في السابع عشر من شباط العام 2008، تظاهر أكثر من عشرة آلاف عامل من شركة غزل المحلة في دلتا مصر من أجل المطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور. كانت تلك المرة الأولى في تاريخ الحركة العمالية المصرية التي يرفع فيها احتجاج عمالي مطلباً قومياً يخص كل العمال المصريين، لا مطلباً خاصاً بعمال منشأة واحدة. في كانون الثاني الماضي، تجاهلت حكومة حازم الببلاوي نضال عمّال المحلة، فادرجتهم من ضمن الفئات المستثناة من قرار تطبيق الحد الأدنى للأجور، في مفارقة، ليست حديثة في مصر على أي حال. لذلك، كان من البديهي أن يضع عمال المحلة، البالغ عددهم أكثر من 17 ألف عامل، مطلب تطبيق الحدين الأدنى والأقصى للأجور على رأس مطالبهم في إضرابهم الجديد، الذي انطلق امس. ويأتي لجوء عمال شركة غزل المحلة إلى الإضراب غداة فشل نقابتهم في استصدار قرار من الشركة القابضة للغزل والنسيج بصرف أجر شهرين مؤجلين يستحقهم العمال كمكافأة سنوية عن العام 2013. وبالإضافة إلى مطلبي تطبيق الحد الأدنى والأقصى للأجور وصرف الشهرين المستحقين، يطالب العمال بإقالة رئيس الشركة وتشكيل مجلس إدارة يمثل العمال فيه بالنسبة المقررة قانوناً بالانتخاب، وضخ استثمارات في الشركة لإنقاذها من الانهيار الناجم عن الإهمال المزمن. اللافت أنه بعد بدء الإضراب بساعات، أعلن مسؤولون حكوميون انه تم اقرار مطلب صرف أجر الشهرين الذي تسبب تأخره في الإضراب، ولكن العمال رفضوا إنهاء الإضراب مصرين على تنفيذ المطالب كافة التي رفعوها. وفي هذا الإطار، يقول وائل حبيب القيادي العمالي في الشركة، وأحد مؤسسي النقابة المستقلة بها: "منذ العام 2006 ونحن ننظم إضرابات متتالية للمطالبة بحقوقنا وتحسين أوضاعنا. تغيرت أنظمة وحكومات وانفجرت ثورات. وكل ما نحصل عليه في كل إضراب مجرد مسكنات مع الكثير من الوعود الرسمية التي لا تنفذ. هذه المرة يجب أن تتم الاستجابة لمطالبنا. ننتظر قرارات حقيقية يتم تنفيذها لا وعودا يتم تجاهلها في ما بعد". النقابة الرسمية التي ذهبت لاستصدار قرار من الشركة القابضة بصرف الشهرين لم يظهر أي منها في الإضراب، وهو أمر معتاد. فجميع الاحتجاجات التي نظمها عمال الشركة لم تكن تحت قيادة النقابة الرسمية، بل إن بعض التحركات الاحتجاجية وقفت ضدها النقابة الرسمية بشدة وحاولت منعها، ما دفع العمال للاتجاه لتأسيس نقابة مستقلة عن التنظيم النقابي الرسمي. ويقول كمال الفيومي، وهو أحد مؤسسي النقابة المستقلة، إن "عمال شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة يشعرون بالخطر الحقيقي على مستقبلهم ومستقبل الشركة، والمماطلة في تنفيذ المطالب تزيد من الإحساس بالخطر". ويتساءل: "لماذا لا يتم ضخ استثمارات في الشركة لتطويرها؟ لماذا الإصرار على بقاء المفوض العام للشركة وعدم تشكيل مجلس إدارة يمثل فيه العمال كما ينص القانون؟ ما الذي تخفيه الإدارة ولا تريد أن يطلع عليه العمال؟". ويضيف: "لقد أضربنا مرات عدّة لتغيير هذه الأوضاع، لكن الوضع ما زال على حاله، ونحن سنستمر في استخدام حقنا في الإضراب حتى تتم الاستجابة لمطالبنا"، مشدداً على أن "صرف أجر شهرين لا يكفي لكي يشعر العمال بالأمان". وفي ظل انشغال الرأي العام والنخب السياسية في مصر بقضايا الدستور والانتخابات الرئاسية ومختلف القضايا السياسية الكبرى، ثمة تفاعل آخر يتم على أرض الواقع قد لا ينتبه إليه الكثيرون، فليس إضراب عمال المحلة هو الوحيد - بالرغم من انه الأكبر والأهم - فعمال شركتي "طنطا للكتان" و"غزل شبين" يعتصمون منذ مدّة في مقر اتحاد العمال في القاهرة مطالبين بعودة الشركتين اللتين تمت خصخصتهما في عهد حسني مبارك إلى إدارة الدولة وتشغيلهما كما حكم القضاء. كذلك فإن عمال شركة الحفر في محافظات عدة خاضوا معركة صعبة من أجل مستحقاتهم. وثمة إضرابات أخرى كثيرة تتم بشكل يومي بالرغم من تشديد القبضة الأمنية تحت دعوى "الحرب على الإرهاب"، وبالرغم من وضع قوانين متشددة للتظاهر والتجمع والامتناع عن العمل. كل ذلك، يندرج ضمن رسالة مهمة يوجهها عمّال مصر إلى من يعنيهم الأمر، وهي رسالة لا يمكن فهمها إلا إذا وضعت في سياقها التاريخي: في كانون الأول العام 2006، أضرب عمال غزل المحلة، وكان مطلبهم أيضا صرف شهري المكافأة السنوية. وها هم بعد أكثر من ست سنوات يعلنون الإضراب للمطلب ذاته. ولكن ما جرى بين الإضرابين يستحق إعادة النظر في طريقة التعامل مع الحركة العمالية، إذ يدرك الجميع أن إضراب عمال المحلة في العام 2006 كان الشرارة التي أطلقت آلاف الإضرابات العمالية في أنحاء مصر. وعندما عاد عمال المحلة إلى الإضراب في ايلول 2007 كان تحرّكهم، الذي استمر أسبوعاً كاملاً، بمثابة تحول مهم في الحركة العمالية على المستوى النوعي - لا الكمي فقط – اذ كان الإضراب الذي انطلقت بعده حركة استقلال النقابات. وفي شباط العام 2008 كانت تظاهرة الحد الأدنى للأجور التي نظمها عمّال غزل المحلة بداية حقيقية لوضع هذا المطلب على رأس مطالب العمال في كل الاحتجاجات العمالية. ولم يقتصر تأثير حركة عمال المحلة في الأوضاع العمالية فقط، إذ برز التأثير السياسي لعمال غزل المحلة بقوة في "انتفاضة 6 ابريل" في العام 2008، التي كانت بمثابة الإنذار الأول لنظام مبارك قبل "ثورة 25 يناير". الرسالة لم يفهمها جيدا نظام مبارك في حينها... ولا يبدو من التجاهل الإعلامي والرسمي للاحتجاجات العمالية الحالية أن ثمة من يفهمها اليوم.