين بمصالح الغالبية الشعبية، لارتباطهم السياسي والاقتصادي بالخارج، فينتهجون سياسات تعزز مصالحهم في قطاعات الخدمات والريوع، وعلى حساب قطاعات الإنتاج السلعي، غير مبالين بالإفقار والتهجير الناتجين عن هذه السياسات. ما زال التجار والمصرفيون يحكمون لبنان كما كانوا يفعلون عام 1861، والحكومة التي تألفت نتيجة مساومات خارجية ما زالت تعبر عن سلطة هؤلاء ومصالحهم، وهي «غير معنية بمصالح الناس»، وما زالت «تجتر الخطط الاقتصادية التي ثبت فشلها»، يقول أبو مصلح، برغم تكريس عضوية فريق سياسي جديد في النادي الحاكم.